محمّد علي مقلّد/التشبيح الدستوري

222

 التشبيح الدستوري
محمّد علي مقلّد/المدن/09 أيار/15

التشبيح، لغةً بحسب قاموس لسان العرب، من الشبح ، بتسكين الباء، ومعناه ربط الشخص بين الأوتاد أو صلبه وشدّه تحضيرا لعقوبة الجلد. فهل من علاقة بين التشبيح والدستور وهل يمكن أن يكون التشبيح دستورياً أو أن يوجد دستور مبني على التشبيح؟

من شريعة الغاب إلى شريعة حمورابي إلى مدينة أفلاطون الفاضلة إلى القوانين الرومانية إلى حكم الكنيسة وخليفة الله والملك والأمبراطور والأمير والسلطان إلى الجمهوريات والدساتير الحديثة طريق طويل قطعته البشرية كانت تسعى خلاله إلى وضع الضوابط بحثا عن سبل  لتخفيف منسوب الاستبداد ولتجفيف منابعه ، أي بحثا عن الحرية وعن المساواة. لم يتحقق ذلك إلا بقوة القانون.

الدول والأوطان التي بلغت مرحلة الدستور تدين بالفضل في ذلك للاستعمار. من الهند واليابان في اقصى الشرق إلى أنكلترا الجديدة، في أقصى الغرب، وهو الاسم القديم للولايات المتحدة الأميركية، مرورا ببعض بلدان العالم العربي كلبنان ومصر وتونس.

الدول والأوطان التي لا تزال أنظمتها تنأى بنفسها عن القوانين الوضعية وتعقيدات الدساتير واجتهادات الفقهاء، لها فلسفاتها التي تبرر، عن حق أو عن غير حق، عدم نضج الظروف فيها للديمقراطية وتداول السلطة.

أما الأنظمة الدستورية فقد تُمنى بنوعين من البلوى، فإما أن تعلّق فيها الدساتير وتعلن الأحكام العرفية وتطبق قوانين الطوارئ، بتبريرات شتى، كوجود خطر خارجي داهم حقيقي أو مزعوم، وهذه كانت حال الجمهوريات الوراثية التي انفجرت فيها أحداث الربيع العربي، وإما أن يحكم الحاكم باسم الدستور، ولكن بما يخالف أحكام الدستور، ويتلقى الشعب فعل الشبح (التشبيح بلغتنا السائدة)، وهذا لعمري أرذل أنواع الحكم وأردأ أشكال الاستبداد، وهي حال بلدان تحكمها ميليشيات، كما في دولة الخلافة (داعش) أو حكومات متحدرة من  ميليشيات، كما في الدولة اللبنانية.

المعنى الشائع للتشبيح هو السطو المسلح أو السرقة أو مصادرة أملاك الغير أو ماله، أو يكون انتهاكا للقانون. وقد يكون فرديا ويصنف في باب الجريمة، أو منظماً ومنه التشبيح الحزبي، وأخطره التشبيح الحكومي أو تشبيح الدولة. وفي جميع المعاني والحالات، يدفع الشعب من ماله ومن حريته ثمن التشبيح.

هذه النماذج طبقت في لبنان، عندما استولت الميليشيات في الحرب الأهلية على الحيز العام ومارست اعتداءاتها على الأملاك العامة والخاصة. الحوض الخامس والقوات اللبنانية، الإدارة المدنية والحركة الوطنية اللبنانية، مصفاة الزهراني وحركة أمل، المقاومة الفلسطينية وشارع المصارف، وتنظيمات لا أسماء لها كانت تصادر السيارات من أصحابها والبساتين من ضامنيها والشقق من ساكنيها.

بدل أن تتحسن الأحوال بعد الطائف، انحدرت نحو مزيد من السوء، بعد أن أشرف نظام الوصاية على عمليات السطو على المال العام، وراح يوزع واردات الدولة، ولا سيما عائدات النفط المستورد، على أدواته الحزبية المحلية، فضلا عن اقتطاع أموال من المؤسسات العامة والخاصة ومن أموال الخزينة مباشرة للمتنفذين في أجهزة النظام الأمني اللبناني السوري، على شكل خوات محدودة تفرض على سيارات نقل البضائع وعلى المسافرين ، وتدفع نقدا للعناصر على حواجز قوات الردع السورية، أو غير محدودة كتلك التي تداولتها وسائل الإعلام عن كازينو لبنان أو بنك المدينة.

غير أن أخطر ما في هذه الظاهرة هو أنها باتت كأنها حق مشروع للشبيحة، وصارت جزءاً من التقاليد الإدارية والسياسية، وإن تجرأ أحد على الشكوى من استفحالها ومن المستفحلين، فعليه أن ينتظر الويل والثبور وعظائم الأمور من أهل الفجور.

التشبيح عدوان على القانون العام وعلى الدولة. ميليشيات الحرب الأهلية اكتفت بمشاركة الدولة إيراداتها المالية وإدارة مؤسساتها. أما نظام الوصاية فقد راح يدمر تلك المؤسسات والآليات الديمقراطية التي قامت الدولة اللبنانية على أساسها تدميراً منهجياً. الترويكا كانت بداية، بها تم إلغاء الفصل بين السلطات. بعد ذلك كان دور المجلس النيابي الذي انتزعت الأجهزة الأمنية منه سيادته وصلاحياته، وبعده صار التشبيح على أموال الدولة، ممنهجاً، فتوزعت القوى الحكومية المتحدرة من الميليشيات في ما بينها التعهدات والالتزامات والتمويل العائد لمؤسسة كهرباء لبنان، بعد أن ألغيت إدارة المناقصات واستبدلت بآلية التراضي. كل ذلك بإشراف نظام الوصاية وتوجيهه.

لأن التشبيح صار جزءا من أعراف النظام السياسي وتقاليده، تجرأ المجلس النيابي على الدستور فانتهكه، واعتكف عن القيام بالمهام التي يحددها له، و سنّ القوانين المنافية، فشرّع لإجراء مباريات محصورة بين الراسبين في الامتحان، نعم الراسبين، وللتعاقد معهم ثم تثبيتهم في وظائفهم، والتعاقد مع متعاملين أميين في وزارة الإعلام، متجاوزاً في ذلك كل التقاليد التي كانت سائدة في ظل مؤسسات الرقابة، وبوقاحة، كان الوزير يضمن ديباجة قراراته عبارة “خلافا لرأي مجلس الخدمة المدنية”، حتى بلغت العدوى لغة الحوار، فانحدر مستوى التخاطب بين المشرعين إلى سباب وشتيمة ووعد ووعيد. تشبيح الميليشيات من الخارج يهدد الدولة ومؤسساتها، فكيف إذا كانت الميليشيات، بعقليتها وآليات عملها، هي المتحكمة بمفاصل الدولة ؟