مهى عون/الصفقة الأميركية الباهظة الثمن

255

الصفقة الأميركية الباهظة الثمن
مهى عون/السياسة/14 آذار/15

انتقد الرئيس الأميركي باراك أوباما الرسالة التي وجهها عدد من أعضاء الكونغرس من الجمهوريين إلى القيادة الإيرانية, لتحذيرها من توقيع أي اتفاق بشأن برنامجها النووي, مهددين بإبطال الرئيس الأميركي القادم أي اتفاق من هذا النوع بجرة قلم. وفي حين أثارت هذه الرسالة غضب الرئيس أوباما ووصفها بالتحالف الغريب بين أعضاء في الكونغرس والمتشددين الإيرانيين الرافضين أي تسوية, يبقى الكونغرس المرجع الرئيسي في اتخاذ أي قرار سياسي نافذ للإدارة الأميركية, خصوصاً ما يتعلق بالملفات الخارجية, التي قد لا يكون قرار رفع العقوبات عن إيران آخرها, عندما يتعلق الأمر بمصير السياسة الأميركية الخارجية حيال طهران.

هذا ويرى بعض المراقبين أن الرسالة المفتوحة التي نشرها 47 عضواً جمهورياً, إنما جاءت لتتماشى مع ردود الفعل الشاجبة لهذا الاتفاق, من الحكومة الإسرائيلية ورئيسها بنيامين نتانياهو الذي شكّل تنازل الرئيس الأميركي ورضوخه لبنود طهران ضمن الاتفاق, أهم أسباب الجفاء والبرودة بينهما, وهو ما يفسر أيضاً دعوة الجمهوريين نتانياهو إلى الكونغرس لإبداء رأيه في اتفاق إيران النووي, حيث نال كل الإعجاب والتصفيق وقوفاً, وأتت مشاركته لتشكل “نكاية” بالرئيس الأميركي وتفرُّده باتخاذ القرارات المهمة والمفصلية.

وفي حين يسود الظن بأن حالة العداء هذه قد تؤدي إلى تفجير المفاوضات التي شارفت على نهايتها, كما تروج لذلك أوساط الرئيس الأميركي, يرى بعض النظريات الأخرى أن السبب الذي قد يكون خلف هذا التفجير يكمن داخل الإدارة الأميركية نفسها, نسبة إلى التنازلات الكثيرة التي أعرب الرئيس الأميركي عن استعداده للقبول بها مقابل إتمام هذا الاتفاق مع طهران. إذاً يرى الجمهوريون أن تكاليف هذا الاتفاق سوف تكون أعلى بالنسبة إلى الولايات المتحدة, كونها تطاول في المرتبة الأولى صورة الولايات المتحدة وسمعتها نتيجة سياسة أوباما الخرقاء والمتهورة في الشرق الأوسط, خصوصا في سورية والعراق ولبنان, حيث ترعى إدارته وتدعم إرهاب الدولة المرتبط بشكل وثيق بالجمهورية الإسلامية, وباتت تعمل من أجل مصلحتها أولاً في منطقة الشرق الأوسط, كما يرى الجمهوريون أن هذه الإدارة بدأت تُظهر أميركا وكأنها سريعة التخلي عن حلفاء البارحة وأصدقاء الأمس لمصلحة هيمنة الطاغوت الفارسي, وهذه الصورة لا ترضيهم, وقد لا ترضي غداً على مستوى أوسع المواطنين الأميركيين, حيث تُظهر بلادهم بصورة من يضرب عرض الحائط جميع الوصايا الاخلاقية والإنسانية التي قامت عليها الولايات المتحدة والتي تمكنت بواسطتها من ادعاء قيادة دفة هذا العالم وريادته.

قد يكون موقف الجمهوريين المناهض للرئيس أوباما نابعا من حسابات انتخابية رئاسية كما يراها بعض المحللين, وقد يكون أيضاً متأتياً من خلفية المحافظة على حسن العلاقة مع إسرائيل, لكن من دون شك هو أيضاً ناتج من دراسة معمقة لميزان الربح والخسارة, والمائل لناحية تلمس الخسارة الاقتصادية المقبلة نتيجة سياسة الرئيس أوباما الخرقاء والمحصورة في المراهنة على كسب رضى طهران على حساب حسن العلاقة مع العالمين العربي والإسلامي, ما سوف يؤدي بشكل بديهي إلى انكماش أكبر في موقف الكونغرس حيال الرئيس الأميركي ونفور متنامٍ قد يساهم في تقويض سلطته على المديين القريب والأبعد, ناهيك عن تهشيم صورة الإدارة الأميركية وإظهارها وكأنها منقسمة على نفسها.

إن التناقض الصارخ والفاقع للسياسة الأميركية, بين رعايتها إرهاب الدولة في سورية والعراق ولبنان واليمن وليبيا (نتكلم طبعاً عن الأنظمة الميليشياوية الطابع القابضة بالقوة على سلطة القرار في هذه البلدان) وبين ادعائها مناهضة الإرهاب ومحاربته عبر ما يسمى “قوات التحالف” من جهة أخرى, بات يهدد صورة الولايات المتحدة وهالتها كدولة تكرس الأطر الديمقراطية والشفافية في النهج السياسي. وقد لا يكون بعيداً مجيء الساعة التي سوف يعمد فيها الرأي العام الأميركي إلى مساءلة إدارة أوباما عن هذا الانفصام والتناقض, اللذين لن يقبل تبريرهما بحجة إبرام اتفاق حول ملف إيران النووي الواهي, واللذين قد يؤديان إلى تبييض صفحة طهران غير المتورعة في الآونة الأخيرة عن إطلاق المواقف الصارخة والواضحة والفجة حول نواياها الإمبراطورية والاستعمارية, مع التزام الإدارة الأميركية الصمت حيالها رغم خطورتها, لعدم عرقلة إتمام الاتفاق النووي كما تدعي. فما نوع هذه السياسة المتهورة التي تسير عكس التاريخ وعكس الجغرافيا؟

حين يسمع العالم الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني يقول بالفم الملآن: إن إيران منعت سقوط بغداد ودمشق وأربيل في أيدي متطرفي “داعش”, وهي باتت الآن على ضفاف المتوسط وباب المندب بعد يومين فقط من تصريحات لمستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني, علي يونسي, قال فيها إن: “إيران اليوم أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ, وعاصمتها بغداد, وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا, اليوم كما في الماضي”, في إشارة إلى عودة إمبراطورية الفرس الساسانية قبل الإسلام, والتي كانت محتلة العراق ومتخذة المدائن عاصمة لها, فما نوع هذه الصفقة التي تتخلى بموجبها الولايات المتحدة عن علاقاتها السوية مع العالم السني الذي يمثل الأكثرية وتسلمه لطهران مقابل رضوخها لامتلاك إسرائيل مئات الصواريخ النووية.

قد يكون الجمهوريون مدركين مدى عداء إسرائيل وكراهيتها سياسة أوباما تجاه طهران وهيمنتها, لكن موقفهم الأخير قد لا يكون نابعاً من الرغبة في إرضاء نتانياهو بمقدار خشيتهم من تداعيات موجات غضب عارمة باتوا يتحسسونها مقبلة عليهم من العالم العربي والإسلامي, خصوصاً أن خفايا “تمثيلية” “داعش” وملابساتها وأهدافها لم تعد خافية على أحد, بل أصبحت واضحة للجميع, فالكل بات مدركاً أن إطلاق المسخ الذي اسمه “داعش” لم يكن سوى لاضطهاد أهل السنة وتدجينهم في العالم العربي قاطبة لمصلحة تعويم الدور الإيراني وإظهاره وكأنه الحامي الوحيد من هذا الإرهاب القاتل والمجرم. لقد بدأت تظهر تدريجيا إلى العلن خفايا هذا المشروع المشبوه ومآربه, وهو ما وُجد على ما يبدو إلا لخدمة المشروع الأول, وهو تمدد هيمنة طهران وتسلطها على العالم العربي.

وربما يدرك الجمهوريون مدى خطورة ارتداد هذا الوعي السني على مصالح الولايات المتحدة في العالم الإسلامي ذي الأكثرية السنية, فبذور الكراهية التي تزرعها إدارة أوباما بين السنة والشيعة قد تنمو وتتكرس وتتمترس ليس فقط بين المذهبين الشيعي والسني, ولكن أيضاً تجاه العلاقات المستقبلية مع الإدارة الأميركية التي تكيل بمكيالين في حال بقيت على هذا النمط في معاداة العرب السنة.

وربما لن يكون مستغرباً والحال هذه, أن يتحول أهل السنة نتيجة هذا العدوان المركز والمتواصل عليهم إلى مقاومة مغايرة هذه المرة لكل التنظيمات الأصولية والإرهابية, “كالقاعدة” و”داعش” وسواهما, التي كانت بدايات تكوينها الفعلية في بلاد الغرب وعلى يد الاستخبارات الغربية. إن فهم تاريخ هذه الأمة يوصل إلى احتمال قيام مثل هذه المقاومة, التي قد تتخذ شكل مقاومة ذات كيانات متحركة, تسدد وتهدد وتتمدد من دون أي وسيلة لمقاومتها أو تجفيف منابعها أو إيقاف تفجرها, كونها متجذرة وضاربة في تاريخ الإسلام العربي, الذي استرخص بذل الغالي والنفيس لاسترداد الحقوق المهضومة ظلماً وبهتاناً, وحينها ستكون محاولات ضربه جميعاً, عن طريق إيجاد كيانات مسخ “كداعش” و”القاعدة” فاشلاً, ليس فقط لأن أهل السنة هم الذين أسسوا هذا المشرق العربي, ويشكلون فيه القاعدة والمرتكز, لكن لأن قانون الطبيعة البشرية والناموس المنطقي والخلقي والديمقراطي -كما تسميه العلوم السياسية- الذي يقول بالتسليم لإرادة الأكثرية مع احترام حقوق الأقلية, هو القانون الصحيح والمعتمَد منذ أقدم العصور.

وعليه, فإن أي قانون أو موازين اصطناعية قد تخترعها الولايات المتحدة لقلب هذه المعادلة الديمقراطية المعهودة والمعتمدة هي حكماً ساقطة, كونها خارج لغة الطبيعة والمنطق وتتناقض مع بديهيات النظم الإنسانية المعهودة؟