رغيد الصلح/إسرائيل والقوات العربية المشتركة

269

إسرائيل والقوات العربية المشتركة
رغيد الصلح/الحياة/05 آذار/15

لم يخطئ الرئيس الأميركي باراك أوباما عندما قال أن بنيامين نتانياهو لم يقدم بديلاً من سياسة المفاوضات مع إيران. هذا لا يعني أن رئيس الحكومة الإسرائيلية لا يملك مثل هذا البديل، ولا يعني أنه لا يعمل على تحقيقه عبر كل وسيلة ومنها مخاطبة الكونغرس الأميركي وتحريض الأميركيين ضد أعداء إسرائيل. يتمثل هذا البديل الإسرائيلي في مشهد من شقين: شق تحتله إسرائيل التي تمثل في تصور الإسرائيليين نموذجاً للبلد الديموقراطي كما ارتآه الفيلسوف الألماني، إيمانويل كانط، حيث الدولة الديموقراطية لا تحارب جيرانها الديموقراطيين وتسعى إلى السلام الأبدي في علاقاتها معهم. ويتمثل الشق الآخر في الدول العربية والإسلامية (تركيا وإيران) التي تقدم نموذجاً لدول الاستبداد المنخرطة في حرب أبدية، أو حرب «الكل ضد الكل»، كما وصف توماس هوبز المشهد العالمي المفتقر إلى سلطة تفرض الأمن والسلم على الأرض. انطلاقاً من هذا التصور ترى الأحزاب الإسرائيلية الحاكمة أنه لا مجال للسلام مع الجيران بخاصة العرب، وأنه لا بد من أن تعتبر إسرائيل نفسها في حالة حرب دائمة معهم، كما توقع كل من فلاديمير جابوتنسكي في خطب وكتابات متعددة، ودافيد بن غوريون في حديثه مع ناحوم غولدمان المنشور في كتاب «المعضلة الإسرائيلية». إن الإسرائيليين مضطرون إلى خوض هذه المعارك، لأن العربي هو، كما وصفه المؤرخ الصهيوني بنزيون نتانياهو والد رئيس الحكومة الإسرائيلي، «عدواني بطبيعته ولا يأبه لأي قانون أو تعاقد طالما أنه آت من البادية، حيث الحرب الدائمة». من هنا، كرر نتانياهو الأب مقترحات جابوتنسكي – الذي كان يعمل مساعداً له – في الدعوة إلى تسييج إسرائيل، بعد تأسيسها، بجدار حديد، وتأهيلها لكي تخوض حرباً دائمة وللدفاع عن نفسها ضد العرب باستخدام أشد أنماط القسوة والتنكيل ضدهم من دون تمييز بين مدني وعسكري. لا بد من أن نضيف هنا، أنه عندما سئل نتانياهو الأب عما إذا كان ابنه مقتنعاً بآرائه، أجاب بأنه «قائد لا يقبل المساومة تحت الضغط»، وبأنه «وإن آمن بالأهداف نفسها، فلن يفصح عنها علناً، لأنه لو فعل ذلك لعرقل إمكان الوصول إليها». على رغم تخلف نتانياهو عن تقديم بديل عن الصيغة التفاوضية بين الولايات المتحدة وإيران، وعلى رغم حرصه على كتمان الأهداف التي يسعى إليها، كما يقول والده، فإنه ليس من الصعب أن يستنتج المرء الأهداف التي يسعى الإسرائيليون إلى تحقيقها وصورة المستقبل المفضل لديهم. إنه يتمثل في قيام إسرائيل كبرى آمنة نامية ومحصنة بواحد من أقوى الجيوش في العالم، ضد عالم مجاور غارق في حروب عبثية من دون انقطاع. إن الإسرائيلي لا يحتاج إلى أن يكون «عدوانياً» حتى يشعر بالأمان عندما تغرق الأراضي المجاورة بالمآسي بحيث تعجز عن دعم حقوق الشعب الفلسطيني. وهو لا يحتاج إلى أن يكون «شريراً» إذا وقف ضد تسلح وتقوية الدول التي تعمل على منع إسرائيل من التوسع ومن مد يدها إلى الموارد الطبيعية المتوافرة في المنطقة العربية. والإسرائيلي لا يحتاج إلى أن يكون «شريراً» عندما يشعر بالقلق إذا اتجهت الدول العربية إلى تحقيق مقدار حقيقي ومعقول نسبياً من التعاون في ما بينها. يكفيه أن يكون صهيونياً «عادياً» حتى يساوره القلق إذا سارت الدول والقيادات العربية على هذا الطريق وإذا تمكنت من تحقيق السلام العربي – العربي. ويكفي الإسرائيلي أن يكون صهيونياً «طبيعياً» حتى يرى فائدة في تصدع العلاقات بين القوى الدولية الكبرى والقوى الإقليمية في المنطقة، مقابل تحسنها مع إسرائيل.

إن الصهيونية هي لعبة صفرية دائمة مع العرب، وفي إطار هذه اللعبة فإنه من المرجح أن تقف إسرائيل ضد المشروع المصري لتشكيل قوات سلام عربية. لا يحتاج الإسرائيليون إلى أن يتخذوا موقفاً علنيا ضد هذا المشروع لأنهم يعرفون بحكم التجربة والخبرة أنهم إذا اتخذوا مثل هذا الموقف وفي قضية حساسة مثل قضية الأمن الوطني المصري والقومي العربي، فإنهم سيساهمون في خلق مناخ مؤيد له في الأوساط العربية. لكن استبعاد الموقف العلني لا يحول دون السعي إلى عرقلة المشروع عبر استخدام الضغوط الدولية. وقد تلقى المطالبة بتعطيل المشروع آذاناً صاغية لدى القوى الكبرى التي تريد الاحتفاظ بزمام المبادرة في تسيير المنطقة العربية وإيجاد الحلول لمعضلاتها. وقد تتجاوب القوى الكبرى مع معارضي المشروع، حتى لو تعذر على الولايات المتحدة أو غيرها من القوى الأطلسية تحقيق انتصارات ذات مغزى، في الظروف الراهنة، على المنظمات الإرهابية العاملة في المنطقة العربية. فضلاً عن ذلك سوف تستخدم إسرائيل وأنصارها في الغرب الحجة التقليدية حول مخاوفها من أن يؤثر مشروع من هذا النوع سلباً في موازين القوى الأوسطية وفي أمن إسرائيل.

تنطوي الحجة الأخيرة على مسوغات فعلية، من وجهة نظر إسرائيلية، لزرع الصعوبات على طريق تشكيل القوات العربية. فالمبادرة المصرية تؤثر في موازين القوى لأنها آتية من بلد يملك أقوى جيش في المنطقة العربية وفي القارة الأفريقية. فالقوات المصرية المسلحة تملك 5 آلاف دبابة، و1100 طائرة وموازنة سنوية تصل إلى أربعة ملايين دولار. وإذا نجحت المبادرة المصرية في اجتذاب دول عربية أخرى، مثل الجزائر التي تحتل المركز الثاني في أفريقيا والثاني في المنطقة العربية من حيث حجم قواتها، والتي تملك أيضاً خبرة مهمة في محاربة الإرهاب، فسيكون للقوات العربية المشتركة الأثر المناسب في توجيه القتال ضد الإرهابيين. علاوة على ذلك، فإن المبادرة المصرية تستحق الاهتمام لأنها تأتي في ظل قناعات تؤكد أن القصف الجوي لن يقضي على الإرهابيين وعلى أنه لا بد من تدخل قوات برية كبيرة ومدربة من أجل القضاء على الإرهاب. كما أن المبادرة بدأت في سياق تحرك مصري ينبئ برغبة القاهرة في استعادة موقعها العربي والإقليمي والدولي. في هذا السياق نفسه تأتي سياسة تدعيم العلاقات مع مجلس التعاون الخليجي التي ستبرز ثمراتها في مؤتمر قريب لدعم الاقتصاد المصري. وفي هذا السياق أيضاً تأتي محاولات تحسين العلاقات مع الدول العربية الأخرى. كذلك تبرز معالم هذه السياسة في الحرص على تنمية العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي ودول منظمة شنغهاي من دون إغفال ترسيخ العلاقات مع دول الأطلسي.

إذ تسعى القاهرة إلى توفير أجواء ملائمة لولادة ما وصف في بعض وسائل الإعلام بـ «ناتو عربية»، فإن التحرك الذي تساهم فيه الأمانة العامة للجامعة العربية لا يخفي الحوافز الليبية وراء التفكير بالمشروع. فالأوضاع الليبية المتفاقمة تساهم في تأزيم الأحوال الأمنية والعامة في الدول المجاورة. وكما تحولت الأراضي السورية والعراقية إلى بؤرة إرهاب تهدد كل دول المشرق العربي، فإن الأراضي الليبية المترامية الأطراف قد تتحول إلى بؤرة مماثلة في المغرب العربي. إذاً يمكن القول أن ضرورات الأمن المصري تملي الاهتمام بأحوال ليبيا وأن مشروع القوات العربية المشتركة ليس موجهاً ضد إسرائيل بالضرورة.

هذا القول لن يقنع الإسرائيليين الذين يقرأون تاريخ المنطقة قراءة جيدة، حتى ولو لم يكفوا عن تحريفه. في هذا التاريخ، إن محمد علي بدأ تحركاته العسكرية في أطراف الإمبراطورية العثمانية وبأمر من سلطاتها وحفاظاً على سلطتها وظل يسير على هذا الطريق حتى وصل إلى الآستانة وكاد أن يستولي على الإمبراطورية. وإسرائيل لا تستطيع المغامرة هنا. فحتى لو كان الغرض من القوات العربية المشتركة هو إعادة الأمن والاستقرار إلى ليبيا فقط، وحتى ولو تعهد أصحاب المشروع بإنهائه أو تجميده بعد تنفيذ المهمة التي نشأ من أجلها، فإن إسرائيل لا تتساهل مع مشروع يمنح بلداً عربياً مثل مصر إجازة تقديم عون أمني وحاسم إلى بلد عربي شقيق ويسمح لجيش عربي كبير وعريق مثل الجيش المصري بتحقيق إنجاز من هذا النوع، ويتيح للقاهرة أن تؤكد في عيد الميلاد الستيني للجامعة أن التعاون العربي لا يخدم العرب فحسب، إنما أيضاً يحمي المجتمع الدولي من الآفات السياسية والعسكرية. لقد مشى جيش محمد علي آلاف الأميال وقضى سنوات طويلة قبل أن ينتقل من جنوب السودان والجزيرة العربية إلى الأناضول وأن يهدد الآستانة. المسافة بين الحدود الليبية والحدود الإسرائيلية هي قطعاً أقرب بكثير من الحدود الليبية، لذلك من الأرجح أن تبذل إسرائيل جهداً ملموساً للحيلولة دون قيام القوات العربية المشتركة.