وسام سعادة/بين التمكّن من إسقاط الوصاية والفشل في انتخاب رئيس

246

بين التمكّن من إسقاط الوصاية والفشل في انتخاب رئيس
وسام سعادة/المستقبل/04 آذار/15

الهبّات الانتفاضية الجماهيرية رائعة. رائعة الى درجة أنّها وبحكم كونها غير متوقعة عشية حصولها، فانه يصعب، ان تتكرّر، لأن المثال المحقق وحده لا يكفي لتكرارها، وأحياناً يكون محبطاً لهذا التكرار، الذي له شروطه، وله مضاعفاته.

يوم الرابع عشر من آذار في التاريخ اللبناني حدث لا يتكرّر بهذا الزخم، بهذا الشكل، بهذا المدى. ولأنّه حدث بهذا السطوع، وثلاثية الوصاية ونظامها الأمني والميليشيات المواكبة كابسة على العباد، فقد استبدّ الاقتناع بأنّه، هكذا، يتكرّر. وبما انّ هذه القناعة لم تكن فقط محصورة بنادٍ سياسي مغلق، وانما برأي عام استقلالي واسع، فانّ الحدث نفسه تكرّر، بحشود جماهيرية كبيرة في السنوات التالية، وتعبّر عن مزاج أكثري منسجم مع نتائج الدورتين الانتخابيتين الحاصلتين بعد انسحاب القوات السورية. لكن الحدث لم يتكرّر. الحدث الأوّل حسم الأخذ والرّد في مسألتين أساسيتين: جلاء القوات السورية، وانطلاقة مسيرة تحقيق العدالة في قضية الرئيس الشهيد رفيق الحريري. التجمعات الجماهيرية في السنوات التالية لم تتمكّن من استكمال ما توقف عنده الحدث الأول: تقصير مدة التمديد لاميل لحود في قصر بعبدا. كما انها لم تتمكن من الشروع في تحقيق، على مراحل، مهمات استرجاع سيادة حكم القانون على جميع الأراضي اللبنانية، واحتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعي، والاهتداء الى «استراتيجية دفاعية» موافقة لمفهوم الدولة، وللتوازن بين الجماعات اللبنانية.

هذا «التعالي» للحدث الجماهيري التأسيسي الأول على ما تلاه كثيراً ما ولّد مضاعفات سلبية. فهو من ناحية، نبّت استرسالاً استقلالياً في مدح «عفوية الجماهير»، كما لو اننا حيال جماعة تؤمن بمذهب روزا لوكسمبورغ في الثورة الاشتراكية. وهذا الاسترسال لم يكن في مطرحه، لا في الشروط اللبنانية، ولا بعد ذلك حين عدنا وخبرناه مع انتفاضات الربيع العربي. الهبّات الانتفاضية لها شروط نشوبها، وبلوغها غاياتها ليس «كما تشتهي السفن»، وليس بامتداح العفوية لوحدها، وتحويلها الى معطى مركزي، يراد منه افتعال شرعية.

وهكذا، في يوم الرابع عشر من آذار قبل عشر سنوات، كانت الجماهير «أكثر وعياً من القادة»، بمعنى أكثر التصاقاً، بشكل عضوي، وبحكم مصالحها الآنية والمباشرة، بقضية اسقاط الوصاية ونظامها الأمني. لكن، عندما تكون الجماهير بهذه الحالة، «أكثر وعياً»، فهذا لن يوفّر حفظها في مكانها، او متابعتها لدورها. دور القواعد الشعبية في التراكم الاستقلالي اللاحق لم ينعدم في اي مرة، لكنه سريعاً ما تحوّل الى دور محدّد اطاره الى حد كبير سلفاً، ولا مجال لتجاوزه. لا يعود ذلك لأسباب ارادوية فقط، وان كان هناك بالفعل ما يقال في هذا الاطار، تماماً مثلما ان «الذهنية الارادوية» التي تفسّر كل مشكلات الحراك الاستقلالي بعدم جذرية ارادة القادة في هذا المفصل او ذاك هي ذهنية تحتاج الى تصفية حساب نقدي، بعد كل هذه السنوات.

العمل الجبهوي الذي راكم على أيام «انتفاضة الاستقلال» هو علامة فارقة في تاريخ هذا البلد أيضاً. مختلف كثيراً عمّا سبقه، وله رغم كل هذه السنوات قدرة على صناعة مشتركات في الذاكرة والمعاش، ومشتركات ينبغي اعادة تفعيلها في الحركة السياسية نفسها، شرط الموازاة المأمولة بين المناخات الحوارية مع الأخصام السياسيين وبين المكاشفات الصريحة والصحية داخل النطاق الاستقلالي. وأساس المكاشفة عدم البدء في التعليل الارادوي للأخطاء، كما لو انه لا مصالح اقتصادية واجتماعية، ولا اعتبارات خارجية متبدلة وصعبة، ولا منطلقات ثقافية وايديولوجية مختلفة، ولا شروط ملويّة بقوة اللاتوازن الامني بين الائتلافين الكبيرين الذي انقسم البلد بينهما قبل عشر سنوات.

الحدث الجماهيري المؤسس ما زال يرفد العمل الجبهوي المتقطّع بذخيرة الحنين والذاكرة والقيم المشتركة، وما يجري لا سيما في سوريا، ما زال يذكر معظم اللبنانيين، الا من يجهد للتناسي، حقيقة نظام آل الأسد. في الوقت نفسه، السياسة لا تعني ان تختار كل مواصفات المعركة التي عليك ان تخوضها.

ثمة تركيبة اجتماعية يتشكّل منها البلد، والحركة الاستقلالية لم تقم أساساً لاعادة النظر في هذه التركيبة، ولا يمكن الاسترسال كثيراً في معزوفة «ليتها كذلك»، لأنها «ليست كذلك»، ولا يمكن من احشائها تحويلها كذلك، ومن خارجها لا يمكن افتعال «قوة ثالثة» الا بالانحياز، ضمنياً، الى احد الخطين: «الاستقلالي» او .. «الممانع».

هل يعني ذلك اقرار كل شيء على ما هو عليه؟ أبداً. الشرخ بين الناس وبين السياسة في هذا البلد يستفحل، بالتوازي مع استفحال الشغور على رأس الدولة وتمادي التعطيل او التفريغ داخل مؤسساتها وأجهزتها. مقاربة كل هذا مرهونة، بمغادرة التعامل السحري مع الحدث الاستقلالي التأسيسي، وليس أبداً بمغادرة القناعة بأن لأي هدف سياسي شروطاً يمكن تأمينها. لكن هنا الطامة: ما هو، بوضوح وملموسية، الهدف السياسي المرحلي الآن وما هو سقفه؟ انتخاب رئيس بشكل عام؟ انتخاب رئيس بمواصفات معينة؟ اليوم ينقسم البلد بين من يعطي اولوية للانتخاب على مواصفات الرئيس، وبين من يعطي اولوية للمواصفات – او لشخص بعينه – على الانتخاب، وبين من يتلاعب بكل هذا، فيمعن في تحويل الشغور الى معطى خطر ميثاقياً. كيف يمكن ضبط عملية التلاعب هذه؟ الذكرى العاشرة تكون ذات راهنية بالمحاولة المشتركة للاجابة عن هذا السؤال.