عقل العويط/مقبرة لبنان

232

مقبرة لبنان
عقل العويط/النهار/28 شباط 2015

وهذه الطبقة السياسية الخسيسة حقاً!

لم يحرّك الرأي العامّ ساكناً، ولم ينتفض حيال “الإهانة” القاسية، التي وجّهناها إليه في افتتاحية العدد السابق من “الملحق”. ترى، ألم يدرك هذا الرأي العامّ، في غالبيته المعلومة، أنّه هو المقصود بالخساسة الوقحة، الذليلة، المهينة، وأنّ عليه أن يقول كلمةً ما، رفعاً لعار، أو ردّاً لتهمة، أم تكون حاله، كحال الميت الذي يُجرَح، فلا يُحدِث فيه الجرح ألماً البتّة؟!

قد لا يوافقنا القرّاءُ (بعضهم في الأقل) الرأيَ، في أن المشكلة الجوهرية في لبنان هي بالفعل مشكلة رأي عامّ. عال. سنُجاري هؤلاء الأصدقاء القرّاء في ما يعتقدونه، لكننا سنقدّم إليهم برهاناً إضافياً لامعاً، دامغاً، لتأكيد المؤكد في ما ذهبتْ إليه افتتاحيةُ العدد الفائت:

فلنتخيّل معاً، حال الطبقة السياسية، التي لا بدّ أن بعضاً من قادتها وزعمائها وأذيالها قد تناهت إليه – بالتواتر ليس إلاّ، لا بالاهتمام – أصداءٌ من الافتتاحية المشار إليها. تصوّروا أيها القرّاء الأعزّاء، أننا في سينما ينتمي نوعها إلى العالم الافتراضي، وأننا نخترع فيلماً بأبطاله ووقائعه، انطلاقاً من المعطيات اللبنانية الراهنة. فأيّ ردود فعلٍ تتوقّعونها من أحد أفراد الطبقة السياسية، على سبيل المثل، حيال تلك الافتتاحية؟ أتتوقّعون أن تنطوي على الوجل والقلق والخوف وضرب الأخماس بالأسداس، لشعور هذا السياسي بأنّ الرأي العام (“البغل”، على قول سعيد تقي الدين)، لا بدّ أن “يخلع بلبطة رأس مَن يقترب منه، ولا قصد لهذا إلاّ أن يُطعمه وينظّف مرقده” (والقول لسعيد تقي الدين نفسه أيضاً)، وبأنه سيهدّده في كرسيّه، وسيقلب الطاولة عليه، وسيزركه في الزاوية، وينغّص لياليه ونهاراته، إذا لم يذهب فوراً إلى انتخاب رئيسٍ للجمهورية؟! أم أن هذا السياسي (بل السياسيون في غالبيتهم الكبرى تقريباً) سيكتفي بالقهقهة، والاستخفاف، والازدراء، والإشفاق، والسخرية، إيماناً منه بقول المتنبي “ما لجرحٍ بميتٍ إيلام”؟!

لو كان ثمّة ذرّة من القيم والأخلاق والشرف والكرامة، ذرّة واحدة فحسب، هل كان لرجل السياسة في المطلق (وفي لبنان طبعاً)، أن يقبل بالأمر الواقع هذا؟ وبهذا التفكّك في الحياة الوطنية، وبهذا الاهتراء في الكينونة اللبنانية، وبهذا الشغور في الرئاسة؟

لبنان في المهبّ الخطير جداً جداً. حكومته مفخَّخة بألف قنبلة وقنبلة، بفعل “الحروب الصغيرة” بين جماعاته ومكوّناته المتصاغرة. مجلس نوّابه الممدِّد لنفسه، معطّل بفعل الحروب الداخلية الصغيرة نفسها. النظام السوري القذر وذيلُه يمعنان فيه نهشاً وتقطيعاً. الحرب السورية تدور على أرضه، بكلّ وقاحة و”اعتزاز”، بين جماعة النظام الأسدي وجماعات الظلاميين الذين ينافسونه في القذارة. وهو، أي هذا اللبنان المُصادَر، يدير جانباً من هذه الحرب فوق الأرض السورية، أيضاً بكلّ وقاحة و”اعتزاز”. الجميع ينحر الثورة السورية اللامعة، ويتركها وحيدةً تنزف دماءها في عراء العالم. الاهتراء يلتهم جسد لبنان وروحه، رويداً وبانتظام. فهل ثمّة مَن لا يزال يريد لهذا اللبنان أن يظلّ على قيد الكينونة والبقاء، أم يُراد له أن يلفظ أنفاسه في هذا المهبّ الأبوكاليبتي، الداخلي والإقليمي والدولي؟

… وفي الليلة الظلماء يُفتقَد البدر. فأين هو هذا “البدر” اللبناني المفتقَد؟ أهو الرأي العامّ الخسيس حقاً؟ أم طبقة السياسيين “الشريفة” التي يعصف بها هذا المهبّ المتشابك، فتتمرّغ فيه، بكل وقاحة و”اعتزاز”، من دون أن تنتفض عليه، أو تملك القدرة على إدارته، أو الوقوف في وجهه، أو تفاديه، أو التغلّب عليه؟

كان عنوان مقالنا، السبت الفائت، “هذا الرأي العامّ الخسيس حقاً”. أليس من واجبنا في هذا العدد، أن نضع عنواناً شبيهاً به، فنستبدل عبارة “الرأي العامّ” بعبارة “الطبقة السياسية”، بل طبقة الزعماء والقادة والمسؤولين مطلقاً، ومن ضمنهم بالطبع، مندوبو السماء المكلّلة رؤوسهم بالاستكبار والعار والمهانة؟!

مرّةً أخرى: لا تعميم. لكنْ، إذا كان ثمّة من بين أهل الطبقة السياسية اللبنانية هؤلاء، ميتٌ متألم، فليصرخ ألمه. وليزلزل به هذا الأمر الواقع الخسيس. إذا ليس لسبب، فنكايةً بنا، وبالمتنبي.

… هذه الطبقة السياسية الخسيسة حقّاً، يجب أن نحفر لها مقبرتها في لبنان. إذا ليس لسبب، فمن أجل لبنان فحسب. والسلام.

المسيح اللبناني

كلما رأيتُكَ، يا لبنان، مطعوناً بأيدي أهلكَ، بسكاكينهم، بخناجرهم، بطوائفهم، بمذاهبهم، بأحزابهم، بقطعانهم، وبعربدات مطامعهم وصغائرهم – وأنتَ تُطعَن هكذا كلّ يوم -، أحببتُ أن أظلّ أعتقد أن لا سبيل إلى قتلكَ حقاً، على الرغم من أن الطريق المفضي إلى مقبرة القلب والوجود لم يعد بعيداً للغاية.

طعنةً بعد طعنةٍ بعد طعنة، لن يبقى موضعٌ في جسمكَ الجميل من دون طعن. لقد تخطيتَ سقفَ أن تكون مسيحاً فحسب. المسيح جروحُه خمسةٌ، ومواضعُها معروفةٌ في اليدين والقدمين والصدر. أما أنتَ، فجريحٌ حيث لا إله، وحيث – أكاد أقول – لا مطمع في حياة، ولا رجاء في اندمالٍ والتئام و… قيامة.

كلّ ما أرتجيه لكَ، الآن، أن لا تكشف أيدي هؤلاء، سرَّ الطريق إلى خيالكَ الجمّ، من أجل أن يبقى لمعناكَ الأصليّ موضعٌ آمِنٌ تهرع إليه في الوقت الجلل.

لكنْ، هل من رجاء؟! أكاد أقول، من فرط الواقع واليأس، إن الأسطورة لم تعد تجدي، ولم يعد يجدي كلّ هذا الرياء. فهل ما يُشاع عن كونكَ الفينيقَ الخارقَ المنتفض، الذي ينهض في العادة من رماد موته، هل ينقشع هذه المرّة، عن محض سراب؟!

كنتَ في ما مضى، تكتم الخمسة الجروح، وتذهب إلى أعمالكَ عزيزاً، ضاحكاً، غافراً. هل ثمّة عندكَ، الآن، ما تكتم به جروحكَ، وهل ثمّة ما يجعلكَ قادراً، بعد الآن، على الاعتزاز والابتسام والغفران؟

تؤلمني أوجاعكَ يا لبنان مثلما يؤلمني أنني موجود. أشبّه حياتكَ بحياتي المعطوبة، وبذكرياتٍ تفترس، كما تفعل وحوشٌ في غابة. ومثلما لا أعرف أن أرفع عبئاً عن حياتي، لا أعرف أن أرفع عبئاً عن جسدكَ المثخن بالطعن. أتساءل فقط كيف يمكنكَ أن تتعايش مع حياةٍ منهوبةٍ كهذه الحياة، ومع جسدٍ عارٍ، هذا العري كلّه، حين لا يعود في مقدوركَ أن تعثر على ثوبٍ تتلفّع به، وعلى سريرٍ تأوي عليه.

يؤلمني أنني أذهب كلّ مساءٍ إلى بيتي، يا لبنان، مثلما يؤلمني أنني أرى. لو استطعتُ، لجعلتُني بيتكَ في هذا العدم. ولو استطعتُ، لخبّاتُ عينيَّ، من أجل أن تنام في عينيَّ المغمضتين.

كلّما أبصرتُكَ، غاب من عينيَّ بصر. كلما غفوتُكَ، نزف حلمٌ من عمري كما تنزف أشلاء الرجاء.

أسهر عليكَ مثلما أساهِر موتاً يقيم في مرايايَ. وأجالسكَ مثلما أجالس حياةً مزعومة. كلانا مقامرٌ فاشلٌ يا لبنان. أنتَ تقامر بالمعنى، وأنا أقامر بالحبّ والشعر. وكما يطلع الفجر على المقامر، يطلع فجركَ عليَّ كمقبرةٍ فقدتْ رجاءها في القيامة.

أنقلكَ في خيالي من محبرة إلى محبرة، مثلما تنقل أمٌّ جنينها. فهل ينجو خيالٌ خائفٌ وشريدٌ كهذا، من براثن القتلة والوحوش أجمعين؟

أهلكَ أعداؤكَ، قبل أن يكون الآخرون أعداء. وأراني أحدّق في عيونهم، وأيديهم، فأسأل كيف لهذا الحقد أن يجتمع كلّه عليك؟ ومن أجل ماذا، يا لبنان؟!

صدِّقْني، لن يكون لأحدٍ مكانٌ تحت هذه السماء، ما لم يُعطَ لكَ المكان.

خيالكَ جمٌّ. فلا تفتح خيالكَ أمامهم. سوِّرْه بالألغاز، وسمِّمْه، لئلاّ تمسسه أيديهم الخائنة. بل شُلَّ أيديهم، يا لبنان، يداً في إثر يد، لكي لا تقوم لهم قائمةٌ بعد اليوم.

خيالكَ جمّ، ولعنتكَ قاتلة. احفظْ خيالكَ إلى الوقت الجلل. ولتلاحقْهم لعنتكَ في كلٍّ موضعٍ وزمان. ولتكن لعنتكَ هذه، مقبرةً لهم أجمعين!