البطريرك الراعي في رسالة الصوم: لنجدد علاقاتنا مع الله والذات ومع من نحن في حالة نزاع معهم

396

البطريرك الراعي في رسالة الصوم: لنجدد علاقاتنا مع الله والذات ومع من نحن في حالة نزاع معهم
وطنية/14 شباط/15

وجه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، رسالة الصوم الرابعة، بعنوان “الصوم الكبير، زمن الجوع والعطش إلى البر”، دعا فيها الى “أن نجدد علاقاتنا مع الله والذات بالصلاة والتوبة الداخلية، ونرمم علاقات الأخوة مع من نحن في حالة نزاع معهم بالغفران والمصالحة”.

وجاء في الرسالة: “ان زمن الصوم الكبير هو زمن الجوع والعطش إلى البر، وزمن الشبع من حضور الله ونعمه. نستوحي هذا الموضوع لرسالة الصوم الكبير، للعام 2015، من التطويبة الرابعة في إنجيل التطويبات، المعروف بدستور الحياة المسيحية: “طوبى للجياع والعطاش إلى البر، فإنهم سيشبعون” (متى 5: 6). تنطوي هذه التطويبة على أبعاد حياة الإنسان الروحية والمعنوية والمادية. فيجوع ويعطش للخبز والماء، للعزاء والتشجيع، للصحة والشفاء، للعدالة والإنصاف، للخروج من حالة الفقر والعوز، للسلام والترقي، للحقيقة والحرية، للمحبة والرحمة؛ كما يجوع ويعطش للعلم والتربية وتحقيق الذات في وطنه، وفقا لمواهبه وأحلامه وتطلعاته؛ ويجوع ويعطش لإرضاء الله بحياة بارة في الشركة الروحية معه، والأمانة لحالته ودعوته ومسؤولياته، ولرؤية وجه الله الآب، في ختام رحلته على وجه الأرض، والتنعم بمجد السماء من جودة الله ورحمته.

لا يستطيع أحد أن يشبع جوع أحد وعطشه الماديين والمعنويين والروحيين، ما لم يكن فيه جوع وعطش إلى البر، أي إلى عمل الخير والصلاح؛ وما لم يشبعه الله من محبته ورحمته، ومن نعمة حضوره، ومن كلامه، كلام الحياة، ومن أنوار روحه القدوس.

الجوع والعطش إلى البر والشبع، هذه الثلاثة هي الغاية من الصوم الكبير، نبلغها بوسائل ثلاث: الصيام والصلاة والصدقة”.

وقال: “الصيام هو الامتناع عن الطعام من نصف الليل حتى الظهر، مع إمكانية شرب الماء فقط؛ والامتناع عن أكل اللحم والبياض أيام الجمعة؛ والكل من اثنين الرماد (16 شباط) حتى سبت النور (4 نيسان)، باستثناء الأعياد التالية: مار يوحنا مارون (2 أذار)، الأربعون شهيدا (9 أذار)، مار يوسف (19 أذار)، وبشارة العذراء (25 أذار)؛ وباستثناء السبت والأحد، بحسب تعليم القوانين الرسولية (سنة 380). ففي السبت تذكار الخلق، وفي الأحد تذكار القيامة. تستثني هذه القوانين سبت النور “لأن اليوم الذي كان فيه الخالق تحت الثرى، لا يحسن فيه الابتهاج والعيد، فالخالق يفوق جميع خلائقه في الطبيعة والإكرام”.

أضاف: “الامتناع عن أكل اللحم والبياض يستمر في كل يوم جمعة على مدار السنة، ما عدا الفترة الواقعة بين عيدي الفصح والعنصرة، والميلاد والدنح، والأعياد الليتورجية الواجبة فيها المشاركة بالقداس الإلهي مثل: الميلاد، والغطاس، وتقدمة المسيح إلى الهيكل، ومار مارون، والصعود، والرسولان بطرس وبولس، وتجلي الرب، وانتقال العذراء إلى السماء، وارتفاع الصليب، وجميع القديسين، والحبل بلا دنس، وعيد شفيع الرعية. ولا بد من التذكير بالعادة التقووية، القديمة العهد، والمحافظ عليها في جميع الكنائس الشرقية، الكاثوليكية والأرثوذكسية، وهي ممارسة القطاعة في صوم ميلاد الرب يسوع، وقد اقتصرناها، تسهيلا للمؤمنين من 16 إلى 24 كانون الأول، وصوم القديسين الرسولين بطرس وبولس وحددناه من 20 إلى 28 حزيران، وصوم انتقال السيدة العذراء إلى السماء وحصرناه ما بين 7 و 14 آب. إننا نشجع القادرين على ممارسة الصوم أيضا مع القطاعة. كل هذه الأزمنة والأيام من الصيام والقطاعة تشكل محطات فارقة في حياة التوبة التي تعيشها الكنيسة. وهي مناسبات فريدة لإحياء الرياضات الروحية في الرعايا والأديار والمؤسسات التربوية والاستشفائية والاجتماعية، ولتأمين ممارسة سر التوبة والمصالحة، ولتنظيم ليتورجيات توبة جماعية مع إبقاء الاعتراف الشخصي والحلة السرية الفردية؛ وللقيام بزيارات حج تقوية بروح التوبة؛ وللمبادرة إلى أفعال محبة ورحمة تجاه الأخوة الفقراء والمرضى والمعوزين”.

وتابع: “الصيام تعبير عن التوبة الداخلية. فالامتناع عن الطعام وعن أكل اللحم والبياض، وما يرافقه من إماتات وأفعال محبة ورحمة، إنما يندرج في مبادرات التكفير والتعويض عن الأخطاء والخطايا والشرور التي اقترفناها. والصيام تدريب للإرادة والنفس والجسد، من أجل تحقيق الانتصار على الذات في ضعفها وانحرافها، وبلوغ حرية القلب. إنه شريعة إلزامية، مصدرها الكتاب المقدس، في عهديه القديم والجديد، وخضع لها المسيح الرب بصيامه أربعين يوما، استعدادا لبدء رسالته العلنية (راجع متى 4: 2). أدرجت الكنيسة هذه الشريعة بين وصاياها الخمس وهي الرابعة. فبعد الوصية الأولى بالتزام المشاركة في قداس الآحاد والأعياد المأمورة، توصي الثانية بواجب الاعتراف بجميع الخطايا، أقله مرة في السنة، وتأمر الثالثة بمناولة القربان المقدس أقله في عيد الفصح، ثم تكتمل بالرابعة وهي الالتزام بالصيام والقطاعة في الأزمنة المحددة، وبالخامسة أي مساندة حاجات الكنيسة بالإحسان والتبرعات. الغاية من وصايا الكنيسة، بطابعها الإلزامي، أن تضمن للمؤمنين القليل الضروري من روح الصلاة والالتزام الأخلاقي، من أجل النمو في محبة الله والناس. أما عيش الوصايا فمرتبط بالحياة الليتورجية، ويغتذي منها. نقول “وصايا الكنيسة”، لأن كل مسيحي ومسيحية يحقق دعوته في الكنيسة، في الشركة مع جميع المعمدين. فمن الكنيسة، يتقبل كلمة الله التي تحتوي تعاليم “شريعة المسيح” (غلا 6: 2). ومن الكنيسة يتعلم مثال القداسة في شخص مريم العذراء، وهي القدوة الأسمى، وفي شهادة حياة الذين يعيشونها بأصالة، وفي التقليد الروحي الحي، الظاهر في حياة القديسين على مدى التاريخ”.

وقال: “إن إلزامية الصوم والقطاعة، كما شرحناها آنفا، توجبها القوانين الكنسية. ويعفى منها، طبعا، المرضى والمسنون والأشخاص الذين يتناولون أدوية مزمنة، والذين يقومون بأعمال مضنية تتعدى فترة الظهر، شرط أن يتناولوا فطورا قليلا، ويعوضوا بالصلاة وأعمال المحبة والرحمة. يوضح القانون 883 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقية في فقرته الأولى: إن بإمكان المسيحيين، وفي هذه الحالة الموارنة، المتواجدين في بلدان الإنتشار، وخارج النطاق البطريركي في الشرق الأوسط، اتباع القواعد والتوجيهات المعتمدة في أماكن تواجدهم. أما بالنسبة إلى العائلات التي ينتمي فيها الزوجان إلى كنيستين مختلفتين ذات حق خاص، فيسمح لهما وفقا للفقرة الثانية بالمحافظة على ما ترسمه بشأن الصيام والأعياد إحدى هاتين الكنيستين”.

وعن الصلاة، قال: “الصلاة مكون ثان لزمن الصوم الكبير، يعود فيه كل مؤمن ومؤمنة إلى الله بروح التوبة الداخلية، من أجل تصحيح العلاقة معه، ومع الذات والناس . فالصلاة، بالنسبة إلى القديسة تريز الطفل يسوع، هي “ارتفاع القلب بنظرة نحو السماء، وهي صرخة امتنان وحب لله في المحنة كما في الفرح”. ويرى فيها القديس يوحنا الدمشقي “ارتفاع النفس إلى الله، والتماس الخيرات المناسبة. الصلاة، قبل أن تكون كلمات، هي إصغاء لكلام الله وإلهاماته، وحالة مناجاة من القلب إلى القلب، ونشيد تسبيح وشكر وتمجيد، واستغفار وتشفع. الصلاة هي حضور وجداني أمام الله، بل، يقول البابا فرنسيس، هي دخول من الباب الذي فتحه ابن الله، يسوع المسيح، بين السماء والأرض، بتجسده وحياته على الأرض، بموته وقيامته. في زمن الصوم الكبير، وهو “الزمن المقبول وزمن النعم” (2 كور6: 2)، تظهر الكنيسة بمثابة اليد التي تمسك بهذا الباب، لكي يظل مفتوحا، بواسطة إعلان كلام الله، والاحتفال بالأسرار وتوزيع نعمها، والشهادة للإيمان التي تكتسب فعاليتها من أعمال المحبة (غلا 5: 6). ولكن بالمقابل، العالم يسعى إلى الانغلاق على نفسه، وإغلاق ذاك الباب الذي من خلاله يدخل الله إلى العالم، ويريد أن يدخل العالم إليه، فيحيا؛ بل يحاول العالم أن يصد يد الكنيسة، أو يجرحها أو يسحقها. لكنها تظل في حالة “جوع وعطش إلى البر” (متى 5: 6) أي إلى الخير وخلاص العالم. ألم تكن كلمة يسوع الأخيرة من على الصليب: “أنا عطشان” (يو 19: 28) تعبيرا عن عطشه لكي تعم العالم المحبة والغفران، ولكي تفاض عليه ثمار الفداء”؟

أما عن الصدقة، فقال: “الصدقة، وهي أعمال المحبة والرحمة، تشكل المكون الثالث لزمن الصوم الكبير، بعد الصيام والصلاة. هذه الثلاثة هي شريعة الإنجيل الجديدة وأفعال فضيلة التدين ، تجعل من الصوم الكبير زمن تجدد في المؤمنين وفي الكنيسة، لأنها وسائل لنيل مغفرة الخطايا من خلال التوبة والمصالحة مع الإخوة والإهتمام بخلاصهم، وعيش المحبة الإجتماعية نحو “أخوة يسوع الصغار”: الجائع والعطشان والعريان والغريب والمريض والسجين (متى 25: 31- 46)، ماديا وروحيا، ثقافيا ومعنويا، إقتصاديا واجتماعيا. في الواقع تدعو الكنيسة، في تعليمها الرسمي، أبناءها وبناتها إلى أعمال محبة ورحمة يساعدون بها هؤلاء في حاجاتهم الجسدية كإطعام الجائع، وإيواء الشريد، وإلباس من لا ثوب له، وزيارة المرضى وافتقاد الأسرى؛ وفي حاجاتهم الروحية كالتعليم والتربية والتعزية والتشجيع، والغفران والمصالحة والإحتمال بصبر. إننا نقدر مؤسساتنا الكنسية، التربوية والاستشفائية والاجتماعية والخيرية، التي تتفانى في تلبية هذه الحاجات، إلى جانب العمل الراعوي والمؤسسات المدنية والخاصة المماثلة. كما نقدر مبادرات الأفراد والجماعات الراعوية والمنظمات الرسولية التي تساعد في هذا الإطار. فلا بد من مضاعفة الجهود والقوى لكي نحافظ على شعبنا المسيحي في لبنان وسوريا والعراق ومصر وفلسطين والأراضي المقدسة، للمساهمة في نهوض هذه الأوطان على القيم الثقافية والاقتصادية والإنمائية. ونعرب عن امتناننا لأبناء كنائسنا وأوطاننا المنتشرين في عالم الاغتراب، على يد العون التي يمدونها، بسخاء، لمدنهم وبلداتهم ولأهلها”.

أضاف: “يدعو قداسة البابا فرنسيس، في رسالة الصوم، إلى الخروج من حالة الأنانية وعدم الإكتراث أمام هذه الحاجات الجسدية والروحية الآخذة بالتزايد، وقد أصبحت هذه الحالة عالمية. ولا مجال للخروج منها إلا بالإمتلاء من محبة الله التي تنقلها إلينا الكنيسة بإعلان كلمة الإنجيل، فنسمعها بإصغاء، وبتوزيع الأسرار، وبتقبل النعمة المكنونة فيها، ولا سيما في سر الإفخارستيا. ويذكرنا البابا فرنسيس بثلاثة نداءات: الأول من القديس بولس الرسول: “إذا تألم عضو، تألمت معه كل الأعضاء” (1كور 12: 6). إنه سر الكنيسة – الشركة، وجسد المسيح الواحد والمتنوع الأعضاء، الذي نعيش فيه واقع الترابط بالمشاعر الإنسانية. الثاني من كلام الله لقايين في سفر التكوين: “أين أخوك؟” (تك4: 9). إنه دعوة للمحافظة على رباط الأخوة بين جميع الناس بروح المسؤولية والتضامن. الثالث من القديس يعقوب الرسول: “ثبتوا قلوبكم” ( يع 5: 8). إنه دعوة للتغلب على تجربة عدم الإكتراث، ولتكوين قلب فينا يكون رحيما، قويا وصامدا؛ وقلبا فقيرا من الذات، متفانيا في سبيل الآخرين في حاجاتهم”.

وتابع: “أنتم تعلمون، أيها الأخوة والأخوات الأحباء، كم هي متزايدة حاجات شعبنا في لبنان وسوريا والعراق ومصر والأراضي المقدسة، بسبب الحروب والدمار والنزوح والتهجير والإفقار، بسبب الأزمات الإقتصادية والمعيشية المتزايدة، والبطالة وضآلة فرص العمل. فلا بد من مواجهتها بالتضامن وتوحيد القوى في عيش المحبة الإجتماعية. ستقوم، رابطة كاريتاس- لبنان، وهي جهاز الكنيسة الرسمي الإجتماعي والإنساني والإنمائي، بحملة الصوم السنوية، في الرعايا والمدارس والجامعات والمؤسسات، لجمع التبرعات والصواني والهبات. هذه كلها موجهة لتلبية هذه الحاجات. إننا ندعوكم إلى سخاء المحبة بروح التضامن والترابط والتعاون، من دون أن ننسى أن “خيرات الأرض معدة من الخالق لجميع الناس”، وأن “الملكية الفردية لخيرات الدنيا مطبوعة برهن إجتماعي” من أجل تقاسمها مع المحرومين منها والمعوزين”.

وختم الراعي: “نتمنى لكم جميعا صوما مباركا، نجدد فيه، معا، علاقاتنا مع الله والذات بالصلاة والتوبة الداخلية، ونرمم علاقات الأخوة مع من نحن في حالة نزاع معهم بالغفران والمصالحة، ومع “أخوة يسوع الصغار” بأفعال محبة ورحمة. ونلتمس من المسيح الفادي أن يزكي فينا “الجوع والعطش إلى البر” (متى 5: 6). مع دوام صلاتي ومحبتي”.