حازم الامين/طهران قالت الأمر لي في سورية الصغرى

279

طهران قالت «الأمر لي» في سورية الصغرى
حازم الامين/الحياة/25 كانون الثاني/15

قالت إيران للعالم عقب الغارة الإسرائيلية على موكب الحرس الثوري في القنيطرة: «الأمر لي في دمشق». وجاء نعيها الجنرال في الحرس الثوري الذي قُتل مع القادة العسكريين في حزب الله مهيناً لما تبقى من نظام بشار الأسد، ثم توجت الإهانة بتلويحها بفتح جبهة الجولان، في ظل صمت غريب ومُطبق مارسه ما تبقى من نظام البعث. رسائل كثيرة ومتعاقبة أرسلتها طهران في الـ48 ساعة التي أعقبت الغارة، كلها تمحورت حول رغبتها الشديدة في أن تكشف حقيقة أن النظام السوري لم يعد شيئاً، وأنها من يدير كفة كل شيء في دمشق.

والحال أن وثبة طهران الأخيرة جاءت في سياق إقليمي ودولي يؤشر إلى أن ثمة بحثاً فعلياً يجري حول مستقبل سورية، ويبدو أن الغارة الإسرائيلية كانت جزءاً من هذا الحوار. فالمرجح أن مهمة الموكب العسكري الذي كان متوجهاً إلى القنيطرة كانت حجز موقع لطهران على خط النزاع مع إسرائيل في لحظةٍ يُعاد فيها البحث في الخريطة السورية. أرادت إيران أن تقول إن الجولان جزء من «سورياها»، وأجابت إسرائيل بالغارة. حصل ذلك في ظل تقارب إيراني أميركي، ولقاءات بين وفود رفيعة المستوى من البلدين.

ما يُشير إليه مراقبون وديبلوماسيون لجهة أن ثمة «سورية مفيدة» هو ما بدأت حدوده تلوح حيث طموحات النظام فيه شبه مؤكدة، وثمة، في المقابل، مناطق واسعة من سورية تُمثل اليوم عبئاً عليه. وأن تُقتطَع من سورية مساحات «سنية»، في الشمال والشرق والجنوب، سيكون ذلك نموذجياً للأسد. والمُرجح أن لا يكون الرئيس الضعيف بوارد التمسك بمساحة مواجهة مع إسرائيل في ظل انكماش دولته الجديدة، ذاك أن «ضرورات المواجهة» كانت أملتها على نظام البعث حاجته كنظام أقلوي إلى عصبية (أكثرية) موازية للعصبية المذهبية الأقلوية. ثم إن دولته الجديدة الممتدة من دمشق إلى الساحل مروراً بحمص ستخفف من عقدة أقلويتها، وإن كانت لن تعدمها، وهو ما سيُخفف عن نظامها ثقل الشرط الممانعاتي في السلطة.

الأرجح أن طهران قالت لبشار «لا». فسورية الجديدة لن تكون «مفيدة» لها إذا ما اقتطعت منها حدود «المواجهة»، تلك التي تُجيد طهران توظيفها في سعيها للتحول قوةً إقليمية مطلة من غير مكان على الحدود مع إسرائيل. وهنا على المرء أن يرصد تعمد إيران «إهانة» بشار الأسد! فأن تُهدد على لسان مسؤولين رسميين فيها بفتح جبهة الجولان، فهذا يمثل رسالة قوية إلى دمشق، لا إلى تل أبيب التي تعرف جيداً أن الجبهة لن تُفتح. وجاء الصمت الرسمي السوري حيال هذه التصريحات ليُشير إلى عدم رضا، أو إلى قبول الضعيف بحكم «قرقوش».

وإذا كانت هذه طموحات طهران، فإن لتل أبيب طموحاتها في شكل «سورية المفيدة» أيضاً. فالمرجح أن يُناسبها نظام أقلوي على تلك المساحة من سورية، لا سيما إذا اقتطعت منها مناطق التماس معها. لكن الجارة الضعيفة مرشحة لنفوذ «امبرطوري» إيراني يجيد توظيف الحدود لتعزيز أحلامه في النفوذ. «سورية المفيدة» يجب أن تبتعد قليلاً عن الحدود مع إسرائيل. هذا ما حملته الغارة الإسرائيلية من رسائل، وهي في أكثر من اتجاه: إلى طهران وإلى دمشق، ولكن أيضاً إلى واشنطن. فالإقرار الأميركي المستجد بنفوذ طهران في العراق وفي سورية، ومؤخراً في اليمن، يجب أن لا يرقى إلى مرحلة إقرار بالنفوذ على مساحة جديدة من الحدود مع إسرائيل، لا سيما أن طهران استعادت «حماس» مؤخراً، وبالتالي تضاعفت نوافذها على تل أبيب في المرحلة الأخيرة.

لكن يبدو أن ضمور سورية لن يعني تقسيماً، فالمناطق التي تفيض عن مساحة الدولة الجديدة، وهي أكثر من ثلثي مساحة سورية، لا يبدو أنها مرشحة لأن تتحول إلى دول. الجنوب الذي تتصارع عليه طهران وتل أبيب لا يتسع لدولة، وهو في معظمه امتداد لبادية تطمح بمياه جبلها وبأفخاذ عشائرها، فيما الشمال والشرق اللذان تصول «داعش» في ما تبقى منهما بعدما دمر الأسد مدنهما، فتشملهما طموحات امبراطورية موازية تخترق الحدود السورية العراقية وتصل إلى نينوى، فتستعيد أحلام طريق الحرير وولاية الموصل وتضم حلب إليهما. وما الصورة التي التقطها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لنفسه محاطاً بجنود يرتدون أزياء تلك المرحلة وغيرها من مراحل الصعود الإمبراطوري لتركيا، سوى مؤشر رمزي على ما يمكن أن يجول في رأس الرجل. فـ «داعش» التي اقتطعت تلك المساحات والمدن من سورية والعراق يُمكنها أن تُغير الخرائط، لكنها لن تتمكن من البقاء فيها، وتركيا الأردوغانية التي قالت للعالم إنها تريد ثمناً إذا ما قررت أن تقضي على «داعش»، تُفكر من دون شك بتلك المساحة، وتعرف أن سورية «المفيدة» والعراق «الشيعي» لن يتسعا لحلب وللموصل، وأن المدينتين كانتا ذات يوم خارج هذين الوعاءين.

طبعاً تتفاوت سرعة التوجه نحو هذا المصير الافتراضي لسورية بين الشمال والجنوب. في الجنوب يبدو أن البحث به وضع على نار حامية. وساعدت على تسريع البحث حقيقة أن تل أبيب لا تؤجل ملفاتها، وتجيب عن عمل طهران الدؤوب والممل لإنتاج جبهة جديدة في الجولان بسرعة وحسم يُشبهان وثباتها منذ نشوء كيانها. ومن الواضح أنها حددت ماذا تريد. لا تريد لبشار أو لنظامه أن يتهاوى، وفي الوقت نفسه تريد حدودها في يد معارضيه من أبناء المنطقة، فهؤلاء أضعف من أن تكون لهم طموحات بدولة، وربما كان من السهل إلحاقهم في ما بعد بامتداداتهم الجغرافية والعشائرية. قال ديبلوماسي غربي لصحافي عربي ذات يوم ليس بعيداً، إن ما تريده الولايات المتحدة من ســورية أخذته، وهو ترسانتها الكيماوية وتأمين الحدود مع إسرائيل وبعض الاستقرار في لبنان. واليوم، وفق هذا الديبلوماسي، يتقاتل في سورية أشد عدوين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط عداء، وهما «داعش» و»حزب الله»، وهذا ما أمّن لواشنطن ما لا يؤمنه لها وجودها العسكري المباشر. صاحــب هذا الاعتقاد أصــيب بخــيبة جراء واقعة القنيطرة. طهران قالت «الأمر لي» على الحدود السورية الإسرائيلية، وجواب تل أبيب كان مؤلماً.

الإرهاب الجهادي ونظرية المؤامرة…

أكرم البني/الحياة/25 كانون الثاني/15

على رغم كشف هوية منفذي الهجمات الإرهابية في فرنسا ووضوح ارتباطهم بالجماعات الجهادية في اليمن والشام، ثمة من لا يزال ينكر هذه الحقيقة ويعتبر ما جرى مؤامرة مدبرة مسبقاً للنيل من الاسلام والمسلمين:

– مرة باتهام السلطات الفرنسية ذاتها بأنها من افتعل هذه الاعتداءات لتعزيز حضورها في التحالف العسكري ضد تنظيم داعش ولاتخاذ اجراءات تشدد الحصار على الوجود الاسلامي في البلاد وعلى الشبكات الجهادية المتطرفة وكوادرها العائدة من سورية والعراق، بدليل السرعة القياسية في معرفة الجناة، والاستقواء بالحشود المليونية لتمرير توافقات أمنية تغلق بعض الثغرات التي تسهل تواصل الجهاديين وحرية تنقلهم بين البلدان الأوروبية.

– ومرة ثانية، اتهام إسرائيل بالوقوف وراء الحدث لتغطية جرائمها وتشويه النجاح الدبلوماسي الفلسطيني، وللرد على تصويت فرنسا في مجلس الأمن لمصلحة الدولة الفلسطينية، ويعتقد متهمو تل أبيب بأن واشنطن كانت ترصد تحركات هؤلاء الإرهابيين، ولكنها لم تحذر باريس كي ينفذ العقاب الاسرائيلي، وبأن مقتل أربعة يهود في عملية احتجاز الرهائن محاولة للتضليل والتمويه.

– ومرة ثالثة، اتهام نظامي سورية وإيران، ليس لأن لهما باعاً طويلة في العلاقة مع قوى التطرف، بل بصفتهما أكثر الأطراف استفادة من هذه الاعتداءات، إن لجهة صرف النظر عن عنفهما المفرط وعن أوضاعهما المأزومة، وإن لجهة إثارة مخاوف العالم من إرهاب إسلاموي قادم وتأليب المزيد من المواقف الغربية ضده، في رهان على تخفيف عزلتهما والحصار المطبق عليهما.

يصح القول إن نظرية المؤامرة لا تزال تسيطر على عقول وقلوب الكثيرين الذين تشربوها منذ نعومة أظفارهم، لكن الارهاب الجهادي يحفز عادة حضورها لأسباب عدة، منها غموض عملياته وسهولة اختراق أدواته ما يثير الريبة والشكوك بارتباطاته وأهدافه، ومنها المروحة الواسعة من المستفيدين من ضرباته ممن يجمعون على استرخاص أرواح المدنيين الأبرياء لتكريس الخوف والرعب وتثبيت سياساتهم ومصالحهم، ومنها توظيف نظرية المؤامرة من قبل الاسلام السياسي المعتدل لتفنيد ما يثار عن التلازم بين الاسلام والإرهاب، ولإقناع الآخرين بأن بيته الديني نظيف تماماً من الأفكار الاقصائية، ولا تحجب هذا الهدف المريب، إداناته الشكلية للإرهاب مهما تشددت لفظاً أو تكرار القول إن الاسلام برئ مما يجري وأنه دين وئام ورحمة، حيث لا مصلحة للإسلام السياسي اليوم في إثارة جدل واسع حول دور الدين في السياسة وحول إخفاق بعض جماعاته في بناء الحكم الرشيد بعد أن منحها الربيع العربي فرصة ثمينة، أو حول اتهامه بأنه حاضنة موضوعية للتطرف والإرهاب، والأهم حول جدوى الرهان عليه كحل لرفع الظلم والتمييز عن المسلمين أمام تقدم أفكار تجد جدوى ذلك في تصدر المسلمين الصفوف الأولى للدفاع عن شعار الدين لله والوطن للجميع، وعن برامج تبعد الاسلام عن دنس السياسة وتسعى الى ضمان حقوق الناس على قاعدة مجتمع المواطنة.

والحال، أن الترويج لنظرية المؤامرة محاولة لحرف الوقائع وطمس الأسباب الذاتية التي شجعت انتشار الفكر المتطرف وأضرمت النار في هشيم الإرهاب وساهمت في دعمه، كفساد الأنظمة واستبدادها وعنفها، ثم الأوضاع التنموية المزرية التي خلفت جموعاً غفيرة يكويها الفقر والتخلف، فضلاً عن ارتفاع حمى الصراع المذهبي البغيض واستمرار ظلم المسلمين في فلسطين وغير بلد عربي، والأهم غياب خطاب صحي ينأى بالدين عن مستنقع السياسة ويعلي قيمه السامية.

والقصد أن هذه الأسباب مهدت الطريق لتبلور جماعات مارست وتمارس الإرهاب باسم الإسلام، وهي ما ينبغي تركيز الضوء عليها والعمل لتغييرها، بغض النظر عن قدرة السلطات والأجهزة الأمنية على اختراق هذه الجماعات وتوظيفها.

فلماذا نخشى الاعتراف بأن الإرهاب استوطن أرضنا العربية والإسلامية وصارت له اجندة خاصة يسعى الى تنفيذها بغض النظر عن رعاته وداعميه، وبأن مسؤوليتنا باتت التحرر من اوهام وجود قوى غير مرئية تتآمر علينا، ونفض اليد من التوظيف السياسي للإرهاب بتصوير كل عدو كصانع له؟ ألم يعتبر بن لادن صنيعة أميركا في أفغانستان ثم انقلب عليها، أولم يظهر العديد من المعلومات حول علاقة بعض الجهاديين بالنظامين السوري والإيراني، قبل أن ينقلبوا ويقاتلوا في صفوف «داعش»؟ ثم أي معنى لشجب حوادث الإرهاب الاسلاموي وإدانتها إن لم تترافق بالسعي الجدي لنزع صاعق التفجير الديني بفصل الدين عن السياسة وبناء رؤية للإسلام تتناغم مع متغيرات العصر؟ وبالتالي كيف يمكن أن نتفاعل مع الحضارة العالمية ومختلف الثقافات إذا لم ندرك بأن الخلافات والإساءات التي يخلقها التنوع الديني تعالج عبر سيادة القانون لا عبر لغة القوة والقتل؟ وإذا لم نحارب ذلك الارتياح الدفين لما يحصل من أذى وتنكيل بالمدنيين من أديان ومذاهب أخرى تفضيلاً للإسلام ودفاعاً عن رسوله الكريم؟ وإذا لم نرفض تلك الانتكاسة التي حصلت لردود الأفعال المناهضة للإرهاب بعودة تبرير العنف والقتل حين قررت الصحيفة الفرنسية نفسها نشر رسوم تسيء للإسلام؟!.

فيما مضى وبعد تفجيرات أيلول (سبتمبر) 2001 شكك الكثيرون بأن يكون تنظيم القاعدة وراء الحدث، وغمزوا من قناة مسؤولية السلطات الأميركية في تدبير تلك المؤامرة الرهيبة لتبرير حربيها على أفغانستان والعراق ومد ذراعها العسكرية طويلاً، وعلى رغم إعلان بن لادن مسؤوليته عنها وانتماء كل الانتحاريين إلى «القاعدة»، لا تزال تأسر بعض النخب السياسية والثقافية فكرة المؤامرة وتستقوي بكتاب «الخدعة الرهيبة» لتيري ميسان الذي حاول إثبات دور واشنطن في تفجير مقر البنتاغون وبرجي تجارتها. واليوم، بعد الاعتداءات التي جرت في فرنسا، يبدو أن ثمة من يريد الاستمرار في العزف على الوتر نفسه، كأنه يريد بمجتمعاتنا أن تسير بأقدامها نحو تحقيق نبوءة صموئيل هنتنغتون، وأن تخوض صراع حضارات يخرج أبشع ما فيها ويفقدها عمق قيمها الاخلاقية والإنسانية.