مجلة المجلة/إسرائيل تغتال الزراعة في جنوب لبنان

30

إسرائيل تغتال الزراعة في جنوب لبنان

تضرر 10 ملايين متر مربع… خسارة موسمي التبغ والزيتون وإبادة قطاع الدواجن والماشية

سلوى بعلبكي/مجلة المجلة/13 حزيران/2024

شريطٌ من نحو مئة قرية حدودية، يمتد صعوداً من بحر مدينة الناقورة الساحلية حتى تلال كفرشوبا عند أقدام جبل الشيخ، المتاخم لمرتفعات الجولان السوري، أثخنتها النيران المتبادلة، وأتلفت مزروعاتها وأشجارها المثمرة الحرائق الناتجة من القذائف الفوسفورية المحرمة دولياً، وبات المزارع الجنوبي المنهك مالياً ونقدياً في الأساس من تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان منذ 2019، رهينة خيارين أحلاهما ذلّ وفقر وتشرد.

أول الخيارين، بقاؤه وصموده في أرضه متآخياً مع الخطر والجوع وفقدان محاصيله وجنى عمره، إلى حين إنتهاء “حرب الآخرين على أرضه”.

وثانيهما، المغادرة نحو الملاذات الآمنة في الداخل اللبناني، متخلياً عن بساتين وحقول ومواسم ثمار الصيف من تفاح وعنب وكرز ورمان وغيرها، إلى الزيتون الجنوبي وزيته المميز، والمغامرة بخسارة كلية لعائدات سنوية لطالما استعان بها لتأمين قوت عائلته، وسندت موازنته الشخصية في مواجهة الإنهيار الاقتصادي وسقوط النقد الوطني.

خسائر كبيرة و”إتلاف أراض، وتلوث كيميائي مما أدى إلى فقدان خصوبة التربة”، و”زيادة تلوث المحاصيل ومصادر المياه بسبب القصف بقذائف الفوسفور، مما يشكل تهديدا للماشية وصحة الإنسان”

تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)

بحسب مسح أجرته عام 2021، قدرت وزارة الزراعة المساحات الزراعية في محافظتي الجنوب والنبطية بنحو 570 مليون متر مربع، فيما يصف تقرير “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” (UNDP) الزراعة في جنوب لبنان، بأنها “مصدر رزق أساسي في المناطق الحدودية”.

الأثر البيئي السام

ويتحدث التقرير عن خسائر كبيرة و”إتلاف أراضٍ، وتلوث كيميائي، وتلوث من بقايا المتفجرات مما أدى إلى فقدان خصوبة التربة”، ويسترسل في وصف الأضرار و”زيادة تلوث المحاصيل ومصادر المياه بسبب القصف بقذائف الفوسفور، مما يشكل تهديداً للماشية وصحة الإنسان”.

أ.ب. 

النار والدخان يتصاعد من وسط بستان، بعد قصف مدفعي فوسفوري على قرية بالقرب من الحدود الإسرائيلية اللبنانية.

وكذلك، يسلط التقرير الضوء على أخطار استعمال إسرائيل الفوسفور الأبيض، وعواقب استعماله على “المناطق المحمية والغابات والمراعي والمسطحات المائية ونوعية الهواء والأراضي” وما قد يتسبب به من “أضرار بيئية واسعة النطاق، مما يؤثر على النظم البيئية الطبيعية، ونوعية المياه، ويشكل خطراً مستمراً على صحة الإنسان وسلامته”.

إن عدد الحرائق الناتجة من الاستهداف بالفوسفور تقدر بـ 812 حريقا واستهدافا، فيما مساحة الاراضي المحروقة بالكامل أكثر من 2400 دونم، أما مساحة الاراضي المتضررة (حرجية وزراعية) فتصل الى 6500 دونم

وزارة الزراعة اللبنانية
وهذا ما اشارت اليه ايضا دراسة للجامعة الأميركية في بيروت عن الأثر البيئي للحرب الدائرة في الجنوب، والتي أدت إلى تدمير طاول الطبقة الخصبة من تربة الأراضي الزراعية، إذ يؤدي سقوط القذائف إلى نشر مواد سامة وعناصر كيميائية ثقيلة مثل الكوبالت والزئبق والرصاص. وبحسب نتائج فحوص مخبرية أجريت في مختبر البيئة والزراعة والغذاء التابع للجامعة ثمة عناصر كيميائية مثل الرصاص والباريوم والأنتيمون في التربة تأكد وجودها في التربة، اضافة الى تركيزات عالية لعنصر الفوسفور في التربة تجاوزت في إحدى العينات 121 ضعف الحد الطبيعي، وبلغت 97000 ملليغرام، في حين يجب ألا تتجاوز 800 ملليغرام لكل كيلوغرام من التربة.

ولكن دراسة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تشمل الأشهر الأولى من الحرب لغاية نهاية 2023، وتاليا ستكون هذه الارقام مضاعفة مرات عدة في التقرير المحدث الذي يتوقع صدوره قريبا، وخصوصا أن وتيرة الحرب ارتفعت، وارتفعت معها الاضرار الزراعية والمساحات الكبيرة من الاراضي التي حرقت بفعل القذائف الفوسفورية.

ديانا استيفانيا روبيو ديانا استيفانيا روبيو

في احصاءات حديثة، أكدت وزارة الزراعة اللبنانية لـ”المجلة” إن عدد الحرائق الناتجة من الاستهداف بالفوسفور منذ 8 أكتوبر/تشرين الاول 2023 حتى 5 يونيو/حزيران الحالي قدرت بـ 812 حريقا واستهدافا، فيما مساحة الاراضي المحروقة بالكامل أكثر من 2400 دونم، أما مساحة الاراضي المتضررة (حرجية وزراعية) فتصل الى 6500 دونم.

إبادة قطاع الدواجن والماشية

في قطاع الدواجن والماشية، يمكن القول إن ثمة إبادة تامة، إذ تسبّبت آلة الحرب الاسرائيلية بتدمير 12 مزرعة بشكل تام، عدا نفوق عدد كبير من أفواج الدجاج بسبب القصف الاسرائيلي المباشر، أو بسبب عدم قدرة المزارع الوصول اليها فنفقت تلقائيا. إذ تشير احصاءات وزارة الزراعة الى أن الصراع تسبب “في خسائر كبيرة في الماشية والدواجن وتربية الأحياء المائية”، إذ “قُتل نحو 340 ألف طائر، وأكثر من 1000 رأس من الماشية، فضلاً عن تدمير 370 قفير نحل وتضرر نحو 3000 قفير نحل بشكل جزئي نتيجة اطالة الحرب والنزوح”.

خسارة موسم التبغ، وهو مصدر رزق أساسي لـ 17 ألف عائلة جنوبية، تستثمر نحو 5.5 مليون دونم، مع عائدات قدرت عام 2023 بنحو خمسين مليون دولار

بيد ان أكبر الخسائر الزراعية المتوقع إستفحالها في جنوب لبنان هي فقدان موسم زراعة شتلة التبغ، التي يبدأ موسم زرعها وفق التقويم المناخي عند شهر أبريل/نيسان، ويمتد حتى حلول وقت القطاف في شهر يوليو/تموز.

أكبر الخسائر موسم التبغ
فبسبب تصاعد وتيرة القصف اليومي، لم يتمكن المعنيون من تحديد المساحات التي تمكن الفلاحون من زراعتها، بالإضافة إلى عدم حسم مسألة التلوث الذي سيصيب الموسم وحجمه، في ما لو استمر عنف العمليات العسكرية على حاله، واستعمال إسرائيل للقذائف والصواريخ الملوثة للتربة والمزروعات، وتماديها في قصف الحقول والبساتين بالفوسفور المُضِرّ لكل حي نباتي أو حيواني أو بشري.  لطالما وُصِف جنوب لبنان بأنه معقل زراعة هذه النبتة، وأكبر مُنتِج لها مقارنة مع بقية المناطق اللبنانية.

تُعَدّ زراعة التبغ التاريخية في الجنوب، مصدر رزق أساسي لسبع عشرة ألف عائلة جنوبية، تستثمر نحو 5 ملايين ونصف مليون دونم، مع عائدات قُدِرَت عام 2023 بنحو خمسين مليون دولار بعد تحسن الأسعار، ومبادرة إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية (الريجي) التي تملك حصرية شراء المنتج، إلى تسديد ثمنه بالدولار “الفريش” (أي بحسب سعر السوق وليس تسعيرة مصرف لبنان).

المدير في مؤسسة حصر التبغ والتنباك جعفر الحسيني أكد لـ”المجلة” أنه تم تسلم كامل محصول 2023 قبل موعده وبصعوبة بالغة في مستودعات خارج القرى الأمامية، وتم دفع ثمن كامل المحاصيل بالدولار النقدي وبسرعة عبر شركات تحويل الأموال.

 يؤثر استخدام القذائف الفوسفورية سلبا على الحقول الزراعية، وتاليا على انحسار مساحاتها، كما تؤثر رواسب القذائف الفوسفورية سلب على جودة التربة وتترك أثرا لسنوات طويلة. لكن ماذا عن موسم 2024، يؤكد الحسيني أن قرابة 44 قرية على الحدود مباشرة خالية من سكانها تشكل 40 في المئة من عدد المزارعين في الجنوب الذين ينتجون نحو 42 في المئة من إنتاج الجنوب (باستثناء رميش حيث لا يزال 95 في المئة من سكانها في القرية) وجميعها معرضة لخطر الأعمال الحربية، وتاليا لا إنتاج فيها. وثمة 13 قرية قريبة من الحدود خالية من سكانها وتشكل 6 في المئة من عدد المزارعين في الجنوب وينتجون نحو 7 في المئة من إنتاج الجنوب. وهذه القرى تتعرض لبعض الأعمال الحربية، وقد تهجر جزء من سكانها ويمتنعون عن زراعة جزء من أراضيهم على اعتبار انها مسرح للأعمال الحربية.

ويتطرق الحسيني الى الأخطار التي تهدد زراعة التبغ، إذ يشير الى ان المزارعين في القرى أعلاه لم يتمكنوا من فلاحة أرضهم وتسميدها لزراعة الموسم الجديد، علما أنه لا يوجد زراعة سوى في رميش، دبل، والقليعة.

حقول جنوبية خضراء حولتها اسرائيل رماد وسموم

وأشار الى أن الحرائق طالت مساحات شاسعة تُزرع بالتبغ، فيما يؤثر استخدام القذائف الفوسفورية سلباً على الحقول الزراعية، وتاليا على انحسار مساحاتها، كما تؤثر رواسب القذائف الفوسفورية سلباً على جودة التربة وتترك أثراً لسنوات طويلة، عدا أثرها على المياه الجوفية ومختلف الحياة البيولوجية، مع الاخذ في الاعتبار أن استخدام القذائف الفوسفورية أدى الى اختلال الحياة البيئية والتنوع البيولوجي الضروري للزراعة.

 قرب حقول التبغ من الحدود يحتم على المزارعين العيش بخوف دائم، ولكن الاصعب من كل ذلك في رأي الحسيني هو “الدمار الحاصل في منازل المزارعين وعدم توافر إمكانات للتعويض وهذا ما قد يكون عائقا امام عودة كل مزارع الى بيته وممارسته لحياته السابقة كما يجب”، مؤكدا أنه “طالما الحرب مستمرة، لا يوجد أي تطرق الى موضوع التعويضات ولا الى مصدرها أو سبل التعويض”.

 بات المزارع الجنوبي المنهك ماليا ونقديا من تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان منذ 2019، رهينة خيارين أحلاهما ذل وفقر وتشرد

والى التبغ، ثمة أنواع أخرى من الزراعات وخصوصا الزيتون، حيث تشكل محافظتا الجنوب والنبطية ما نسبته 22% من مجمل قيمة إنتاج لبنان من الزيتون البالغ 2677 مليار ليرة، ووفق احصاءات وزارة الزراعة فقد استهدفت أكثر من 60 الف شجرة زيتون معمرة. كذلك يزرع الجنوبيون الخضر على مساحة تبلغ 1737 هكتارا منها 1621 هكتارا في محافظة النبطية، فيما يصل حجم الانتاج الى 51691 طنا بينها نحو 23685 طنا في محافظة النبطية.

مجلس الجنوب: الخسائر تمتد الى 5 سنوات

لا يمكن الركون الى احصاء محدد للأضرار الزراعية قبل انتهاء الأعمال الحربية، هو لسان حال المعنيين كافة في القطاع. وفي الانتظار، قدر رئيس مجلس الجنوب هاشم حيدر في حديث الى “المجلة” المساحات الزراعية الاجمالية الاولية التي تضررت بفعل الحرب بنحو 10 ملايين متر مربع، والاخطر وفق ما يقول ان “غالبيتها تضرر بفعل القنابل الفوسفورية، بما تتسبب بضرر على القطاع الزراعي لفترة قد تمتد الى 5 سنوات على الاقل، علما ان ثمة قرى ومناطق لا يمكن الوصول اليها، وتاليا لم نتمكن من الكشف على الاضرار الزراعية والسكنية التي حصلت”. مؤكدا انه حتى الآن لم يتقرر التعويض على المزارعين قبل الانتهاء من الاعمال العسكرية. وإذ قدر “عدد المنازل المهدمة بأكثر من 1700 منزل وأكثر من 14 ألف منزل أصيب بأضرار فادحة، توقع جلاء الصورة أكثر عند انتهاء الاعمال العسكرية”، حيث “يتوقع أن تكون الاضرار أكبر بكثير من تقديراتنا”. 

خلاف سياسي على التعويضات
ماذا عن قيمة الأضرار المالية؟ قدر هاشم حجم الاضرار التي لحقت بالمباني والمؤسسات والبنى التحتية جراء القصف الاسرائيلي على جنوب لبنان خلال سبعة أشهر بأكثر من ملياري ونصف مليار دولار، فيما قدر حجم الاضرار بمرافق البنية التحتية بنحو 500 مليون دولار، علما أن الاضرار طالت بشكل رئيس مرافق المياه والكهرباء والصحة والخدمات الأساسية والطرق”. أما عن مصدر هذه الاحصاءات فيشير هاشم الى أن 80% منها تم التوصل إليها عبر فرقنا الموجودة على الأرض، وكذلك من رؤساء بلديات ومخاتير يملكون معطيات عن قراهم.

حتى الآن لا معطيات عن قيمة التعويضات أو مصدرها وسط انقسام حاد في الرأي حيال هذا الموضوع، إذ ارتفعت أصوات تحتج على تولي حكومة تصريف الاعمال التعويض من خزينة الدولة، وهي التي لم يكن لها أي قرار بفتح الجبهة الجنوبية. وقد شكك هاشم في “قدرة الدولة على التعويض المادي للمتضررين خصوصا ان ثمة أضرارا في المؤسسات والبنى التحتية والسيارات”، معولا على “الدول المانحة وخصوصا العربية منها للمساعدة”.