مهى عون/قراءة سياسية في أحداث فرنسا الدينية

422

قراءة سياسية في أحداث فرنسا الدينية
مهى عون/السياسة
18 كانون الثاني/15

سوف نعتمد مصطلح “أحداث” بدل حصر الكلام بكلمة “مجزرة صحيفة شارلي إيبدو”, فكما يبدو, ما من شيء يؤكد أن المقتلة التي حدثت في الصحيفة (مقتل 12 عاملاً في الصحيفة بين رسام كاريكاتوري وإداري) انتهت عند هذا الحد, أو أنها لن تكون جزءاً من مسلسل شيطاني رهيب مثقل بالرسائل الأمنية للدولة الفرنسية وللاتحاد الأوروبي من ورائها, فالرسالة القاتلة التي هي بهذا الشكل نوع من التهديد المباشر أو عملية انتقامية ممن يلوثون صورة بعض الرموز الدينية في المسيحية والإسلام, ليست بعيدة من نمطية مسلسلات العمليات الإرهابية المتتالية التي نراها في ممارسات تطبيق الشريعة الإسلامية على يد تنظيمات أصولية كداعش وسواها, فالعملية الانتقامية ممن يتطاولون على الرموز الدينية المسيحية والإسلامية, وعلى رأسهم النبي محمد, تندرج هنا كما هناك ضمن ستراتيجية واحدة مغايرة تماماً لشكلها الديني الخارجي.

وإذا كانت نمطية الشكل الخارجي هي نفسها شرقاً وغرباً, بدليل استكمال المسلسل التخريبي الذي رأيناه منذ يومين في استهداف شرطية تعمل أمام مقر الرئاسة الفرنسية بعد مرور أسبوع فقط من الحادثة المروعة في مكاتب الصحيفة, وتمدد أصابع الإرهاب باتجاه بلدان أخرى مجاورة لفرنسا, مثل بلجيكا, فمن المهم الإشارة إلى أن هذا المسلسل يندرج تحت عنوان واحد هو لي ذراع الإدارة الفرنسية التي تطبع بسياستها مجمل قرارات الاتحاد الأوروبي. ومن دون ولوج جدلية الصراع القائم بين الحريات والمعتقدات الدينية, وأين تبدأ هذه وتنتهي تلك, وبعيداً من هذه الجدلية العقيمة التي كثر الكلام عنها في مختلف وسائل الإعلام الغربية والعربية وتم تشريحها وتحليلها بالطول والعرض, لا بد من التسليم بأن هذا الإرهاب القاتل ليس سوى امتداد لما يعيشه العالم العربي والمشرقي منذ عقود تحت غطاء الدين, والذي لم يكن هنا وهناك سوى غلاف لرسالة مضمونها معروف ومقروء, وهو “إما الامتثال والتدجين والرضوخ أو القتل والفوضى”.

وللجواب على تساؤل يراود الذهن, وهو: تدجين من ولمصلحة من? يمكن القول إن الأصابع الخفية التي حركت وزعزعت أمن سورية والعراق ومنعت الثورات هناك من تحقيق حلمها وأهدافها, هي نفسها التي تحاول العبث بالمجتمعات الغربية والفرنسية اليوم على وجه التحديد, وإن بمضمون مختلف عن مضامين الرسائل الموجهة عبر موجات الإرهاب الداعشي للشعوب العربية الثائرة والمعارضة. هذه اليد إياها التي ظهرت فجأة في الداخل الفرنسي لمعاقبة رسامين كاريكاتوريين أهانوا المقدسات والرموز المسيحية والمسلمة, لم تكن في الحقيقة سوى وسيلة لإيصال رسائل لمن يعنيهم الأمر. لكن هل وصلت الرسالة فعلاً? وهل قرأها الرئيس الفرنسي بشكل جيد بعد أن سمعناه في الأيام التالية للعملية الإرهابية يعرب عن أسفه لعدم تدخل فرنسا بشكل مبكر على صعيد المشهدية السورية لدعم الشعب السوري والوقوف مع ثورته في وجه الطاغية?

وفي حال أن الرئيس الفرنسي قرأ الرسالة جيداً, فالذي يمكن قوله في هذا الخصوص هو أن موقفه حيال الوضع السوري يتناقض وفحوى الرسالة الإرهابية التي تهدف إلى ليِّ الذراع الفرنسية وتطويعها وتغييرها. من هنا يمكن فهم الموقف الرئاسي الفرنسي الأخير بعد التفجير الذي طاول صحيفة “شارلي إيبدو”, من باب “النكاية “, أي من باب الإعراب عن نية عدم الامتثال والرضوخ لضغوط الإرهاب كوسيلة لتغيير موقف دولة عظمى كالدولة الفرنسية, مع العلم أن هذه اليد الآثمة إذ تجسد أنظمة مارقة وإرهابية وربما مستاءة من سياسة الدولة الفرنسية التي آثرت عدم التورط في “مسرحية” قوات التحالف الدولية لمكافحة التنظيمات الإرهابية في العالم العربي, هذه اليد تتجسد في تنظيمات إرهابية ليست في الحقيقة مستقلة في قرارها, فهي قائمة ومستمرة لأنها فقط مدعومة وتغذيها دول وأنظمة هي نفسها من ضمن قوات التحالف أيضاً, وهذا أمر بات معروفاً ومقروءاً بخصوص تنظيم داعش اليوم في بلاد العراق والشام.

وإذا كان الإرهاب, كل إرهاب, متعاوناً في العمق مع الطغاة وأنظمة الاستخبارات العالمية, فهذه الجريمة البشعة استهدفت صحيفة “شارلي إيبدو” الفرنسية في مشهدية انتقام شكلاً, لما تجسده هذه الصحيفة من “انفلات” كامل لاحترام الرأي والرأي الآخر والمعتقد الآخر شكل نقطة ضعف وثغرة في التشريع الفرنسي حول الحريات العامة يتناقضان مع روح ثقافة الحريات في فرنسا وفلسفتها وموروثاتها, وخصوصاً العائدة منها للفيلسوف الفرنسي “فولتير”, وتم بسببهما اختراق فرنسا من الإرهاب العابر للقارات, بهدف زعزعة الأمن في فرنسا, تماماً كما استُغلت وتُستغل نقطة الضعف في المجتمعات العربية عن طريق المزايدة في مسالة التزمت والتشدد الديني.

لذا يمكن القول إن لا الصحيفة ولا مسألة التعدي على الأديان السماوية في فرنسا وعالم الغرب عامة, هو الدافع الوحيد للعمل الإجرامي الأخير, وإذا كان صحيحاً أن العالم أجمع هرول إلى فرنسا للتضامن مع ما جعله الفرنسيون في مقدمة مقدساتهم, أي “حرية الرأي والكلمة” فالذي تم التعتيم عليه في هذه التظاهرة وفي وقفة التضامن مع شعار حرية الرأي المنتهك في جريمة “شارلي إيبدو”, هو تغييب التضامن مع ضحية الإرهاب الأخرى, وهو الإسلام الحقيقي, وليس كما يحلو للبعض تسميته بالإسلام المعتدل. في الحقيقة الإسلام الحنيف هو ضحية مماثلة للحرية, وهما ضحيتان يتم ذبحهما اليوم شرقاً وغرباً على مذبح الإرهاب الدولي. وقد لا يكون من باب المزايدة والافتراء القول إن أحداث الشرق الأوسط, ولا سيما أزمة المراوحة في عدم التوصل لحلول جذرية في سورية والعراق, باتت ترخي بثقلها على أمن دول القرار واستقرارها, وفي مقدمها الدولة الفرنسية, فما من أمور مستحيلة في ظل التداخل الحاصل بين الشرق والغرب بعد تحول العالم قرية صغيرة نتيجة سهولة وتكثيف وسائل الاتصالات والتواصل. لذا يمكن القول إنه ليس مهماً ومفصلياً أن تستدرك الدولة الفرنسية وتقرر ربما سَن قوانين صارمة تمنع بموجبها التعدي على المعتقدات الدينية المسيحية والإسلامية, أسوة بالتشريعات التي تمنع المس بالمعتقدات اليهودية حتى تكف شر الإرهاب المتطرف عنها. فما يمكنه حماية أمن واستقرار فرنسا والولايات المتحدة وسواهما, هو تبني سياسة حكيمة وأكثر عدلاً وتجرداً من تلك التي هي بصددها في منطقة الشرق الأوسط حالياً. وإذا كان الكيل بمكيالين لا يهمها, وهي ربما مقررة المضي بسياستها المجحفة والمواربة, كون نتيجة التداعيات الإرهابية الحاصلة سوف تطاول شعوبها في المرتبة الأولى ولا تطاولها هي, فالذي يمكن قوله إن هذه الأنظمة لن تكون بمنأى عن مصير أنظمة الشرق الأوسط البائدة, مع فارق أن الشعوب الغربية ليست بمستوى ركاكة الشعوب المشرقية العربية ووهنها ومماطلتها ونلكؤها في اتخاذ قرار المحاسبة, حيث إنها -أي الشعوب الغربية- قد تكون أقسى وأعتى وأشرس في دق ناقوس الخطر لأنظمتها.