منى فياض/دماء على جسد الجمهورية العلمانية:امتحان المجتمعات العربية بعد إرهاب شارلي إيبدو

228

دماء على جسد الجمهورية العلمانية:امتحان المجتمعات العربية بعد إرهاب “شارلي إيبدو”

منى فياض
17 كانون الثاني 2015

بعد إرهاب “شارلي إيبدو”، يطلّ الامتحان الصعب للمجتمع الفرنسي ومواطنيه، وللمجتمعات العربية ومسلميها، وهذه الأخيرة منقسمة بين مواطنين ينتمون الى دولهم ومسلمين ينتمون الى دينهم وتعصبهم، متخلّين عن جنسياتهم. فهل ينجح رهان النخب الفرنسية فيقاوم المجتمع الفرنسي، الانجرار نحو الانتقام المضاد والغرق في الإسلاموفوبيا، متمسكاً بالقيم التي حققتها ثورته وجعلت منها شعاراً كونياً ومثالاً تحلم الشعوب بتحقيقه: حرية، عدالة ومساواة، أم سنعاين 11 أيلول جديداً بنتائجه الكارثية على العالم أجمع، مع المساهمة في فبركة إرهاب أشد بشاعةً؟

دعونا لا نتظاهر بالبراءة الكاذبة من جريمة هؤلاء. تدين الحكومات على اختلافها هذه الجريمة، متناسيةً أن الخميني نفسه أمر بقتل سلمان رشدي، وأننا نعيش في ظل قتل الأسد يومياً لعشرات السوريين، وأن مَن يُقتل على أيدي العرب والمسلمين يفوق بأضعاف مَن يُقتل بيد “الأعداء”، ولبنان شاهد على هذا كل يوم.
بعيداً من تحديد معنى الارهاب والعوامل المنتجة له، سواء في الغرب أو في الشرق، وبعيداً من التهمة الجاهزة، ذات الطابع العنصري والقدري، في أن العنف من مكوّنات الثقافة العربية الاسلامية، لا بد من الإشارة الى مساهمة تاريخنا الحديث وحاضرنا في إنتاج الحالة الراهنة التي نعانيها.
غداة وصولي الى الإسكندرية لحضور مؤتمر “نحو استراتيجيا شاملة لمواجهة التطرف”، سمعتُ تعليقات مستنكرة من بعض المدعوّين: “السيسي يطالب بثورة دينية”، في إشارة إلى مضمون خطابه لمناسبة المولد النبوي الشريف. بماذا يختلف هذا التساؤل عن موقف القيادي السلفي الذي يطالب السيسي بالتوبة بعد دعوته تلك، التي وصفها بالانقلاب على الدين؟

تملّق الإسلاميين
تكمن خلفية هذا الاستهجان الرافض ضمناً أيّ مس بالدين، ولو من طريق النقد البناء والإصلاح الديني، في أن الشعوب العربية ومثقفيها التقليديين اعتادوا على أنظمة تجهد في تملق الإسلاميين واستخدامهم أداة مواجهة للشيوعيين واليساريين والليبيراليين منذ نشوء الدولة الوطنية بعد اتفاق “سايكس بيكو” حيث لجأت الأنظمة العربية في مختلف اتجاهاتها إلى تغطية فشلها ولا شرعيتها “المزعومة” (لعدم قدرتها على تحقيق دولة الخلافة العربية) باللجوء الى القمع غالباً بغطاء ديني وباسم فلسطين.
يُفترض عادةً أن الحداثة تكون علمانية ومتحررة، ويُنظر الى الدين على أنه طائفي وتقليدي. وبما أن الدولة الوطنية اعتبرت أحد مكوّنات الحداثة، افترض تالياً أنها علمانية. لذا أعقب ظهور الموجة الاسلامية وتصدرها المشهد رفضاً وعلامة على فشل النخب العلمانية في إنجاح دولها وتنميتها. لكن الواقع أدقّ وأعقد من ذلك. لجأت الدولة الوطنية الحديثة منذ بداياتها الى الدين لدعم شرعيتها؛ ذلك أن الدين يساعد في منح السلطة السياسية معيارية وشرعية أخلاقية. كما يساعد ربط الهوية بالدين في تدعيم التضامن الاجتماعي (للنقص في رعاية الدولة) وتأمين الطاعة للحاكم. ثم إن منح الأنظمة للدين صفة شمولية ومقدسة، هو عبارة عن تدابير سياسية غرضها أن تؤمّن الهيمنة المتسلطة للطبقة الحاكمة.
يشير هيبارد، مؤلف كتاب “السياسة الدينية والدول العلمانية”، إلى أنه بعدما تم غرس التزام الأعراف العلمانية داخل مؤسسات الدولة الوطنية الناشئة في منتصف القرن العشرين، جرى استئصالها خلال العقود اللاحقة. ففي حقبتَي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، تخلى زعماء الدول والمسؤولون السياسيون عن دعمهم لرؤية ليبيرالية للدين والمجتمع لمصلحة إيديولوجيات دينية محافظة او رجعية. فاستُخدمت التفسيرات الرجعية للدين لمجابهة القوى اليسارية وإقرار الأنماط الهرمية للنظام الاجتماعي، كما استُخدمت أيضاً القومية والدين بهدف تقوية نماذج الولاء الطائفي والهوية الجماعية المتجانسة، ما ساهم في تقليص أهمية البعد الطبقي الاجتماعي. لقد كان هذا التوجه جزءاً مهماً من دينامية الحرب الباردة.

مصر مثالاً
في مصر كمثال، تم التخلي عن الخيار العلماني لمصلحة إسلام سلفي متأثر بالمملكة العربية السعودية، وسعت “ثورة التصحيح” التي قام بها السادات الى استقطاب، وليس مواجهة، الرؤية الاسلامية واستخدامها لبناء قاعدة جديدة لسلطة الدولة. واستوجبت هذه الاستراتيجيا الدخول في تحالفات مع جماعة “الأخوان المسلمين”، وملاّك الأراضي وبعض الزعماء العرب. وسّعت الدولة المصرية التعليم الديني، وعملت على زيادة البرامج الإسلامية التي تُعرَض في التلفزيون المملوك من الدولة، بالإضافة الى بناء المساجد عبر التمويل الحكومي، فيما ظل بناء الكنائس مقيداً بصرامة. وتم عزل أنصار الدين الليبيرالي (أو العلمانية التعددية)، وعُدّوا مسؤولين عن التدهور الحاصل. كان من الأسهل على المسؤولين في الدولة استقطاب الدين المحافظ بدلاً من تقديم بديل إيديولوجي حقيقي. إن استخدام تفسير سلفي (أو رجعي) للتقليد الاسلامي، ساعد في نشر أفكار المرتبطين بالحركات الأصولية في المجتمع. تالياً، وعلى الرغم من نجاح الدولة في القضاء على تهديد “الجهاد الاسلامي” في منتصف التسعينات من القرن الماضي، أصبحت أفكاره جزءاً أصيلاً على نحو متزايد داخل المدارس الحكومية المصرية ووسائل الإعلام والمؤسسة الدينية الرسمية، ما ساعد في نشر التشدد الديني داخل المجتمع المصري وتفعيله، وجعل من المجال العام مساحة حافلة بالتشاحن، وتفشت موجة الاضطهاد الموجَّه ضد المسيحيين الأقباط والآراء الدينية المعارضة والمفكرين العلمانيين. كما ساهم ذلك أيضاً في استعادة المفاهيم الشعبية الرجعية في خصوص دور المرأة في المجتمع. وهذا بتورط من الدولة في معظم الاحيان. في اختصار، استكمل نظام حكم مبارك ما بدأه السادات في الماضي، حيث ساعد في تقويض الأساس الكوزموبوليتي للمجتمع المصري، وما يلازمه من حقوق في المشاركة وحق المواطنة المكفولة للجميع، التي تعتبر علامة مميزة للمجتمع المنفتح. ويعتبر هذا نقيضاً للمزاعم الحداثية مثل التسامح والتعددية والتنمية الاقتصادية.
إن الافتقار الى المشاركة السياسية في مصر والقمع الممارَس في معظم الحالات، أديا الى توجه النشاط السياسي نحو محاور بديلة، وتحديدا داخل النقابات المهنية والمساجد التي أصبحت معاقل للمشاعر الاسلامية. ساعدت هذه السياسة في خلق بيئة اجتماعية واقتصادية محرّضة على التطرف الإسلامي والجهاد الاسلامي، حيث عوّضت الجماعات الاسلامية التي كانت تموّل بشكل رئيسي من داخل دول الخليج، عن غياب الدولة داخل المجتمعات الفقيرة. وأخذت الجماعات الاسلامية وجماعة “الأخوان” على عاتقها تشييد شبكة موسعة من المدارس والعيادات الصحية والمساجد في جميع أرجاء الدولة.
إن استخدام النظام للدين والقومية من أجل فرض قبول سلطة الدولة التام، أضفى الصبغة الاسلامية على المجال العام، والصبغة الطائفية على السياسة المصرية. وكانت حقبة الثمانينات قد شهدت ظهوراً مكثفاً للفكر الإسلامي في جميع أرجاء العالم، إثر الثورة الايرانية والحرب الأفغانية في مواجهة السوفيات.
فهل ثمة داعٍ لاستغراب هيمنة التيارات الإسلامية المتطرفة على المجتمعات العربية والإسلامية؟ طبعاً ساهم تنظيم “داعش” ومحاولته إقامة دولة الخلافة، في دغدغة مشاعر الجماهير المتباكين عليها. لقد تحولت أفكار الاسلام السياسي ومقولاته، الى مرجع ودليل للمسلمين العاديين في مجتمعاتنا بحيث مكّنت ممارسات الأنظمة الفكر الإسلامي الرجعي والأصولي، وجعلته مرجعاً ومعياراً للسلوكيات المقبولة وغير المقبولة.
من هنا لا ينبغي استغراب التسونامي الديني المتغوّل الآن، الذي وصل الى حد أن واحدنا يشعر بأنه محاصَر وممنوع من الإشارة الى استناد الإرهابيين الى مبررات للعنف في الدين والثقافة الإسلاميين؛ إذ سرعان ما ينبري من يعدّون أنفسهم أوصياء على الاسلام والمسلمين، لإسكاتك بقوة القمع والتخويف. فإذا لم تكن مارقاً، فأنت على الأقل متحامل على الإسلام والمسلمين، في تخوف من موجة الالحاد التي بدأت تظهر إثر فترة حكم “الأخوان” وتغوّلهم في السلطة، وربما من هنا نلاحظ أن المعركة ضد “الأخوان” تعتمد على مساندة السلفيين. وفي المثل الشائع يقال “من تحت الدلفة لتحت المزراب”!

أسلمة المجتمعات العربية صارت واقعاً
مَن يتجرأ في حياتنا اليومية أن يقول لناطور بناية أن لديه دوام عمل لا ينبغي اقتطاع ساعات منه في إقامة صلاة الجمعة حيناً أو أداء فروض الصلاة في كل حين، تاركاً البناية وشؤونها على الله؟! وإذا ساءلته عن غيابه المستمر، أصبحتَ ضد الدين والايمان. ومَن يتجرأ على نقاش موضة انتشار المصليات في الجامعات والمؤسسات الرسمية والمطارات وجميع الأماكن العامة المتخيلة؟ مَن يتجرأ على الإشارة الى اقتطاع شهر كامل من حياة المجتمعات الإسلامية وإنتاجيتها، للنوم والصيام نهاراً والإفطار والسهر ليلاً في رمضان؟ مَن يتجرأ على القول إن الآذان لم يكن للإزعاج وللخطب الليلية باستخدام مكبرات الصوت؟ مَن يتجرأ على الإشارة الى خطب الجمعة التي صارت مناسبة لكل معمم لكي يبثّ ما يريد من أفكار مغلوطة أو مثيرة للفتنة؟ مَن يتجرأ على القول إن مهمة “رجل الدين” ليست مهنة للاعتياش أو للاستغلال ولمراكمة الثروات، بل هي مهمة طوعية ممّن يفترض به أن يكون متبحراً في العلوم الدنيوية قبل الدينية، وأن يخضع لامتحان ما، بحيث لا تترك هذه المهمة لمن قد يكون فشل في دراسته فتوجه إلى الدراسات الدينية؟!
إن كلّ حديث من هذا النوع يجعل صاحبه منبوذاً أو محارَباً أو كافراً في دولنا العربية، في طبعاتها الأخيرة، التي تزايدت فيها أعداد التكفيريين والمتعصبين في إظهار إسلام متعصب وشكلي! أليس هذا نوعاً ناعماً من الترهيب والتخويف؟
المفارقة أن بعض الدول تعلن مكافحتها الإرهاب، كالسعودية مثلاً، وتريد القضاء عليه، في ندم ضمني على احتضانها التيار الوهابي وما أفرزه على مر السنين من أصوليات ساهمت عميقاً في بروز الإرهاب، لكنها في الوقت نفسه تمارس بعض أفعاله، فتنفّذ عقوبة 50 جلدة (صحف 9 ك 2) على مدوّن شاب بذريعة “إهانته” للإسلام، من دون أن نعرف كيف! هل هذا محاربة إرهاب أم مزايدة عليه وتنافس معه في استخدام أدواته والخضوع لمنطقه؟!
في منطقة يتنافس فيها البشر على جعل الأسبقية للانتماء الديني وليس للولاء الوطني، من الطبيعي أن نسمع الخطاب التبريري للإرهاب من تيارات شعبية، وللأسف من دول. كما هي الحال عندما يجعل لاريجاني – بعد الصحف الايرانية وصحافييها في لبنان – مقتلة “شارلي إيبدو”، مسؤولية فرنسية بسبب دعمها للإرهاب، ما يستدعي منها تغيير سياساتها (مع أنها دعمت الاعتراف بدولة فلسطين وصوّتت الى جانب قرار انهاء الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية!). على هذه الحال يصبح على معظم دول العالم تغيير سياساتها كي ترضى عنها حكومة إيران وصحافتها! لكن ماذا تفعل إيران في عواصم الدول العربية التي تتبجح بنفوذها فيها؟ وماذا عن مسؤوليتها في قتل السوريين وتفريخ الإرهاب؟ واذا كان نشر صور مسيئة للرسول مبرراً للإرهاب، فماذا عن شتم الصحابة وعائشة على المنابر الدينية وفي خطب الجمعة؟ وماذا عن مسؤولية الحكومتين المدعومتين من طهران، عن إرهاب “داعش” الذي ظهر في كل من سوريا والعراق باكراً؟ ولم لا يكون عليهما تغيير سياساتهما كي لا يضرّ بهما الإرهاب؟! ولماذا لا يغيّر “حزب الله” سياسته لمواجهة الارهاب؟ وحين يذكر الارهابيين المولودين في فرنسا وأوروبا مع إغفال جميع الآخرين ذوي الجنسيات من الدول الاسلامية، يصبح لهذا اسم واضح: إنه الابتزاز!
في كل الأحوال، يتطلب ما جرى من مجتمعاتنا محاسبة نفسها جيداً على سياساتها وازدواجياتها وكيلها بأكثر من مكيال.
والى أن يتجرأ الحاكم العربي على إشهار مطلب فصل الدين عن الدولة من دون خوف ومن دون البحث عن فصيل إسلامي لتغطيته، كما فعل بورقيبة رحمه الله الذي أورث تونس بفعلته، التي ناهضته عليها جميع الدول والأنظمة العربية ونخبها، الأسس التي سمحت لها بإنقاذ الثورة من تحويلها الى عنف أعمى…، الى أن يحين هذا الوقت، تجدر الإشارة الى أن الاصلاح الديني لن ينجح اذا لم تسلك الدول طريق الشفافية والتنمية وطريق حقوق الانسان وحرية الرأي وتحرير سجناء الرأي الى أي فئة انتموا، سواء الى “الأخوان المسلمين” أو الى شباب الثورة المدنيين الذين يدينون حكم العسكر.
وإلاّ، فلننتظر أن يدهمنا الإرهاب في منازلنا وفي جميع أشكاله، السنّي الداعشي والشيعي التابع للولي الفقيه.