الكولونيل شربل بركات/مملكة داوود – هل يعيد التاريخ نفسه؟

493

مملكة داوود – هل يعيد التاريخ نفسه؟
الكولونيل شربل بركات/05 شباط/2024

في مقارنة لخارطة الشرق الأوسط بين الألف الأول قبل المسيح واليوم نجد بأن نهاية القرن الثاني عشر قبل المسيح كانت شهدت زوال مملكة الحثيين في الشمال على يد شعوب البحر، والتي كانت تعتبر القوة الأساسية من شمال سوريا وما بين النهرين إلى البحر الأسود. أما في الجنوب فقد كانت الدولة المصرية أوقفت غزوة شعوب البحر هؤلاء، والتي تكررت خلال عهود رعمسيس الثاني ومن ثم خليفته أمنحوتب وانتهاءً برعمسيس الثالث والذي أرغمهم على الاستقرار؛ إما في جنوب بلاد كنعان كتابعين وحماة للحدود المصرية ضد غزوات البدو، أو في الصحراء الليبية إلى الغرب، ولكن لتنشغل مصر بعد هذه الفترة بأمور داخلية، خاصة خلال حكم الكهنة، ما أعطى فسحة للفلسطو هؤلاء (وقد تكنوا بهذا الاسم في كنعان) لكي يعيدوا بناء أسطول هاجم أرواد ودمر صيدون عاصمة الفينيقيين بعد مئة سنة تقريبا على استقرارهم في المنطقة. وفي هذا الوقت كانت قبائل العبرانيين قد بدأت تتركز في المناطق المتاخمة، حيث اصطدمت مع هؤلاء الفلسطو في عدد من المواقع، خاصة في عهد الملك شاوول ومن بعده داوود، الذي كان قتل قائدهم جوليات بمقلاعه (بحسب سفر صموئيل) قبل أن يلتحق بجيش الملك شاوول ويصبح فيما بعد الملك الذي باركه الله فانتصر على أعدائه.

إذاً كانت القوى الكبرى التي سبق وسيطرت على منطقة الشرق الأوسط أي الحثيين والمصريين في المئتي سنة التي سبقت ملك داوود قد زالت أو تقلص تأثيرها، ما جعل ملك صور الفينيقي، والذي تألم لدمار صيدون وأرواد على يد الفلسطو، ومن ثم استغلال ملك دمشق الآرامي لضعف دفاعات حماة، المدينة الفينيقية بعد سقوط أرواد، ومهاجمتها واحتلالها، يبادر إلى مفاوضة الملك داوود ويعقد معه اتفاقا على حماية قوافل تجارته المنطلقة نحو الجنوب من جهة، ومساندته في حروبه ضد الفلسطو أعداء فينيقية من جهة أخرى، والوقوف بوجه آراميي دمشق الذين احتلوا حماة من جهة ثالثة. وإذا بالملك داوود وبعد أن قهر الفلسطو يقاتل ملك آرام ويطرده من حماة ويسيطر على المنطقة “من بعل حرمون إلى بوابة حماة” كما يقول الكتاب.

في بداية الألف الأول قبل المسيح إذاً قام تحالف بين ممالك فينيقية الممثلة بملك صور أحيرام الأول وبين مملكة يهودا الممثلة بداوود الملك، وقد قام الفينيقيون بالمساهمة بتكاليف بعض حملات الملك داوود، وبنوا له قصرا في اورشليم زينوه بخشب الأرز الذي لم يدخل إلا في بناء المعابد. وهذه الاتفاقيات جعلت خطوط التجارة الفينيقية البرية باتجاه بلاد العرب واليمن ومنها إلى الحبشة أو الهند محمية ومؤمنة، بينما كانت الطرق نحو الشمال عبر سهل البقاع صوب حماة ومنها إلى ما بين النهرين تتمتع كذلك بنفس الوضع.

اليوم وبعد سقوط حكم البعثيين في دمشق وبغداد، بين المشاكل الداخلية في سوريا وسيطرة القوات الروسية من جهة، ومليشيات إيران من جهة ثانية، وبين ضعف السلطة المركزية في بلاد ما بين النهرين، وتوزع القوى ما بين هذه المليشيات الإيرانية وبعض التجمعات المحلية المتصارعة، بالإضافة إلى وجود مراكز رمزية لقوى عالمية، تقف إسرائيل الحديثة لتظهر قوتها في ضرب أي هدف أو مجموعة تحاول التعدي على الأمن والاستقرار في المنطقة، وكأنها تعيد إلى الأذهان سيطرة داوود الملك بين بعل حرمون وبوابة حماة، لا بل فهي القوة الوحيدة القادرة على ضبط الأمور في كامل الشرق الأوسط القديم إذا ما زال الخطر الفارسي. فمصر، على ما يبدو، منشغلة بأمورها الداخلية، وتركيا (الحثية) ولو تجرأ زعيمها أردوغان بالكلام إلا أنه فقد مصداقيته، لا بل قدرته على اتخاذ أية خطوات عملية باتجاه الجنوب، أما الخطر الفارسي المتمدد صوب كامل المنطقة فهو موضوع القتال الذي لا بد له من نهاية، مع التذكير بأن ولادة دولة قوروش الفارسي لم تتم قبل القرن الخامس ق.م. أي بعد عهد داوود بخمس مئة سنة تقريبا. ولكنها وبالرغم من تسامح قوروش مع كل الشعوب  التي كان قهرها البابليون الجدد، ومن ضمنهم اليهود، إلا أن مركزية السلطة ومحاولات تفلت نواب الملك من السيطرة لاحقا جعلت ارتحشستا الثالث يجرّد حملة لمهاجمة صيدا بجيش قوامه 300 ألف جندي إضافة إلى عشرة آلاف من المرتزقة اليونانيين، أدى إلى إحراق أبنائها لمدينتهم بمن فيها لمنعه من التمتع بالنصر، وذلك بسبب تصلبه وعدم قبوله بالتفاوض.

ويذكّرنا حكم الملالي في إيران اليوم بتصلب ارتحشستا أكثر منه بانفتاح قوروش. فمنذ سيطرة الخميني على السلطة في بلاد فارس وضع نصب عينيه إعادة السيطرة على الشرق الأوسط باستعمال لازمة فلسطين، حيث لم تستطع الدول (العربية) التي نشأت بعد تفكك السلطنة العثمانية القبول بوجود عنصر مختلف دينيا وثقافيا في وسطها، فحاربت المستوطنين اليهود ولم تقدر على استيعابهم ولا مهادنتهم، ولم تزل، بالرغم من مرور أكثر من قرن من الزمن، تحرّك الغرائز كلما سنحت الفرصة بذلك. وربما حلم بعض المفكرين اليهود بأن الانفلاش الإيراني قد يسهم في إيجاد حلول مقبولة للصراع مع العرب، باستنادهم إلى تسامح قوروش التاريخي مع الشعب اليهودي قبل أكثر من ألف وخمس مئة سنة، ولكن ما شهدناه خلال سيطرة الدولة الأخمينية الفعلي لا يبشر بالخير، لأن حكم الفرس منذ داريوس الكبير (الثالث بعد قوروش وقمبيز) كان ألغى استقلالية الممالك الصغيرة ووضع نائب ملك فارسي على كل منها لتحكم بشكل مباشر وفي ظل جهاز مخابرات يرتبط بملك الملوك (الشاه نشاه) في عاصمة الامبراطورية. وما نراه من تصرّف حكم الملالي في المنطقة، بتدخل الحرس الثوري بشؤون الدول واختراع القلاقل والأعمال العدائية فيها، لا يعبر عن سياسة متسامحة أو سعي للتعايش مع الآخرين، ومن هنا لا يمكن لليهود أو غيرهم من اقليات المنطقة الحلم بمستقبل مبني على التفاهم والتعاون مع دولة الملالي هذه.

ولكن أكثر ما يغيب عن المشهد التاريخي اليوم هو المدن الفينيقية القادرة على الاتفاق مع “داوود الجديد”، والتي تملك قيادتها حرية التصرف. فصيدا التي كانت عاندت ارتحشستا الفارسي في القرن الثالث قبل المسيح، كما قلنا سابقا، ها هي تفقد زعيمها الذي ظهر كقائد لكل سنّة لبنان، لا بل للوطن مجتمعا، باغتياله على يد جماعة الحرس الثوري هؤلاء. بينما صور التي كان دمرها تعنّت الإسكندر اليوناني فضاع عزها وغابت ثروتها، بعد خمسين سنة فقط على حرق أبناء صيدا لمدينتهم، ها هي اليوم وقد صادرت نفس العصابات التابعة للملالي قيادة الشيعة فيها، وهم الذين كانوا الأقرب للتفاهم مع جيرانهم في الجنوب والتذكير بحكم أحيرام لو بقي لهم الاستقلالية وحرية القرار. أما في جبيل عاصمة الجبل كله فقد أسقط عون وجماعته استقلالية الموارنة ليلتحقوا كأجراء لا رأي لهم في قافلة أتباع إيران. وقد بقي التذبذب مرافقا لزعيم جبل بيروت الدرزي لخوفه من المواجهة منفردا. فكيف تقوم “ممالك” فينيقيا وتتحد تحت علم أحيرام آخر لتتفق مع داوود الجديد وتتقاسم الأسواق التجارية المتعددة، خاصة وأن أتباع الملالي أفقدوها نظامها المصرفي والثقة التي كانت بنتها منذ مئة سنة، والتي سمحت لها بدخول أسواق المنطقة وبناء شبكتها الاقتصادية، الرغم من أنها اليوم على عتبة مرحلة جديدة لتوسيع هذه الأسواق والفرص المرافقة والتي تنمو في طول الشرق الأوسط وعرضه، لتعيد إلى الأذهان الطرق القديمة الآتية من الهند والصين عبر بلاد العرب ومملكة التيمن (اليمن) التي يجب أن تستقر الأمور فيها بعد الفوضى التي نشهدها اليوم والتي يحركها أيضا دخول طغمة الملالي على خط المواجهات والهيمنة.

فهل تكتمل الصورة التي جعلت من وريث داوود (سليمان) وورثاء حيرام (أبيبعل ومن بعده أحيرام الثاني) يستمرون بالتعاون المنتج والذي زين بالمجد والعز والرخاء صور وصيدا وحتى جبيل كما أورشليم وعسقلان و”عصيون جابر” (ايلات) التي على البحر الهاديء (البحر الأحمر) فقامت قوافل التجار التي حمتها قوات سليمان وزينتها سفن فينيقية تمخر عباب البحار وتغوص في اكتشاف القارة السوداء وغيرها من البلاد فتكثر كنوزها؟ وهل تصبح الطرق المفتوحة بين السعودية ودول الخليج صوب دول شاطئ المتوسط الشرقي بزعامة أورشليم الرمزية طرق التجارة الاساسية لحوض البحر المتوسط من الصين والهند وشرق آسيا؟ وهل يسقط حكم الملالي في بلاد فارس فيولد أمل جديد بالتعاون بين الشعوب وتنحسر الغيمة الداكنة التي تظلل بلاد الأرز بالقهر والفساد وتنكّل بكل فكر نيّر وتحجّم المبادرة وتمنع الانطلاق لتبقى هذه البلاد أسيرة الحقد والتقوقع لا تعرف مصادر الخير ولا حوافز التقدم؟

وهل سنرى قريبا نهاية للحروب وبداية لاستقرار الشرق الأوسط الذي جعل اورشليم محجة الأمم زمن سليمان الملك، وصور عاصمة التجارة العالمية زمن أحيرام؟ أم أننا لا نزال نحلم وسوف لن نشهد تغييرا بالمشهد السياسي في الشرق الأوسط قريبا. لا بل ستدمر الحروب الآتية من ظلمات قبائل الشرق الغازية ما بني حتى الآن من حضارة ورفاه وتعيد المنطقة إلى عصور الظلمة والقهر والاستعباد؟…