المحامي الدكتور عبد الحميد الأحدب/النهار/السابع من تشرين: من دافنشي الى بيكاسو

44

السابع من تشرين: من دافنشي الى بيكاسو
المحامي الدكتور عبد الحميد الأحدب/النهار/12 كانون الثاني/2024

في مقاله الأسبوعي في “النهار”، يقول كاتب الكُتَّاب وأميرهم سمير عطالله في مقاله عن “باب الخبز والحرية”، أن الحركة السوريالية وُلدت من الشعور العارم بأن الكلاسيكية لم تعد قادرة على التعبير عن حال الإنسان في ذروة اليأس من الشقاء البشري، فتخلى الناس عن دافنشي وذهبوا الى بيكاسو، وذهبوا من فكتور هيغو الى اندريه بريتون. ويضيف أنه “بالعنفوان السوريالي العاجز المتفجر يدير الشاعر عقل العويط ظهره لمشهد الوجوه المعذبة، ولأول مرة نرى “الصرماية” في بيت القصيدة. ولا يستطيع ان يذكر ويستشهد “بالصرماية” غير سمير عطالله، لأن مكانته في الأدب تحميه وتخوّله الحديث عن السوريالية وعن “الصرماية” العتيقة والجديدة.

شقاء الإنسان هو الذي جعل الإنسان يتخلى عن دافنشي، ولكن هل شقاء الإنسان هو ابن هذه الأيام فقط؟ تُرى ألم يكن شقاء الإنسان في ماضي العصور اكثر من الجزمة النازية وفظائعها؟ وان شقاء الإنسان في العصور الغابرة كان اكثر بكثير من شقائه هذه الأيام؟ ولكننا هذه الأيام، ايام الحرية، حيث هناك حرية، صار بالإمكان الحديث عن شقاء الإنسان وتسليط الضوء عليه واستنكاره، والتعبير عنه بقلم فكتور هيغو! لربما كان ميل الدفة الى بيكاسو هو الشقاء بذاته، نقف امام لوحة لبيكاسو وكل انسان يفهمها على ذوقه، والحقيقة انه لا يفهمها احد ولكنها يمكن ان تعبر عن شقاء الإنسان الذي لم يعد يعرف ما يريد.
الفقر والحرب والخوف والرعب واليأس ونهب مال الناس، كانت طابع القرون الوسطى، وذهبت الإنسانية الى الحرية والى حقوق الإنسان كلما تقدمت في الزمن، وفي كل نهضة تاريخية وفي كل ثورة تحصل اخفاقات وتحصل ردات الى الوراء، فاتجاه الحضارة يسير الى حقوق الإنسان، ولكن في حقوق الإنسان فجوات واخفاقات.

هذه الأيام اخذ يظهر اميل زولا ليقول “اني اتهم”، فينقلب الظلم الى عدل، ويأخذ نوري السعيد العراق الى حلف بغداد الذي يعمل خلاف ارادة شعبه على اسقاط عبد الناصر فإذا العدل في ثورة في العراق يطيح بنوري السعيد وبالملكية وتُحيِّي عبد الناصر، تلك كانت ارادة شعب العراق في ذلك الوقت.
والعراق حكايته حكاية مع التاريخ، فعبد الكريم قاسم لبى نداء الشعب وقلب نوري السعيد ولما استمتع بالسلطة عاد الى ما كان عليه نوري السعيد، فغضب الشعب عليه وكان صدام حسين، فاجتاح العراق وقابلته اميركا بالمشنقة، وخاضت معه الحرب فإذا العراق اليوم ايرانياً تُهدَر امواله، والشعب منقسم الى حشود شعبية تتقاتل، فماذا فعلت اميركا، اليس مشهد العراق اليوم سوريالي؟

في التاريخ أخذ صلاح الدين الأيوبي مكانته في حربه ضد الصليبيين، فخاض اشرف المعارك وشهد له الصليبيون بالبطولة وبالشجاعة والإستقامة.
وعلى ذكر سمير عطالله، يذكرنا عطالله بمحمد حسنين هيكل الذي وضع للفراعنة مكانة يقبلها الشعب المصري، اذ هو يقول ان التاريخ فيه “الميراث” وفيه التراث ، “فالميراث” تركة خلّفها وراءه تاريخ مضى، اما التراث فهو ثقافة وضعها على الأرض تاريخ حي، وهيكل كان الوحيد الذي يستطيع مقابلة عبد الناصر بدون موعد سابق، وأعطى هيكل لعبد الناصر على قدر ما اعطاه عبد الناصر له، وكان هيكل رجل مبدأ ورجل دولة ولم يكن مجرد صحفي، بل كان مشاركاً لعبد الناصر في صنع القرار.

ولم يظهر في لبنان عبد الناصر ليكون سمير عطالله الرجل الذي يشارك في صنع القرار، ظهر عندنا فؤاد شهاب ولكنه كان مرفوضاً على الأقل من ثلث اللبنانيين الذين عادوا الى رشدهم حين ذاقوا مرارة الآخرين، وكانت ثقافة فؤاد شهاب مختلفة عن ثقافة سمير عطالله، فثقافة فؤاد شهاب كانت ثقافة النخبة، اما ثقافة سمير عطالله فهي ثقافة كل يوم من هذه الأيام بحرها عميق وجريء، وهي الثقافة العربية الحقيقية! واذا كان التاريخ اعطى شعراء مثل ابو نواس والمتنبي وابن الرومي الذين ما زالوا يعيشون حتى اليوم، فإن الحاضر اعطى نزار قباني الذي انصب شعره على ظلمة هذه الأيام! وتذكرنا الأيام التي نعيشها بأسوأ ايام الجاهلية والجهل والفقر والحرب والخوف واليأس ونهب مال الناس، ايامنا التي صارت فيها الأمانة والإستقامة “خيانة الأمانة”، وصار لجبران باسيل موقع ومكانة، وهذا الوضع قريب جداً من لوحات بيكاسو، التي لا يفهم اللبنانيون كيف اصبح جبران باسيل رئيساً لحزب يمثل نصف المسيحيين في البرلمان!

مشهد جبران باسيل يتهم قائد الجيش بخيانة الأمانة هو تماماً لوحة لبيكاسو، واصلاً وصول جبران باسيل الى المكانة السياسية التي يتربع عليها تذكرنا بسوريالية الشاعر عقل العويط، وبالصرماية التي كتب عنها سمير عطالله، وتذكرنا هذه الأيام التي تملأ حياتنا فيها حرب غزة بالسوريالية، فجامعة الدول العربية اتخذت موقفاً قريب من موقف السيارات القريب من مدخل الجامعة العربية، وهو موقف مفهوم لأن حكام العرب في وادٍ والشعوب العربية في وادٍ آخر بالنسبة لحرب غزة.

السابع من تشرين له مفاهيم عديدة، والذين يعارضونه لا يُسمع لهم صوت، وحدها اصوات التأييد مسموعة واصوات الاعتراض غير مسموعة، بل غير جائزة اصلاً! مُحَرَّمة ممنوعة من الصرف! لماذا؟ لأن حكام العرب يعطون ما أعطته جامعة الدول العربية، أما الشعوب العربية التي استبدّ بها الفقر والظلم والحرمان فهي كلها مؤيدة للسابع من تشرين، واللوحة لبيكاسو غير مفهومة، ولا يجرؤ دافنشي على الكلام، فسيّد الكلام هو السيد حسن نصرالله وحده، لا شريك له وهو يفعل ما يقول ويقول ما يفعل! وهو بادر كما يقول الى الحرب في الثامن من تشرين بدون ان يطلب ذلك منه أحد، لأن هذا هو واجبه.
لبنان وحده بين البلاد العربية ساحته مفتوحة دائماً لمن يشاء، ساحة حرية بلا رقيب، كل الدول العربية لم تُطلَق منها رصاصة، وحده لبنان فتح جبهة حرب لأن حزب الله صاحب الكلمة.

لبنان والحرية حكاية الناقض والمنقوض، بلد بلا حدود وبلا سلطة، كله سايب، كله سوريالي، الشعب اللبناني هو الذي أعطى فؤاد شهاب والشعب اللبناني هو الذي عزل فؤاد شهاب على صوت واحد. والشعب اللبناني هو الذي انتخب عبدالله اليافي حين حصل من فرنسا على دكتورا بالحقوق وهو ابن بائع خضراوات، وكان اول مسلم ينال في باريس هذه الشهادة الرفيعة فانتخبه المسلمون نائباً ثم رئيساً للوزراء. كان يا ما كان في قديم الزمان، نمشي في خط معاكس للتاريخ وللحرية، في مشاهد سوريالية مأخوذة من شعر عقل العويط السوريالي. الحقوق والموجبات أمْرُها في زمن السوريالية غير مفهوم وغير مُباح، اذا قادت 7 تشرين الى جحيم الدمار والفقر والقتل والهجرة ولم تأتِ الا بالمصائب، فلا يجوز لأحد ان يحذر من هذا المصير، فالحديث عن السابع من تشرين هو مُنْزَل ولا نقاش فيه، النقاش يأتي بعد ان يعطي السابع من تشرين نتائجه، اذ ذاك يُطرح السؤال: ولماذا لم تتكلموا؟
إنّها لوحة سوريالية سبقت بيكاسو بزمان.