الكولونيل شربل بركات/الوضع الحالي الدقيق وردود الفعل

284

الوضع الحالي الدقيق وردود الفعل
الكولونيل شربل بركات/26 كانون الأول/2023

هل بلغ المثقفون أو من يعتبرون قادة الرأي في دول العرب مرحلة فهم مصالح شعوبهم والقيام بواجباتهم في توجيه الرأي العام؟ أم أنهم لا يزالون يعيشون ازدواجية الولاء لبلدانهم المستقلة من جهة وللفكر التوسعي الامبراطوري المتوارث الذي يدغدغ مشاعر البعض منذ زمن الخلافة من جهة أخرى؟

الشعوب العربية، التي عايشت كل الحروب والانتكاسات الماضية وتكاد أن تتقبل فكرة وجود اسرائيل مع بعض الترتيبات المتعلقة بوضع الفلسطينيين، لا تزال بعيدة عن التفكير الواقعي والتحليل الموزون. فهي كلما قام متجبّر جديد وهاجم “الكيان الصهيوني” تُعجب به وتغفر له كل مساوئه ولو كانت هذه تضرب استقرارها وازدهارها بالعمق، فهي اعتادت على فكرة زرعت في خيالها بأن الغرب يطمع بثرواتها وهو من زرع اسرائيل في وسطها لكي تنغص عيشها وتسرق هذه الثروات المزعومة. ولا يغيب عن بالها هذا الفكر أبدا فهي مهما تثقفت ودرست وعاشرت من شعوب واختبرت من تغييرات على طول الكرة الآرضية وعرضها لا تغير تلك الفكرة بأن اسرائيل ستحتل المنطقة “من الفرات إلى النيل”. ونحن إذ نتطلع من حولنا نجد الكثير من الطامحين الذين جربوا ولا يزالون أن يتحكموا بهذه البلاد لا بل بأبعد منها. فالناصرية مثلا لا تزال مرسخة في ضمير الكثيرين وهي تسعى لضم كل البلاد ليس من الفرات إلى النيل فقط، بل من المحيط إلى الخليج. وفي هذه طبعا يتحكم عنصر الدين أو المذهب وتلتزم الأكثرية التي تدين بفعل القوة بنفس المعتقد بأحلام السيطرة على الآخرين ممن يعيشون بينها، تماما كما هي تقول عن اليهود الذين يعتقدون بأنهم “شعب الله المختار” بينما العرب المسلمين يقولون أيضا بأنهم “خير أمة أخرجت للناس” (فما الفرق بين المقولتين؟). لن ندخل في جدال حول المعتقدات الدينية فكلها لديها نوع من التميز عن الآخر والتعالي أحيانا ولو كانت فئة قليلة العدد منغلقة على نفسها ومتوارثة لمعتقداتها وهي تكثر في بلدان المنطقة.

يقود التيار المتأسلم اليوم جناحان غريبان عن العرب؛ التركي بقيادة أردوغان والإيراني بقيادة الملالي وهما لا يختلفان عما عايشناه في ظل الخلافة العباسية. فيوم خرج العرب من الصحراء لينشروا دعوتهم المختلفة، وكانت إحدى الغزوات التي اعتادت عليها القبائل، تلقف أهل الشام هذه القوة للتخلص من حكم البيزنطيين الذين أرهقوهم بالضرائب، خاصة بعد غزوة كسرى أنوشروان الفارسي وزيولها، وهم من نظم لهؤلاء مملكتهم تحت اسم الخلافة الأموية والتي انتشرت قواتها شرقا وغربا. ولكن الفرس، الذين خسروا أمام جحافل هذه القبائل المحاربة وأجبروا على دخول الاسلام، ما لبثوا أن انقلبوا على الأمويين وتحكموا بالبلاد تحت سلطة العباسيين، إلى أن تغلب العنصر التركي، والذي عمل في البدء كمرتزقة عند الخليفة العباسي، فقاد هو الدولة بعقليته العسكرية الضيقة. ومن ثم جاءت هجمات المغول من الشرق والفرنج من الغرب ليعيدوا تحجيم سلطة الخلافة، فتنشأ الامارات الصغيرة التي تتحالف أحيانا، وتصبح المنطقة مفتوحة على تعددية السلطة التي تتقاتل وتتصالح بحسب الظروف. وفي هذه تدخل مرحلة المماليك التي لم تعرف الاستمرارية بالحكم وبالتالي الهدو. ويأتي بعدها العثمانيون وهم من بقايا قبائل الترك الذين ورثوا عقلية التتر والمغول وأساليبهم القتالية، ولكنهم دانوا بالاسلام وفرضوا سيطرتهم على القسطنطينية عاصمة الأمبراطورية البيزنطية وحامية أوروبا من التمدد الآسيوي، ثم تغلبوا على المماليك وصادروا الخلافة ليحكموا الشرق الأوسط برمته ويغزوا أوروبا المكشوفة بسقوط القسطنطينية.

بعد الحرب العالمية الأولى زالت فكرة الخلافة وساهم بروز نجم الشيوعية في روسيا ببقاء العنصر التركي مسيطرا على آسيا الصغرى ومشكلا دولة علمانية على غرار الأنظمة الأوروبية لتكون الحاجز لانتشار الشيوعية غربا وفي نفس الوقت التمدد الأوروبي الغربي شرقا. ولكن النفس العثماني بقي حيا في المنطقة العربية تحت شعار الاسلام السياسي الذي تغذى على فكرة معاداة الاستعمار وتمثل نضاله بالحرب المعلنة على اليهود في فلسطين “عملاء الاستعمار الغربي”.

اليوم وبعد تعدد المحاولات لفرض الاسلام السياسي تحت اسم العروبة وتشكيل أمبراطورية جديدة تشبه دولة الخلافة العباسية أو العثمانية لا فرق، فإن أحلام الاستقلال والتحرر التي دغدغت عقول البعض تكاد تسقط أمام التيارات الدينية أو المذهبية ذات الخلفية العنصرية؛ حيث فقدت العروبة الاسلامية بعضا من وهجها أمام الهجمة الفارسية التي تتمثل بالمذهبية الشيعية والتي تجسد الخمينية الإيرانية محورها، والاخونجية السنية التي يقودها تيار أردوغان في تركيا والذي يسعى لعودة السلطنة العثمانية وأحلامها التوسعية.

التياران يتصارعان لكسب أكبر قدر من الانتشار على حساب الدول المستقلة والتي تسعى لتأمين حقوق شعوبها واستغلال ثرواتها، وكليهما يتاجران بما يسمى “القضية الفلسطينية” كمادة للتعبئة وحشد الطاقات واختراق الدول التي تنظمت واستفادت من ثرواتها على غرار الدول الغربية. وكلما حاولت هذه الدول الغنية التخلص من عبئ الحروب واستعمال النظام العالمي لزيادة الاستقرار فيها، تعمل التيارات الدينية بشكليها على خرق التفاهمات واشغال الساحة بحروب وقلاقل تمنع التعاون وتنظيم العلاقات بين الدول وتبرز التناقضات بين شعوب المنطقة. من هنا التناغم بين التيارين الدينيين في المنطقة بشأن محاربة الاستقرار والسعي لخلق الفوضى. وهذا ما حدث إن في الحرب السورية التي هجرت الملايين إو في أحداث البحرين والقطيف واليمن وحتى الهجمات الارهابية في سيناء وغيرها.

حرب غزة الأخيرة والتي بدأت بعملية دقيقة حضر لها الحرس الثوري ولا يزال يحاول استغلالها، خدمت التيارين لا بل أسكتت كل محاولات الدول التي جربت التركيز على مصالح شعوبها ومواجهة هذه التيارات، فإذا بها تمتنع عن المبادرة وتعود إلى اجترار الشعارات القديمة وتنسى ما قام به أعداءها، لا بل تقبل بتسويق نظرياتهم أحيانا، بدل أن تسعى لخلق حلول وطرح أفكار تدعم عملياتها السلمية وتوقف هدر الدماء بفرض الاعتراف بهزيمة التيارات الدينية، التي لا تنتج سوى الدمار والخراب والقتال بأجساد المواطنين العزل والمتاجرة بدمائهم بدون رحمة، والتي تسعى جاهدة لمنع التفاهم وحماية الاستقرار والدفع نحو السلام الذي وحده يخدم مصالح الشعوب.

فهل بلغ المثقفون أو من يعتبرون قادة الرأي في دول العرب مرحلة فهم مصالح شعوبهم والقيام بواجباتهم في توجيه الرأي العام؟ أم أنهم لا يزالون يعيشون ازدواجية الولاء لبلدانهم المستقلة من جهة وللفكر التوسعي الامبراطوري المتوارث الذي يدغدغ مشاعر البعض منذ زمن الخلافة من جهة أخرى؟

الوضع الحالي دقيق جدا، والمنطقة تمر بمرحلة مصيرية يجب أن تحسم فيها الخيارات، ولا يجوز أن تترك الشعارات الرجعية التي سادت منذ 1948 ولطخت الفكر العربي فأدت إلى تقهقر دول كانت تبدو ناجحة كمصر أو على طريق الازدهار كالعراق وسوريا، والتي وقعت في دوامة العنف والاتقلابات والتقهقر بسبب عدم الرؤية وعقدة فلسطين. فهل تنهض مصر ومن تبقى من دول العرب المستقرة والغنية نوعا ما وتأخذ المبادرة في تثقيف شعوبها والخروج من دوامة العنف فتفرض اعتراف الأرهاب الفلسطيني بالفشل والهزيمة لوقف المهزلة والمجازر المرتكبة بأسم فلسطين؟ أم أنها سقع هي في دوامة العنف التي مرت بها المنطقة في الخمسينات والستينات والتي لم تنته إلا باعتراف عبد الناصر بالهزيمة في حرب 1967؟