غسان صلييي/النهار: فرحتي ب”طوفان الأقصى” التي سرعان ما تبددت

99

فرحتي ب”طوفان الأقصى” التي سرعان ما تبددت
غسان صلييي/النهار/10 تشرين الأول/2023

[ اعرف ان مقالي هذا سيزعج كثيرين بل سيغضب البعض. لكني شبه متأكد ان أصدقائي الفلسطينيين في غزة والضفة سيرضون عنه في قرارة انفسهم، بعد أن ناضلنا معا لأربعين سنة في المحافل العربية والدولية النقابية، نصرة للقضية الفلسطينية. لم اشأ ان أترك نشوة الابتهاج بعملية حماس البطولية تسيطر على عقلي، وتمنعني من رؤية ما ينتظر الشعب الفلسطيني من مآسٍ وكوارث. إضافية. وحدها انتفاضة مدنية جديدة تشبه الانتفاضة الاولى، قادرة على انتشال الشعب الفلسطيني من بؤسه، وتمكينه من استعادة سيطرته المباشرة على مصيره، بدل تسليمه لقوى دينية- عسكرية تنفذ اجندات إقليمية، وتستبدل احتلال الارض باحتلال الإرادة الفردية والجماعية]

فرحتُ بعملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها “حماس”، كما فرح الشعب الفلسطيني المقهور، وكما يمكن ان يفرح اي انسان بعمل يقوم به مقهور ضد قاهر متغطرس.

مصدر الفرح هو على مستوى الشعور وعلى مستوى الإدراك. على مستوى الشعور، نفرح بانتفاضة مقهور على قاهره، سيما ان هذا القاهر محتل ومتغطرس، يرتكب الجرائم منذ أكثر من سبعين سنة، بحق الشعب الفلسطيني وشعوب عربية كثيرة، فيما هو يتلقى الدعم والتأييد من الدول الكبرى والكثير من بلدان العالم. اما على مستوى الادراك، فنفرح بالقدرات التكنولوجية التي جسدتها العملية العسكرية التي قام بها الفلسطينيون، والتي سمحت باسترجاع، وربما مؤقتا، مساحة من الأرض المحتلة. ذلك ان غطرسة القاهر تتغذى أيضا من تفوقه العلمي والتكنولوجي.

فرحت بالعملية البطولية، لكن سرعان ما تبددت سعادتي عندما بدأت افكر بمآلها على القضية الفلسطينية، التي نُفذت العملية بإسمها.

لا اريد ان اتكهن بمآلها العسكري، بين حماس وإسرائيل، من حيث استرجاع مساحات من ارض فلسطين المحتلة، لكن علينا أن نتوقع جرائم كبرى وتدمير هائل ستقدم عليها حكومة نتانياهو اليمينية او المطعمة بشخصيات من المعارضة. لا سيما ان حصل اجتياح برّي لغزة. فعملية حماس غير المسبوقة من حيث حجم الخسائر الإسرائيلية والاستنكار العالمي الواسع لها، جعلت من إسرائيل ضحية، والتصريحات الأميركية المبررة مسبقا للرد الاسرائيلي وارسالها لأسطولها البحري للمساندة، تفتح المجال واسعا أمام عمليات انتقامية لا تُحاسب عليها إسرائيل، لا داخليا ولا خارجيا. رغم الحذر الذي قد تسببه لها، رغبتها في الحفاظ على سلامة الأسرى الاسرائيليين لدى “حماس”.

كما اني اتوقع، وهذا شبه حتمي، ان تسيطر حماس على الضفة الغربية وتاليا على السلطة الفلسطينية، بعد العملية التي نفذتها والهالة والتقدير اللذين حظيت بهما فلسطينيا واسلاميا. وهذا بغض النظر عن النتائج الميدانية للعملية وتبعاتها البشرية والمادية.

وربما كان هدف الاستيلاء على السلطة الفلسطينية، هو أحد الابعاد الاستراتيجية لعملية “حماس”. يذكّرني ذلك، بحرب تموز اللبنانية، التي تسبب بها “حزب الله” ودمرت قرى وبلدات الجنوب والضاحية الجنوبية وقتلت اهلها وهجّرتهم. لكن “حزب الله” خرج من الحرب بانتصار “إلهي” سمح له بالهيمنة لاحقا على الدولة اللبنانية، بعد غزوة بيروت وإحتلالها.

ولأن الانتصار “الإلهي” لم يحوّل لبنان إلى جنة يحكمها الله، كما كان مفترضا، بل الى جهنم تحكمها الشياطين، أخاف على فلسطين وعلى الفلسطينيين، اذا استولت “حماس” على السلطة فيها. فإستيلاء “حماس” على السلطة في غزة حوّلها الى ما يشبه السجن الكبير، بعد أن نكّلت بخصومها السياسيين، واحتكرت مصادر التمويل والثروة، وضيّقت على النقابات العمالية، ومارست التمييز ضد المرإة بإسم الدين والتقاليد. صحيح أن غزة محاصرة من الاحتلال الاسرائيلي، لكن البؤس الفلسطيني في غزة ليس سببه الوحيد إسرائيل. تماما كما ان البؤس اللبناني والسوري ليس سببه الحصار الأميركي وحده كما يروّجون، بل القوى المهيمنة في البلدين.

وتأتي عملية “حماس” بالنسبة لنا نحن اللبنانيين، بعد أحداث مخيّم عين الحلوة، التي تسببت بها “حماس” وحلفاؤها من الجماعات الاسلامية المتطرفة، ولم يكن ضحيتها، الا اللاجئون الفلسطينيون في المخيم، التي تقاوم “حماس” بإسمهم واسم قضيتهم.

أشار الكثيرون الى ان توقيت عملية حماس، مرتبط بمسار التطبيع العربي مع إسرائيل، وكأن العملية حصلت، بدفع ودعم إيراني، لقطع الطريق على التطبيع بينها وبين السعودية. قد يكون ذلك صحيحا، وقد يؤدي إلى وقف مسار التطبيع او الى تأخيره. لكن من المؤكد ان حماس فرضت نفسها كمفاوض، قبل التطبيع وبعده. والتفاوض مع إسرائيل سيبدأ حكما بشأن الأسرى الاسرائيليين لدى “حماس.”

حرصت ايران على الإعلان صراحة عن اهتمامها المباشر بما يحصل في فلسطين من خلال اتصال الرئيس الإيراني بالأمين العام ل”الجهاد” ورئيس المكتب السياسي ل”حماس”، داعيا “الحكومات المسلمة الى الانضمام للمجتمع المسلم لدعم الأمة الفلسطينية.” هذه الاسلمة للخطاب السياسي يتلاقى مع اسلمة عنوان العملية، الذي لم يكن “طوفان القدس او فلسطين” مثلا، بل “طوفان الاقصى”. وفي هذا كله اسلمة للقضية الفلسطينية.

لست من الذين يعتقدون ان إسرائيل لا تريد ل”حماس” ان تتسلم السلطة وتطيح بالرئيس الفلسطيني وبقيادة فتح. فالتفاوض مباشرة مع “حماس” والتوصل معها الى اتفاقات أضمن امنيا من الاتفاق مع السلطة الحالية، الفاقدة للسيطرة الفعلية على الارض ولثقة الناس. فلماذا لا تأتمن اسرائيل حماس كما إتمنت “حزب الله” من قبل، في مسار ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، الذي أدى إلى تطبيع في الواقع وإن لم يتم بعد على الورق؟ لا شك ان ايران ستكون سعيدة بذلك.

من جهتي ومنذ زمن، لم أعد أخشى التطبيع. فقد اصبحنا في مرحلة التطبّع الذي يتجاوز بخطورته التطبيع، على الشعب الفلسطيني وعلى الشعب العربي بشكل عام.

في نص نشرته في كتابي “انتفاضة ١٧ تشرين” بعنوان “التطبّع أخطر من التطبيع يا عزيزي”، أوضحت موقفي على الشكل التالي:
“ألسنا نتطبع، إن كنا، مثل إسرائيل، ندعي بأن عنفنا هو للدفاع عن انفسنا ونستخدمه للسيطرة ولبسط سلطتنا على الآخرين من شعبنا؟
ألسنا نتطبع، إن كنا، مثل إسرائيل، نعرّف عن انفسنا وعن غيرنا بحسب هويتنا الدينية؟
ألسنا نتطبع، إن كنا، مثل إسرائيل، نستلهم الماضي طريقاً للحاضر وللمستقبل؟
ألسنا نتطبع، إن كنا، مثل إسرائيل، نستعين بمظلومية الماضي لنهيمن على الحاضر؟
ألسنا نتطبع، إن كنا، مثل إسرائيل، نعوّل على التمويل الخارجي شرطاً لاستمرارنا وتأبيد سلطتنا؟
ألسنا نتطبع، إن كنا، مثل إسرائيل، جزءاً من مشروع أكبر منا؟
ألسنا نتطبع، إن كنا، مثل إسرائيل، نهجّر أناسا باسم الدفاع عن مقدساتنا؟
ألسنا نتطبع، إن كنا، مثل إسرائيل، نقرر نحن مَن يمثل الفلسطينيين ومَن لا يمثلهم؟
شتّان ما بين أخطار التطبّع الذي لا نكترث له، وأخطار التطبيع الذي نصبّ عليه جام غضبنا.
التطبيع يبقي التمييز بيننا وبين عدوّنا، حتى لو اعترفنا به وأقررنا باحتلاله.
التطبّع في المقابل، يجعلنا نشبه عدوّنا، فهو سيبقى معنا وفي داخلنا حتى ولو ذهب الاحتلال.
عندما يصبح الاحتلال طبعنا، وهذا اقصى ما يطمح إليه مَن يحتلنا، نفقد اهم وسيلة لمواجهته: السند الاخلاقي والقيمي ضد ممارساته. وهذه هي الخطيئة الكبرى للمقاومات الاسلامية بحق القضية الفلسطينية.
فهذا السند الأخلاقي والقيمي هو ما يجعل من القضية قضية.
العين على التطبيع، في حين ان الخصال والممارسات قد تطبّعت منذ زمن بعيد.”