الكولونيل شربل بركات/لماذا لا يحكم حزب الله لبنان ويتحمل مسؤوليته كاملة؟

503

لماذا لا يحكم حزب الله لبنان ويتحمل مسؤوليته كاملة؟
الكولونيل شربل بركات/12 أيلول/2023

هل يفهم حزب الله أن سلاحه الذي يعتقد بأنه يحميه ويفرض بواسطته على الآخرين القبول بشروطه هو نفسه نقطة ضعفه في التركيبة اللبنانية؟ وأنه سيكون السبب الرئيسي لضياع أحلامه بقيادة الطائفة وبتزعم البلاد وخدمة أسياده الإيرانيين؟

الأحداث التي مرت على لبنان الكبير منذ نشأته في 1920 وحتى اليوم أوهمت بعض أبناء الطائفة الشيعية بأنهم كانوا مغبونين بانضمامهم إلى لبنان لا بل محرومين من المكاسب والمزايا التي تمتع بها غيرهم. ولذا فقد أتخذ بعضهم دوما جهة المعارضة أو المعاداة للدولة. فهل أن لبنان الدولة لم يكن منصفا مع الطائفة الشيعية؟ وهل الانتماء له قلّص مكتسباتها كطائفة لصالح طوائف أخرى؟

في نظرة سريعة لتاريخ لبنان الحديث أي منذ ما بعد الحروب الصليبية ودخول المماليك الذي يذكر فيه الدكتور محمد علي مكي بكتابه ” لبنان من الفتح العربي إلى الفتح العثماني” بأن فتاوى ابن تيمية جعلت الشيعة اللبنانيين يهجرون الكثير من مواطنهم في لبنان، نستنتج بأن زمن المماليك لم يكن لصالح الشيعة اللبنانيين. وفي قراءتنا لتاريخ الدولة الصفوية في إيران نجد بأن الشاه اسماعيل استعان ببعض مفكري وأئمة جبل عامل اللبناني لتطوير المذهب الشيعي الذي أعتمده للدولة الصفوية. ومن ثم فحروب هذه الدولة مع العثمانيين حيث انتصر السلطان سليم على الشاه اسماعيل (1514) قبل معركة مرج دابق (1516) وأخضعه، أثرت سلبا بدون شك على شيعة لبنان فشعروا بالخوف من الآتي وانتقاص حقوقهم، بينما مساندة القوى اللبنانية التي كانت تحارب مع فخر الدين الأول في معركة مرج دابق تحت لواء والي حلب الذي انقلب على المماليك والتحق بقوات السلطان سليم لينتصر هذا الأخير ويسحق المماليك في تلك المعركة، أعطت نوعا من الدالة للدروز على العثمانيين وبالتالي تسلمهم السلطة بسهولة في جبل لبنان. من هنا لا بد أن يكون الشيعة اللبنانيين في جبل عامل قد احتموا بالدروز كما بقية اللبنانيين كي لا يحصدوا نقمة العثمانيين عليهم لأن بعض مشايخهم كان لا يزال يحلم على ما يبدو بالدولة الصفوية.

لن نطيل الكلام على الامارة اللبنانية ولكننا نعرف بأن شيعة جبل عامل على الأقل كانوا من مؤيدي الأمير فخر الدين الثاني الكبير وقد ساهموا في حروبه وتمتعوا بنوع من السلطة في مناطقهم بالتنسيق مع الأمير وادارته. أما بعد انتهاء حكم المعنيين واستلام الشهابيين (السنة) للسلطة في جبل لبنان فقد حاول العثمانيون التخفيف من سعي اللبنانيين إلى الاستقلال بإثارة بعض المشاكل لحكام الجبل والاتصال المباشر بزعماء المناطق، ما أحدث بعض التفرقة بين الفئات اللبنانية، خاصة زمن الأمير يوسف والشيخ ناصيف، وكان هذا الأخير حافظ على حدود لبنان التاريخية في الجنوب في قتاله ضاهر العمر أو والي الشام ومن ثم الجزار وحتى حماية حدود سلطته ضمن المناطق اللبنانية في مواجهة الأمير الشهابي.

من هنا بدت المنطقة الجنوبية أكثر استقلالا عن سلطة والي الشام من المناطق البقاعية مثلا. ولكن زوال حكم ناصيف ومقتله في مواجهة الجزار، وفرض الأخير للتجنيد الاجباري من جهة وأعمال السخرة والأذلال من جهة أخرى، جعل المناطق الجنوبية تعود أجيالا إلى التخلف والفقر، ولم يُعِد موت الجزار وتسلّم الأمير بشير الثاني للسلطة الكثير من العز لهذه المنطقة. ومن ثم يوم تمكنت المخابرات العثمانية من الرد على مساندة اللبنانيين لابراهيم باشا المصري في اجتياحه لسوريا وتحريرها من سلطتهم، بخلق نوع من الحرب الداخلية بين الدروز والمسيحيين بهدف تفتيت النواة الصلبة للجبل اللبناني، كما كانت فعلت زمن الأمير يوسف بخلق المشاكل له في كثير من المناطق ومن بينها الجنوبية، نشأت متصرفية جبل لبنان التي لم تضم جبل عامل معها ما أفقر هذه المنطقة أيضا مقارنة مع المناطق التي خرجت عن سيطرة العثمانيين المباشرة.

من جانب آخر لم يتمتع الشيعة في لبنان طيلة فترة حكم العثمانيين بأي تمييز ولم تعترف السلطنة بهم كاعترافها بالدروز أو المسيحيين وقد بقيوا ملحقين بالقضاء المذهبي السني ما قلل من استقلاليتهم أو اندفاعهم لتكوين شخصية مميزة كبقية الطوائف. من هنا حالة الضياع التي سيطرت على الطائفة وأبنائها حتى بداية الحرب العالمية الأولى حيث حاولت جمعية الاتحاد والترقي التي كانت تضم كبار الضباط العثمانيين تجنيد الفئات المختلفة في أرجاء السلطنة. ولذا فقد قامت الحركة الانقلابية التي أطاحت بالسلطان عبد الحميد بنشر دستور جديد (1908) لتعميم نظرية المساواة وضمان التزام كل الفئات بالدفاع عن السلطنة. ومن ثم الحق الكثير من زعماء الطوائف بالمدارس العسكرية العثمانية في اسطنبول للسيطرة أكثر فأكثر عليها، ومن هؤلاء سلطان باشا الأطرش زعيم دروز سوريا لاحقا وكامل بيك الأسعد زعيم شيعة جبل عامل وغيرهم. هذه الحركة العثمانية ولو متأخرة دغدغت مشاعر البعض وسهلت قيامهم لاحقا بمعاداة الحلفاء الذين أنهوا الاحتلال العثماني وجربوا اقامة دول تحترم حقوق الانسان على مثال الأنظمة الأوروبية.

أما النقطة الأهم في التحرك ضد العثمانيين فكانت العودة إلى الأصل العربي بالمجال الثقافي حيث حاول العثمانيون فرض التتريك، وقد قاد الحركة الفكرية ضد التتريك المفكرون اللبنانيون وخاصة الموارنة منهم الذين نعموا بشيء من الحرية ضمن حدود المتصرفية. وكانت تلك الحركة مهمة على صعيد أعادة احياء تجمع ما يناهض الاحتلال العثماني الذي كان يتلطى بمشروعية الخلافة الاسلامية. فالسلطان هو خليفة المسلمين والولاء يجب أن يكون له. من هنا كان اختلاف توجه اللبنانيين عامة عن المجتمعات المحيطة، إن في سوريا أو فلسطين الجارتين، فالدروز لا تعنيهم الخلافة باي شكل، ولا الشيعة الذين يختلفون بالمبدأ مع الخليفة السني، وبالطبع المسيحيين.

لذا كانت فكرة العودة إلى الجذور العربية مهمة كي يشعر السنة اللبنانيون بأن التوجه المخالف لمسألة الخلافة هو بالتميز الثقافي العربي الذي يجمع بين اللبنانيين. وعندما بدأت الثورة العربية في الحجاز ضد الأتراك بمساعدة الأنكليز قام الأتراك بتوقيف اللبنانيين المنادين بالعروبة وعلّقوا المشانق ليخيفوا الناس ويمنعوا انتشار تلك الحركة المضادة لسيطرتهم. ولكنهم بعد خسارتهم المعركة وتراجعهم حتى الأناضول وقبولهم بوقف اطلاق النار، ومن خلال معرفتهم بالأرض وردود فعل الفئات المختلفة، قاموا باستغلال دخول فيصل إلى الشام ودفعوا لاقامة مملكة عربية تحت اسمه يديرها الضباط السابقين في السلطنة، بالطبع بدون تنسيق مع الحلفاء، ولم يكن هؤلاء الضباط قطعوا ارتباطاتهم بمن سميوا الضباط الأحرار الذين اتصلوا بالبلاشفة الروس، الخائفين من اقتراب الحلفاء صوب حدود روسيا، فقدموا الأموال والأسلحة لبقايا الجيش العثماني لينتفض على الحلفاء ويمنعهم من الاقتراب من حدود الاتحاد السوفياتي من خلال ما سمي بحرب التحرير.

من هنا حركة يوسف العظمة وسعيه لخلق المشاكل بين الشيعة والفرنسيين في جنوب لبنان على غرار ما كان يحدث في جنوب تركيا وكيليكيا، وذلك بدفع قوات الفاعور التي تساندها فرقة عسكرية تأتمر بأمره المباشر، وقد تطوع معها كل خارج على القانون وكل حالم بدور عند تغيّرالدول. فكانت مجزرة عين ابل التي لم يكن للشيعة مصلحة بها ولم يكن هناك داعٍ لتنفيذها سوى أوامر يوسف العظمة وطغمته، لا بل كانت هي السبب لتهميش دورهم فيما بعد. وقد أدت إلى زوال حكومة فيصل الذي عاد الأنكليز وأقاموه ملكا على العراق بينما أقاموا شقيقه عبدالله ملكا على الأردن.

إذا عند اعلان لبنان الكبير كانت مجزرة عين إبل قد لطخت وجه الشيعة، كما قال الزعيم الشيعي كامل بيك الأسعد يومها، وبدون سبب أساسي سوى تنفيذ أحلام بعض من اعتقد بأن السلطنة عائدة كما جرى بعد انسحاب ابراهيم باشا المصري. ومن هنا تأخر انضمام جبل عامل بقوة إلى لبنان ما عرقل استفادة أبنائه من الوضع المستجد الذي بني خلاله لبنان الكبير. فبينما انضم المفتي السني للصورة التذكارية لاعلان لبنان الكبير تغيّب زعماء الشيعة الذين كان من المفترض أن يكونوا في رأس الحاضرين. لكن الفرنسيين تنبهوا لهذه النقطة وأعطوا الشيعة فيما بعد نظام المحاكم الشرعية معترفين لهم بأنهم جزء من الكيان اللبناني له خصوصيته، وهذا ما أعاد ولو ببطئ للمركّب الشيعي بعضا من تميّزه. ولكن المقارنة ببقية المناطق والفئات كانت عبئا على الزعامة الشيعية التي ركزت، بدل الانماء المتكامل للمناطق التي يسكنها الشيعة بكثافة، على المساعدات الفردية التي وسعت الفوارق بين الناس خاصة داخل الطائفة، وسمحت لانتشار الرفض المتمثل باللجوء إلى الأحزاب الخارجة عن التطلعات الوطنية.

من هنا وعند كل مفصل وطني كانت الدول والأنظمة التي تخاف من التنوع اللبناني وأجواء الحرية التي ترافقه تخطط لابتلاع لبنان وتركز على الرفض الشيعي كما على غيره من مصالح الزعماء. ولما كان للأحزاب الخارجية بعدا أكبر من لبنان الدولة فإن أي معاناة أو تطلعات في دول الجوار كانت تنعكس سلبا على الاستقرار الوطني والوحدة داخل لبنان والتي من شأنها بلورة مصالح كافة الفئات وتصحيح أي خلل على مستوى المناطق في مجالات التطور والانتاج وفرص العمل. وقد كانت الحرب العالمية الثانية واحتلال فرنسا من قبل الألمان قد وضع حواجز حدودية بين لبنان وفلسطين خففت من النمو الاقتصادي الذي كان بدأ يتحقق في مجالات التجارة المتبادلة وأسواق العمل في المناطق الجنوبية. ثم جاء الانسحاب السياسي للحلفاء، مباشرة بعد دخول الجيوش البريطانية إلى لبنان، تحت عناوين الاستقلال، لكي يتفضى هؤلاء لتحرير أوروبا من القبضة الألمانية، فترك أثره على التركيبة السياسية في ظل ما سمي بالميثاق الوطني حيث نال الشيعة المركز الثاني في تركيبة الدولة، أي رئاسة المجلس التشريعي وهو منصب مهم تناوب عليه عدد من الشخصيات الشيعية الجنوبية والبقاعية. ثم وقعت نكبة فلسطين وتبعتها الثورات العربية، خاصة في سوريا ومصر والعراق وما جرّته من شعارات رنانة تلهب النفوس، لتنمّي التباين بين اللبنانيين وتنشر الكثير من الشعور بالغبن، خاصة في المجتمعات الفقيرة ومنها الشيعية.

بعد ما سمي بثورة 1958 فُرض نوع من الاستقرار على لبنان بحماية شبه دولية وانسحاب عبد الناصر من سوريا باتجاه اليمن ومن ثم حل الوحدة بين مصر وسوريا، والتي كانت أرهقت السوريين، ما أعطى لبنان فرصة للبناء والتنظيم التي شعر فيها الشيعة بنوع من العدالة وبعض الرخاء حيث وصلت الكهرباء والمياه إلى كل القرى وفتح تنظيم الادارة الأبواب للكثيرين لدخول وظائف الدولة والعمل في القطاع الخاص الذي نمى كثيرا، سيما وأن بيروت أصبحت ميناء العرب بينما الشواطئ الجنوبية والشمالية مصب النفط إن من كركوك العراقية أو من الظهران السعودية. وقد استفادت سوريا ايضا من هذه الثروات فخففت التدخل بشؤون لبنان الداخلية نوعا ما. وقد شهد النصف الأول من الستينات مرحلة استقرار نفسي واجتماعي خاصة للطائفة الشيعية التي اعتبرت الأكثر نموا واعتمادا على وظائف الدولة (وفي هذه الفترة توجه الكثير من اللبنانيين صوب العاصمة للعمل ومنهم بعض أبناء المناطق الشيعية الفقيرة الذين لم يكن لديهم مجالات علمية أو اختصاصات معينة تساعدهم على انتقاء نوع العمل فدخل بعضهم وظائف أو أعمال تعتبر وضيعة منها العتالة أو مسح الأحزية أو حتى جمع القمامة والتي يتاجر بعض المتحزبين اليوم بأن غير الشيعة يريدوننا أن نعود عتالة أو ماسحي أحزية).

ولكن اضطرار عبد الناصر للانسحاب من اليمن تحت ضغط الخسائر البشرية جعله يلتفت مجددا صوب اسرائيل لتكون المخرج لسحب جنوده من اليمن بشكل سريع وبدون عواقب على شعبيته، من هنا كانت حرب 1967 التي قلبت الموازين وأظهرت وهم الوحدة العربية التي نادى بها عبد الناصر.

وأصبحت بيروت بعد الاغلاق الكلي لقناة السويس هي الطريق الوحيد لتجارة أوروبا نحو بلاد الخليج الغنية. لذا بدأ التركيز على لبنان في محاولة لمقاسمته الأرباح التي يجنيها، خاصة وأنه لم يدخل الحرب التي خسر فيها كل من شارك أرضا وموارد، فكان قرار الانتقام منه باستعمال الفلسطينيين فيه كوقود للثورة، وبالطبع كل الناقمين. ومن هنا التركيز على الأطراف الفقيرة، ما أعاد حسابات بعض الفئات التي لم تنظر إلى مصالح الوطن بل ركزت على رؤية مرحلية قد تسهم في زيادة سيطرتها على “الجبنة” التي ينعم بها البلد، فكان اتفاق القاهرة المشؤوم.

في هذه الأثناء كانت إيران الشاه قوة اقليمية كبيرة ودولة نفطية بارزة على الصعيد الدولي وكان الشاه يسعى لمد نفوذه صوب جيرانه في دول الخليج الغنية خاصة بعد انسحاب البريطانيين منها. وخوفا من امتداد الحركات التحررية صوب عرشه، التفت إلى لبنان ليكون دولة مساعدة، ولو نظريا، لمنع سيطرة الايديولوجيات التوتاليتارية التي تهدد كل العروش. ولكن بعد محاولات عرفات فرض نفسه على الدولة شجع نظام الشاه الامام موسى الصدر، وهو من أصول إيرانية، وكان منظورا بين رجال الدين الشيعية في لبنان، للتأثير بهذه الفئة اللبنانية، وبدأ بتوزيع المنح الدراسية الجامعية بواسطة السفير خليل الخليل سفير لبنان في طهران، وهو من العائلات الشيعية الجنوبية المعروفة، في بادرة لجذب اهتمام الشيعة اللبنانيين وربما ابعادهم عن اليسار العالمي. وقد كان الأمام الصدر قام بالفعل بالتأثير على مجريات الأمور وبادر بتنظيم الطائفة الشيعية بمباركة من الدولة اللبنانية، إلا أن تصاعد العنف الذي قاده عرفات ومنظمة التحرير أخاف الجميع ومن بينهم الأمام الذي كان يحاول تأمين المطالب بالطرق السلمية. ولكن الجيش لم يستطع السيطرة على البلاد في أحداث 1973 تحت ضغط الدول المحيطة وخاصة سوريا (وربما مصر التي كان لرئيسها السادات مشروعا آخر يحضر له وقد رأينا نتائجه في تشرين 1973)، ما دفع بالأمام للاحتماء بالسلاح كبقية الفئات اللبنانية حيث ظهرت حركة أمل كجناح عسكري بأمرته.

لن نتكلم عن الأحداث التي عصفت بالوطن ومزقت كل أوصاله منذ الهجوم على عين الرمانة وما تلاه من عمليات عسكرية وتحالفات عبر الحدود أوقفت سفينة الثراء وحطمت دور بيروت الاقتصادي لتعود الحركة التجارية إلى قناة السويس التي عادت مصر لتشغيلها في حزيران 1975. وكان اللبنانيون وبأيديهم وبواسطة الثورة الفلسطينية قد هدموا الصرح الذي تباهوا به. وفي الجانب الغربي من بيروت طرد المسلحون كل الشركات الأجنبية والمصارف والفنادق بينما قام المسيحيون في الجانب الشرقي بالتخلص من المرفأ رمز ثراء العاصمة بكل ما فيه. ومن ثم كان تململ الشيعة من السيطرة الفلسطينية بالاضافة إلى اتفاق اسرائيل مع الجانب المسيحي قد ساهما بدفع هذه لدخول لبنان صيف 1982 والتخلص من عرفات ومنظمته.

ولكن محاولة الرئيس أمين الجميل خلق ما اعتقده توازنا في العلاقات بين الجارين سوريا واسرائيل قلب الأمور رأسا على عقب وأدى إلى ظهور حزب الله المتطرف والتابع للحرس الثوري الإيراني لينموا ويسيطر على الطائفة الشيعية، ومن ثم على البلد في ظل المباركة السورية مقابل الامبالاة الاسرائيلية وابتعاد التأثير الغربي ما بعد الهجمات الانتحارية. ولم تفد مقاومة حركة أمل لهذه السيطرة، وهي التي خسرت زعيمها الأمام الصدر منذ آب 1978، الذي يعتبر البعض بأنه غيّب بتوافق سوري – ليبي، لكي يتسنى لسوريا السيطرة على الطائفة وتجييشها ومنع تعاونها مع بقية اللبنانيين.

وفور تخلصها من العقبة العراقية، بمساعدة الولايات المتحدة، وسّعت إيران الخمينية سيطرتها على المنطقة، وخاصة بعد الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان الذي جُيّر لحزب الله، ما أدى إلى سهولة تفرّد هذا الحزب بالسلاح وبالتالي فرض السيطرة الإيرانية على لبنان بالقوة. فهل يمكن القول بأن الشيعة يحكمون لبنان؟ أم أن البعض يتوهم ذلك لأن الحاكم الفعلي هو ذلك الذي يصدر الأوامر من طهران؟

بالطبع كانت خطة الخميني الهادفة للسيطرة على المنطقة ما بعد سقوط النظام العراقي قد أخذت تتبلور في تفعيل الحركات الشيعية في دول الخليج من الكويت إلى البحرين فالسعودية وانتهاءً باليمن، وفي كل هذه استعملت الطاقات اللبنانية التابعة للحزب المؤدلج والمدرب على أيدي الحرس الثوري والذي يعتبر عناصره اللبنانيين من العرب ما يسهل تفاعلهم مع المجتمعات الشيعية العربية، بينما استعمل الانتشار اللبناني خاصة الشيعي في القارة الأميركية وغيرها لعمل المخابرات والاتجار بالممنوعات كوسيلة لتمويلها وتقوية النفوذ الإيراني وتأثيره العالمي، ما ادى إلى ردة فعل على النظام المالي اللبناني الذي استعمل لتمرير جزء من هذه الأموال فجرّ كارثة اقتصادية ضربت الشعب اللبناني الذي ثار لتغيير الوضع ولكنه جوبه بالفرز الطائفي وجماهير “شيعة.. شيعة”.

حزب الله الذي يتلطى خلف سلاحه للسيطرة على الأرض والاستقواء على الآخرين لم يعد يجد مساندة له بالواقع بين بقية مكونات الوطن. ومع أننا لا نعارض بأن يتسلّم الشيعة قيادة البلاد كما تسلّمها قبلهم الدروز والسنة والمسيحيون فيثبتوا فعاليتهم وحسن الادارة، ولكننا لا نجد في من يقودون الطائفة الشيعية اليوم من هم أهلا لذلك. فالشرط الأساسي لتسلّم الزعامة في بلد متعدد الفئات أن يشعر الجميع بالأمان والاستقرار وبأن الحاكم يخدم مصالحهم بالتساوي. أما أن يكون مأمورا من دولة لا يهمها مصالح الناس لا بل تسعى لفرزهم بين منفذ مطيع لسياساتها وأوامرها وحالم بالتحرر من النير والعيش الكريم، فمن الطبيعي ألا تقتنع الأكثرية أو تقبل به. لذا فإذا أراد حزب الله أن يحكم بالقوة فله ذلك، ولكن لن يكون سهلا عليه لأن البقية وهم الأكثرية سيعارضون كل تصرفاته، ولو رضخوا اليوم إلا أنهم لن يستمروا بالرضوخ، وسوف يجدون مخرجا عاجلا أم آجلا للتخلص من نيره. ومن هنا التفريق بين الشيعة كطائفة والحزب كقوة استعلائية تريد فرض نفسها على البقية.

في الخلاصة يمكن أن يعتقد بعض الشيعة بأنهم كانوا مغبونين لفترة ما وأن دولة لبنان الكبير لم تساويهم بغيرهم من اللبنانيين، وهي مقولة خاطئة اصلا، ولكن من يعتقد بأن “حزب السلاح” قادر أن يعطي أبناء الطائفة الشيعية التفوق على الآخرين والاستعلاء وفرض الرأي بالقوة، فإنه لا يعرف تاريخ البلد ولا نضال أبنائه، وهو بدون شك لم يفهم مبادئ “شيعة الحق” الذين عاشوا طيلة قرون في لبنان بالقلة والشح رافضين الذل ومتعاونين مع أخوتهم من أجل الحرية والمساواة، وأن الظروف المحيطة التي مرت عليهم تمر اليوم على غيرهم، فإذا هم شعروا بالمرارة يوم فرضت عليهم القلة فإن لغيرهم نفس الشعور اليوم.

كما يعتقد الكثير من اللبنانيين بأن في اسم حزب الله تجبّر وعدم احترام للعزة الالاهية. وفي تصرفاته تعالي وتغييب لأي دور للآخرين. ولن يكون ممثلا طبيعيا لفئة من اللبنانيين كونه مأجور لدولة أقليمية. وهو مهما حاول أن يتلطى خلف مقولة حقوق الطائفة الشيعية لن يقنع الشيعة أولا ولا غيرهم من اللبنانيين، بأنه يمثل تطلعاتهم، ويعمل من أجل مصالحهم. فهم يعرفون التمييز بين مصلحتهم الوطنية وتنفيذ أوامر الغريب، ويعلمون بأن هذه تتكامل مع مصالح اللبنانيين الآخرين ولا تتنافى أو تتناقض، وأن أي تنظيم لأمور البلد بالشكل الصحيح يفسح المجال لكل أبنائه للتنافس الحر الصحي والخلاق الذي ذاقوا طعمه ولم ينسوا حسناته بعد.

فهل يفهم حزب الله أن سلاحه الذي يعتقد بأنه يحميه ويفرض بواسطته على الآخرين القبول بشروطه هو نفسه نقطة ضعفه في التركيبة اللبنانية؟ وأنه سيكون السبب الرئيسي لضياع أحلامه بقيادة الطائفة وبتزعم البلاد وخدمة أسياده الإيرانيين؟ فلو تصرف هذا الحزب بطريقة مغايرة يوم خرجت اسرائيل وقام بتسليم سلاحه للدولة وحل الجناح العسكري الذي يدّعي بأنه عمل من أجل تحرير لبنان، لكان قدّره كل اللبنانيين واحترموه وبقي رأيه معتبرا بين جميع الفئات، لا بل كان يمكن أن يتفهموا مواقف الدولة التي ساندته. ولكنه تصرّف بتعالي وعنجهية وأصبح يدير ما يشبه العصابات، التي تحتل مساحات من البلد وتفرض فيها نظامها وثقافتها المختلفة عن ثقافة الآخرين، ويكدّس بين بيوتها مخازن السلاح التي يعرف الكل بأنها تشكل خطرا على أرواحهم كما حدث يوم انفجار المرفا (إو عين قانا)، وهو يعطّل قوانين الدولة التي لا يزال من يتسلم المسؤولية فيها يحاول، ولو صوريا، تفسيرها وتبديلها لتستقيم بما يخدم الأغلبية ويؤمن الاستقرار والنمو ليعطي المزيد من الطمأنينة على المستقبل. فالوطن يجب أن يكون مساحة لتحقيق الذات وبناء المستقبل والتطور نحو الأفضل، لا مكانا للقهر ونشر الحقد والتفتيش عن أسباب للصراعات الداخلية أو الخارجية.

حزب الله ولو حكم لن يكون ممثلا لمركب لبناني ولن يقنع الطائفة الشيعية بتمثيله، ولذا فهو يخاف من أن ينقلب عليه أبناؤها أولا، لأنه أعادهم إلى زمن كانوا اعتقدوا بأنهم خرجوا منه ونسوه. وما رأيناه في تصرفه مع الشيخ على الأمين مفتي صور السابق الذي اقتلعوه من منصبه وجردوه من وظيفته، أو مع المفكر لقمان سليم ابن الضاحية الجنوبية وسليل عائلة مهمة من عائلاتها الشيعية الكريمة، وما قام به اليوم مع الشيخ ياسر عودة وغيره من أصحاب الرأي المخالف، لا ينبئ بأنه يتعلم من أخطائه لا بل هو يدفع، بفعل الخوف من ردات الفعل، ربما، صوب معاداة الكثيرين من أبناء الطائفة الذين لا يدورون في فلكه. فالتعليم الذي ساهم بتقدم هؤلاء ها هو يحاول أن يمنعه عن أبنائهم فهل يريدهم حملة سلاح وتجار مخدرات أو قطاع طرق يمدون أيديهم على أملاك الناس وأرزاقهم ويحتمون بسلاحه وسياسة أسياده القمعية؟ وهو يمنع قيام الدولة التي تحمي وتساوي. ويمنع تحقيق العدالة وتنفيذ القوانين. ويعتمد على العدد لأخضاع بقية مركبات الوطن وينسى بأن لبنان قام لحماية الضغفاء وتأمين حرياتهم ولم يكن مرة بلدا للطغاة الظالمين. فكيف سيأمن المواطنون للعيش في بلد لا قانون فيه ولا سلطة ولا دولة ولا مستقبل. فهل يتعظ من يدعي الزعامة وهل يفقه من يجلس على الكراسي بأن الأمل ضعيف في قيادة الوطن بالقوة وأن الاستعلاء والاستكبار الذين يتهمون الآخرين بهم لن يوصلوا إلى رضوخ اللبنانيين وتسليمهم لسطوتهم، لا بل يجب أن يفهموا بأن الأيام تدور والتحالفات يمكن أن تتبدل وموازين القوى كذلك وبأنها “لو دامت لغيركم ما وصلت لكم”؟..

الكولونيل شربل بركات
تورونتو كندا
12 أيلول 2023