الكولونيل شربل بركات/تضامنا مع مسيرة أبناء عين إبل اليوم وذكرى الأربعين… شهيد لبنان – الياس الحصروني – الحنتوش

157

تضامنا مع مسيرة أبناء عين إبل اليوم وذكرى الأربعين… شهيد لبنان – الياس الحصروني – الحنتوش
الكولونيل شربل بركات/08 أيلول/2023

خسارة الحنتوش ليست كبقية الخسائر.. هو لم يكن صديقا مقربا لزمن طويل فقط.. ولا كان شريكا في مشاريع مادية أو رفيقا في مغامرات الشباب الطائش، ولم يكن نديما في جلسات السمر والظروف المارقة ولو أنه تمتع بروح الفكاهة والحس المرهف، وأضفى على السهرات دوما بعضا من رقته ودقة الملاحظة التي تحمي من المزايدة وتحيي روح المرح المتوازن…

الحنتوش كان رمزا من رموز البقاء، وركنا من أركان البناء، وفكرا راسخا في فلسفة المجد وصون الحرية، وينبوعا للفخر والعنفوان لا ينضب…
الحنتوش كان منبعا للشجاعة لا يخاف المواجهة، ومنهلا للقوة والتشبص بالحق لا يهاب الصعاب.. وكان منفذا بارعا لكل الأحلام الكبيرة، يعرف كيف يمررها عندما يتعب الكل، ويحييها يوم تخف الحماسة أو تقل الدوافع…

سويا دافعنا عن الوطن ولو في مطارح مختلفة، وسويا عدنا إلى الديار لندافع عن الأهل ونحمي التراب، فقاتلنا بظروف صعبة لتبقى لنا الحرية والافتخار…
تكفّل الحنتوش في أثناء الحصاربالجانب اللوجستي اضافة إلى العمل الميداني، وبرع في فرض النظام واختراع الحلول بكل الشحّ الذي عانينا منه حينها. فكان المطبخ، مع أبو سامي وأبو نزيه والصبايا، مفخرة للمقاتلين يؤمن لهم الطعام المنوع إلى المراكز ولو كان أساسه علب السردين. ولم يقبل أن يمر عيد الميلاد بدون أن يرسل قرص الكاتو على ظهر الحمار إلى المركز رقم واحد، وشعاره يومها أن مقاتلا يشعر بهذا القدر من الدعم لا بد له أن يقاتل بكل فخر، فالقرية التي يدافع عنها متكاتفة معه بكل أبنائها؛ من ذاك الذي يعمل في حر الصحراء، إلى ذلك الشيخ الذي يحمل بندقيته ويسهر على سطوح القرية، وتلك الأم التي بالرغم من خوفها على ابنائها تدفعهم على المشاركة بدون تردد، أو الكاهن الذي لا يغمض له جفن يحث العذراء لحماية الرعية، وتلك الراهبة التي تبعد الألم عن المجروح وتخترع الحلول بالموجود من الوسائل.

قبل مرور سنة على الهجوم الفلسطيني على البلدة قررنا بناء رمز لتكريم الشهداء الذين قتلوا في تلك الواقعة، وكان حماسه ظاهرا والتزامه لانجاح الاحتفال اساسيا من الناحية التنظيمية، فاهتم بأدق التفاصيل. ومن ثم وبعد أن خف القتال وارتاح حماة العرين سعى الحنتوش لبناء المزيد من النصب التذكارية لتخليد من استشهد دفاعا عن البلدة. وقد كان يدرب الصغار ويحثهم على الانضباط والعمل في سبيل عين إبل، ولو أن الخطر بعد ولكن البناء يجب أن يستمر، ولا يمكن الاستمرار بدون تنظيم. فعرف هؤلاء ب”ولاد الحنتوش”.

يوم بعدت الحرب عن البلدة التحق الحنتوش بالعمل باختصاصه في مكتب بنت جبيل التابع لشركة كهرباء لبنان، وهكذا عمل مع بقية الموظفين من سائر القرى لانجاح هذه المؤسسة وتأمين الكهرباء لكل المنطقة. ولكنه اضافة لعمله، وتماشيا مع فكرة تنمية القرية وخلق المزيد من الفرص فيها، فتح مطعما مع أحد الاصدقاء، وجرّب العمل الزراعي، وشجّع لتوظيف العديد من الشباب مع القوات الدولية، لتستمر الحياة وتنمو البلدة كما الضيع المجاورة. ومن ثم طوّر المطعم الصغير قرب الكنيسة ليبني مطعمه بجانب حرش الصنوبر الذي كنا نرى فيه متنفسا. وساهم في زيادة عدد الأشجار من حوله. ثم شارك في فكرة انشاء مدينة رياضية وناديا تقام فيه النشاطات الفنية ليشعر السكان بأنهم يتمتعون بكافة الوسائل لدعم صمودهم في البلدة. وبنى مسبحا مضافا لمطعمه ليتمتع الكل بالسباحة التي لم تكن متوفرة في العين التحتى طيلة الصيف وها هي معه تصبح بمتناول الجميع.

وهكذا منذ أن غابت ساحات الوغى عن أطراف عين إبل ترك الحنتوش وغيره من الرفاق لعبة الحرب لكي يسهموا في البناء والتجذر والاستمرارية، وحاول كل في مجاله أن يخلق تحديات جديدة ويشجع المبادرات الفردية ليزداد عدد السكان ويتطور الانتاج فيتوقف النزيف، لا بل يجذب المزيد من الشباب المهاجر، ولو صوب بلاد الخليج، ويحثه على العودة والاستثمار في ربوع البلدة.

كان الحنتوش أكثر المهتمين بجمال القرية، خاصة زراعة الأشجار على طول الشوارع، فكنا كلما قمنا بزراعة الاشجار، بواسطة اللجنة المدنية أو غيرها من المؤسسات، يقوم الحنتوش بسقايتها وحمايتها والاعتناء بها، وأحيانا كثيرة يدفع من جيبه حتى تنمو وتصبح قادرة على الاستمرار. ثم حلم بغابة أرز لنصبح أقرب إلى لبنان فبادر بمشروع زراعة شجرة لكل واحد منا يعتني بها وعائلته فيعرف قيمتها الأولاد ويكبرون على محبتها. وكان هذا الانجاز مفخرة لعين إبل ومثالا لبقية القرى في المنطقة وخارجها لاعتماد تزيين الطرق بالأشجار والاعتناء بها. ولذا نعتبر تجربة الحنتوش في عين إبل تجربة رائدة دفعت قرى المنطقة كلها للتطور باتجاه الحداثة والتجميل.

ويوم حلمنا بأم النور لتكون معلما للمنطقة بكاملها ومزارا لكل المتعبدين للعذراء، كان الحنتوش المفتاح الأساسي لشراء الأرض ودفع المشروع إلى الأمام. وهو، منذ أول عملية اقتلاع الصخور وبدء البناء، إلى يوم اكتمال أعمال الباطون، حيث وقف البرج على ارتفاع 61 مترا، منتصبا فوق تلة العاصي، مواجها تلال الجليل، متطلعا صوب الناصرة، بلدة العذراء وجبل الكرمل مقر ام النور، مظللا من خلفه بكل جلال الحرمون وجبال نيحا والباروك حتى البحر الواسع، لم يترك الموقع ولم ينم ولا اكتفى بما انجز، بل أراد أن ينتصب التمثال فوق البرج سريعا. وكان له أن زار المشغل، وأطمأن على سير العمل وشكل التمثال قبل أن يغادر ويستشهد فوق التراب الذي أحب وعمل له، في قمة عطائه، وفي وسط الصيف، وقبل عيد انتقال العذراء، عيد عين إبل، لينتقل معها صوب السماء ويشارك فرحتها بانتهاء الأعمال في مزارها، ويسعى من حيث هو الآن ليتمم خلاص لبنان من الشر الذي أغرقوه فيه.

فهل قتل الحنتوش لأنه الشعلة المتقدة التي تربط الأهل بالجذور وتحثهم على الصمود؟ وهل فهم القاتل بأننا سنرى مئات من تلامذة الحنتوش يكملون المسيرة، ليس فقط في بيئته القريبة، بل وأيضا بين الكثير من المواطنين على اختلاف مشاربهم، وهم بدأوا يتقاربون في نظرتهم للأمور، ويعارضون التسلط والرجعية الحقودة القاتلة؟ لا بل إن روحه التي لم تنم يوم شاركتنا العمل على هذه الفانية لا بد لها بأن تستمر واعية متحفذة لاكمال الحلم، وتثبيت الحق، واستمرار التقدم والتعلق بوطن الأرز، وبناء سياجه الجنوبي “الملون” والذي لم يتحمّلوا رؤيته ينمو.

الحنتوش لم يمت.. وأمثاله لا يغيبون.. وسيبقى هو ورفاقه الذين سبقوه رمزا لكل مقاوم صامد في أرضه، ولكل لبناني يعتز بالانتماء لوطن الأرز ويعمل على رفع شأنه. فإن اعتقد الجناة بأن في قتله تغييبا للقيادة وؤدا للحلم، فهم لا يعرفون نوع البذار التي نحن منها، ولم يذوقوا طعم التراب الذي يغزي الأفئدة، ولا هم تظللوا فيء الأرز وتلذذوا بهوائه. وقد قالها قديما أحد الشعراء: “إذا غاب منا سيد قام سيد”…

ولنا أن نختم مع الرحابنة في “جبال الصوان” ونرددها لكل متغطرس متشدق يعتقد بأن قوته دائمة وأنه قادر على فرض ارادته بهذه القوة وبدون اعتراض من أحد، وعلى لسان غربة ابنة مدلج: “يا فاتك المتسلط لملم عسكرك وهروب.. ففي ظل كل شجرة وخلف كل صخرة سيولد حنتوش جديد”…
وإن الله على الظالمين…