نديم قطيش/حادثة الكحّالة “ما بتقطع”… ولو قطعت

99

حادثة الكحّالة “ما بتقطع”… ولو قطعت
نديم قطيش/أساس ميديا/الإثنين 14 آب 2023
ليست حادثة الكحّالة سوى عارض من أعراض المرض العضال الذي يفتك بالحياة السياسية والوطنية في لبنان وينهش جسم النظام ومؤسّسات الحكم وعلاقات المجتمع.
شاحنة الحزب المحمّلة بالذخائر والتي أدّى انقلابها إلى اشتباك دموي بين حرّاسها وبين بعضٍ من أهالي الكحّالة، ليست الأولى ولا الأخيرة على هذا الخطّ المفتوح من طهران إلى الضاحية عبر سوريا والعراق. والتوتّر الذي اكتنف لبنان في أعقابها، شيء من الغليان الأخطر تحت السطح.
اعتراف الحزب بتبعية الشاحنة وحمولتها المسلّحة له، وتصريح الجيش اللبناني بأنّ الشاحنة كانت تحمل ذخيرة تمّ نقلها إلى “أحد المراكز العسكرية” من دون تحديد هويّة المركز وما إذا كان السلاح سيُسلّم لاحقاً للحزب، مضافاً إلى مشهديّات التصادم بين الجيش وأهالي البلدة في ظلّ فرار سائق الشاحنة ومجموعة حمايتها، تثير تساؤلات تتجاوز الحادث المباشر لتصل إلى قلب الواقع السياسي في لبنان.
الإنكار والتكاذب السياسي
الشاحنة هي أقلّ المشاكل. فالأزمة الفعليّة تكمن في الإنكار والتكاذب السياسي اللذين يميّزان الخطاب اللبناني، بشأن حقيقة ميليشيا الحزب. دعونا نتجاوز السقوف العالية التي عادة ما ترافق حوادث كحادثة الكحّالة، إذ سرعان ما تعود اللغة السياسية إلى نصابها المعتاد والمُدمّر. الأزمة الفعليّة أنّه من خلال إسباغ صفة المقاومة على الحزب بدل مسمّى الميليشيا، يلعب القادة اللبنانيون لعبة محفوفة بالمخاطر، تؤدّي إلى بناء واجهة وحدة وطنية وهميّة ما عادت قادرة على إخفاء عمق الانقسام بين اللبنانيين.
ودرّة تاج هذا الخطاب، “المعادلة الذهبية” المعروفة بثلاثيّة “الجيش والشعب والمقاومة” بما هي معادلة طمس الواقع وتشويه حقيقة علاقات اللبنانيين بعضهم بالبعض الآخر.
ليست حادثة الكحّالة سوى عارض من أعراض المرض العضال الذي يفتك بالحياة السياسية والوطنية في لبنان وينهش جسم النظام ومؤسّسات الحكم وعلاقات المجتمع
من هنا، لا يمكن في ظلّ التكاذب والإنكار وتوظيف المعادلات الجهنّمية أن يُلام الجيش على تصرّفه في الكحّالة أو في غيرها. فالجيش كبقيّة المؤسّسات، وعبر حمايته لشاحنة الحزب وحمولتها يتصرّف بموجب تفويض سياسي يحدّد علاقته بما يسمّى المقاومة. أمّا دوره في الكحّالة فيسلّط الضوء على حجم تورّط مؤسّسات الدولة كلّها مع الحزب، على نحو يمحي الخطوط الفاصلة بين الدفاع الوطني وميليشيا حزبيّة مذهبية وجيش إقليمي بالوكالة يتلطّى خلف مسمّى المقاومة، ويحتمي بإنكار اللبنانيين.
لا أتحدّث هنا عن مسألة لغوية أو لعبة دلالات ومسمّيات. إنّنا بإزاء مسألة تتعلّق بهويّة شعب ومصير وطن، تستوجب الاعتراف أنّ الحزب تحوّل من جماعة مقاومة إلى ميليشيا عسكرية، من خلال تواطؤ كلّ القوى السياسية في البلاد.
ما هو المطلوب من اللبنانيين؟
لكنّ من الجنون الاعتقاد أنّ هذا الإنكار يمكن أن يصمد، أو أنّ هذا التداخل بين الدولة والميليشيا سيدوم. فلا توجد أمّة يمكن أن تنخرط في لعبة تكاذب أبدية، أو أن تستمرّ المؤسّسة السياسية اللبنانية في المساومة على سيادتها ووحدتها ومستقبلها، من دون تبعات وأثمان. وما الانفجار الاقتصادي والاجتماعي الذي بدأ عام 2019 إلا خير دليل على ذلك.
عليه، قبل المواجهة مع ميليشيا الحزب على اللبنانيين أن يواجهوا أنفسهم أوّلاً، وأن يُلغى من خطابهم السياسي كلّ تمييز ساذج أو جبان بين ما هو مقاومة وما هو ميليشيا. من فضائل زعيم الميليشيا أنّه لم يكذب على اللبنانيين. قال لهم بالفم الملآن إنّ سلاحه وتمويله من إيران. في موضع آخر قال إنّه لا يأتمر بتوجيهات قائده في طهران بل بما يظنّه أنّه تمنّيات ورغبات هذا القائد.
وعليه، فما يُسمّى المقاومة، بكلّيّتها، مشروعاً وسلاحاً وقراراً، ليست سوى ميليشيا لها أجندتها المعلنة التي لا تتماشى مع مصالح الشعب اللبناني. هذا ما يجب أن يُقال بأعلى صوت وعلى أساسه تُبنى كلّ الحسابات السياسية. أمّا الاستمرار في التكاذب والتملّق، فمن شأنه أن يغذّي الأحقاد وينمّيها في صمت، حتى يحين موعد انفجارها ونجد أنفسنا جميعاً أمام حرب أهلية مشينا صوبها مشي النيام.
الطلاق بين الحزب واللبنانيين
ليس الحديث عن الحرب الأهلية تهويلاً أو استسهالاً. فالاشتباك الأخير في الكحّالة أسفر عن مقتل مناصر لحزب مسيحي كان حليفاً للحزب، هو التيار العوني. القتيل نفسه كان ارتبط سابقاً بالسياسي المسيحي الموالي للحزب، الراحل إيلي حبيقة. ليست هذه السيرة المقتضبة سوى كناية واضحة عن عزلة ميليشيا الحزب المتزايدة والطلاق بينها وبين بقيّة اللبنانيين. فعندما يصل شخص تربطه علاقات وثيقة بأحزاب وشخصيّات حليفة لميليشيا الحزب، إلى مرحلة حمل السلاح ضدّ الميليشيا، فإنّ ذلك يختزل حجم التحوّلات الأوسع التي تحفّ بعلاقات الحزب ببقيّة البيئات الأهلية والسياسية. قتيل الكحّالة يسلّط الضوء على تصدّع تحالفات الحزب وعلاقاته الهشّة بجماهير حلفائه. إذا كانت هذه ردود أفعال بيئة فيها حلفاء للميليشيا، فما الذي يمكن توقّعه من أولئك الذين يحملون مواقف مبدئية ضدّها وضدّ سلاحها ومشروعها وكلّ ما تمثّل؟ يضاف حادث الكحّالة إلى ما حصل في شويّا الدرزية وعين الرمّانة المسيحية وخلدة السنّية، ليبدو أنّ المسرح اللبناني مهيّأ لمزيد من الاستقطاب والصراع، ولمزيد من توتّر ميليشيا الحزب جرّاء تنامي عزلتها.
تعرف الميليشيا أكثر من غيرها الطبيعة المصطنعة والانتهازية لتحالفاتها، لأنّها أكثر من يعرف الطبيعة غير اللبنانية لمشروعها. إنّ تماشي البعض معها خدمة لمصالحهم، سرعان ما يتشظّى عندما تطفو على السطح أسئلة أعمق تتعلّق بالهويّة والكرامة. عندما توضع القيم الأساسية الأهلية والمجتمعية والمذهبية على المحكّ، ويُدبّج لها إطار يتعلّق بالعزّة الوطنية، تظهر سطحية هذه التحالفات بوضوح، ويعيد الأفراد والجماعات والأحزاب تقويم علاقاتهم وولاءاتهم.
ما حصل في الكحّالة يشير من دون مبالغة إلى أنّ لبنان يقف عند مفترق طرق، مهما زُيّن للبعض أنّ ما حدث “بيقطع” كما “قطع” ما قبله من حوادث. إنّها لحظة الاختيار بين سلوك طريق الحقيقة والشفافية وصولاً إلى المصالحة، أو الاستمرار في لعبة التذاكي والتكاذب “من فوق”، أي بين المسؤولين وقادة الأحزاب وميليشيا الحزب، فيما، “من تحت”، تغلي البلاد بشهوات الانتقام والطلاق، مدفوعة بشعور جارف بأنّ ثمّة من خان لبنان وشعبه ودمّر مستقبله، ولا بدّ من تدفيعه الثمن.