سامر زريق: القرنة السوداء، الدم لا يجعل الباطل حقّاً..بشرّي، لا مساومة على ملكيّة القرنة السوداء

112

القرنة السوداء: الدم لا يجعل الباطل حقّاً..
سامر زريق/أساس ميديا/الإثنين 24 تموز 2023

بشرّي: لا مساومة على ملكيّة القرنة السوداء
سامر زريق/أساس ميديا/السبت 29 تموز 2023
تتميّز بشرّي بطبيعة ساحرة، فهي ترتفع عن سطح البحر نحو 1,400 متر، وتعانق أحلامها الضباب. يحفّها وادي قنّوبين، وادي النسّاك والمتصوّفين الموارنة، ويشرف عليها جبل المكمل الذي تتربّع القرنة السوداء على عرشه الشاهق العلوّ، ويخترقه وادي قاديشا باتجاه الغرب، وفيه تتدفّق مياه نهر قاديشا الذي يصل إلى طرابلس فيصبح “أبو علي” ويسكب مياهه في جوف البحر.
إرث دينيّ وسياسيّ
في القرن السابع الميلادي شكّلت بشرّي والجبال والأودية المحيطة بها ملاذاً للموارنة المضطهَدين، فتحوّل وادي قاديشا إلى المركز الروحي للكنيسة المارونية. وصدّرت القدّيسين والرهبان إلى مختلف المدن والدساكر، فتمورنت أغلبها بجهدهم وزهدهم. لذا ليست غريبةً نسبة الالتزام الديني الكبير السائدة في بشرّي حتى اليوم.
يستمدّ أهلها صلابتهم التي لطالما اشتهروا بها من تضاريس البلدة القاسية، ومن شجر الأرز المعمّر. تبدو الجذور الفينيقية واضحة بدءاً من الاسم، فبشرّي تعني منزل عشتار، أحد الآلهة التي كان يعبدها الفينيقيون.
في عهد المماليك، برز نظام سياسي داخلي في المناطق والأرياف البعيدة عن سلطة الولايات المركزية، إذ عُهد إلى زعامات وعائلات محلّية تأدية دور الوسيط أو الوكيل عن الدولة، وعُرف هؤلاء الوكلاء عند الموارنة بـ”المقدّمين”، وكان مقدّم بشرّي رئيسهم جميعاً، ولذلك تُعرف بشرّي إلى اليوم ببلدة المقدّمين.
يذكر المؤرّخون أنّ سلطان المماليك الظاهر برقوق دخل بشرّي بعدما فرّ من محبسه في الكرك بالأردن عام 1338 م، وكان متنكّراً بزيّ درويش، فقام بتعيين الشدياق يعقوب بن أيوب مقدّماً وكتب مرسوماً بذلك. ثمّ بات في دير سيّدة قنّوبين، فأُعجب بحياة الرهبان وزهدهم، فكتب صحيفة أخرى بإعفائهم من الرسوم.
يشير كيروز إلى أنّ بلدية بشرّي أُسّست قبل قيام دولة لبنان الكبير، وهي وحدها من كانت تملك حقّ تلزيم المراعي في المنطقة إلى الرعاة بموجب دفاتر شروط عن طريق مزايدات علنية
جفاف سياسيّ وخدماتيّ
هذا الإرث الديني والسياسي العريق طواه قيام دولة لبنان الكبير، التي تحوّلت بشرّي في عهدها إلى بلدة نائية ومحرومة من الإنماء، وعانى أهلها من تأثيرات الصراع بين موارنة الجبل وساحله وموارنة الشمال، الذي ما يزال يلقي بآثاره على الساحة السياسية. كانت الحياة السياسية فيها قائمة على الصراع بين العائلات، مثلما هو الحال في زغرتا المجاورة، من دون أن تنجح الأحزاب الأيديولوجية المسيحية في اختراقها.
مع ذلك، حمل أبناؤها السلاح للدفاع عن القضية المسيحية منذ الأيام الأولى للحرب الأهلية، إذ أسّس نائبها جبران طوق “لواء المقدّمين”، ونائبها الآخر قبلان عيسى الخوري “لواء قاديشا”، وشارك اللواءان في معركة شكّا ضدّ الفلسطينيين في تموز 1975، التي قُتل فيها شبل نجل عيسى الخوري.
بقي هذا الواقع إلى أن بزغ نجم المتصوّف والمتمرّد على سلطة العائلات الإقطاعية سمير جعجع. في وجدان أهل بشرّي، يُعتبر تحوُّل جعجع إلى قطب سياسي بارز في المعادلة الوطنية تكريماً بمفعول رجعي للإرث الماروني المقدّس لبشرّي، وردّ اعتبار لجعجع بعد المظلومية التي تعرّض لها في زمن الوصاية السورية.
ما تزال بعض آثار الحرمان ماثلة بوضوح أمام الأعين. أبرزها الطريق الواصلة بين إهدن وبشرّي “البكر” منذ أيّام الفرنسيين، والتي يشعر السالك فيها أنّه سيقابل وسائل المواصلات القديمة من دواب وأحصنة وعربات. ثمّة من يرمي باللائمة على القطب الزغرتاوي سليمان فرنجية، صاحب النفوذ في عهد الوصاية السورية، و”صاحب” وزارة الأشغال في العديد من الحكومات، انطلاقاً من العلاقة التاريخية المتوتّرة بين بشرّي وزغرتا المدينة، ويستشهدون على ذلك بطريق إهدن التي تخضع للتعبيد والصيانة باستمرار.
في المقابل يُسجّل لنوّاب القوات نجاحهم في إنجاز طريق الكورة – بشري التي تمرّ بالديمان، بالإضافة إلى مجموعة أعمال أخرى من تعبيد طرقات، وجرّ مياه الشفة إلى قرى كانت محرومة من شريان الحياة، والجهود الكبيرة التي بُذلت في التعليم الرسمي والخاصّ والسكن الطلّابي، وصولاً إلى مستشفى أنطوان الخوري ملكة طوق الحكومي الذي سيتمّ افتتاحه بعد أشهر قليلة بجهود ومتابعة النائبة ستريدا جعجع، وسيضع حدّاً لمعاناة بشرّانيّة قديمة الأزل كانت تؤدّي إلى وفاة البعض قبل الوصول إلى أقرب مستشفى على بعد نحو ساعة بالسيّارة.
يشير أحد مخاتير بشرّي الذي رفض ذكر اسمه إلى أنّ النزاع بدأ مع تمديد أهالي بقاعصفرين نباريش لاستجرار المياه من ثلّاجات القرنة السوداء، فكان لذلك تأثير سلبي للغاية على ينابيع المياه التي تغذّي بشري أرضاً وشعباً
لا مساومة على القرنة
نسأل رئيس بلدية بشرّي فريدي كيروز عن سبب عدم مطالبة أهل بشرّي ووجهائها بالقرنة السوداء منذ تأسيس الكيان حتى عام 2005، فيجيب: “لماذا يطالب أحد بشيء يملكه؟”. يشير كيروز إلى أنّ بلدية بشرّي أُسّست قبل قيام دولة لبنان الكبير، وهي وحدها من كانت تملك حقّ تلزيم المراعي في المنطقة إلى الرعاة بموجب دفاتر شروط عن طريق مزايدات علنية.
“لم يكن هناك تماسّ مباشر مع أهالي بقاعصفرين، فحدودنا مع عرب الفوار الذين لديهم عقارات ومقبرة في المنطقة منحتهم إيّاها الدولة العثمانية، بعدها جرد الإجاص التابع لبقاعصفرين”. ما دام كلا الطرفين يعتبران ملكية القرنة السوداء محسومة، فلماذا لم يبدأ النزاع إلا عام 1998، وتطوّر بعد عام 2005؟
يشير أحد مخاتير بشرّي الذي رفض ذكر اسمه إلى أنّ النزاع بدأ مع تمديد أهالي بقاعصفرين نباريش لاستجرار المياه من ثلّاجات القرنة السوداء، فكان لذلك تأثير سلبي للغاية على ينابيع المياه التي تغذّي بشري أرضاً وشعباً. “حدثت مفاوضات بين نواب المنطقتين واستمرّت لفترة طويلة من أجل التوصّل إلى اتفاق حول مياه الثلّاجات. وعلى أساس اتفقوا، لكنّنا فوجئنا بمشروع إقامة بركة سمارة عام 2019، فتمّ تجميد الاتفاق وتطوّر النزاع فيما بعد”.
والحال أنّ الاتفاق بين النواب كان شبه مستحيل بسبب القوانين الانتخابية الفئوية. فكلّ نائب لا بدّ أن يحسب ألف حساب قبل أن يُقبل على ما يُعتبر في المزاج الشعبي تنازلاً ولو عن شبر من القرنة السوداء، لأنّ ذلك سينعكس عليه سلباً في صناديق الاقتراع.
بحسب من وقفنا على رأيهم، فإنّ الموضوع لا دخل له بالسياسة، بل لمسنا تكتّماً نسبياً، وحرصاً شديداً على العيش المشترك، “نحن شعب واحد ومحكومون بالتعايش والتوافق، ولا داعي لتعقيد الأمور، المياه أمرها سهل. لدينا مشاكل جمّة في البلد، والأَولى والأهمّ تأمين معيشة الناس. أمّا ملكية القرنة السوداء فلا مساومة عليها، وهذا موقف بشرّي الموحّد بكلّ أطيافها السياسية”. عمليّاً أتى التصعيد من خارج بشرّي، حينما أُدخلت القضيّة في دهاليز السياسة فأصبحت “قضية مسيحية”.
ينفي المخاتير ورئيس بلدية بشرّي وقوف القوّات خلف المجموعات التي كانت تقوم بقطع نباريش المياه، ويشيرون إلى أنّ شطراً واسعاً من أهالي بشرّي كانوا معارضين منذ البداية للتسوية المؤقّتة
النزاع وتطوّراته
يقول رئيس بلدية بشرّي فريدي كيروز إنّه بناء على طلب الجيش واستخباراته حصل اتفاق سُمح بموجبه لأهالي بقاعصفرين بمدّ 5 نباريش لاستجرار المياه من الثلّاجات، “لكن الـ5 نباريش أصبحوا 55. اعترضنا كثيراً من دون جدوى. ثمّ أخذ أهالي بشرّي قراراً بإزالة النباريش وأبلغنا استخبارات الجيش بذلك”.
ينفي المخاتير ورئيس بلدية بشرّي وقوف القوّات خلف المجموعات التي كانت تقوم بقطع نباريش المياه، ويشيرون إلى أنّ شطراً واسعاً من أهالي بشرّي كانوا معارضين منذ البداية للتسوية المؤقّتة، وهم من قطعوا النباريش، “وليس لدينا تأثير عليهم”.
يلفت كيروز إلى أنّ بلدية بقاعصفرين “هي من ذهبت إلى المحكمة العقارية عام 2013، وكلّفت 3 مسّاحين من عندها لترسيم حدودها العقارية بالاستناد إلى خرائط الجيش اللبناني، التي لا يعوَّل عليها قانوناً”. يضيف كيروز: “بعدها أرسلوا كتاباً إلى محافظ الشمال، طالبين تحويله إلى مصلحة الشؤون العقارية لتثبيت الحدود. وهذا المسار مخالف للقانون، فالحدود العقارية محدّدة بمرسوم، ولا تعدّل إلّا بمرسوم” (الأمر نفسه شدّد عليه رئيس بلدية بقاعصفرين).
تطوّر النزاع عام 2019 حينما شرع المشروع الأخضر بوزارة الزراعة في إنشاء “بركة سمارة” لريّ الأراضي الزراعية، فاعترضت بلدية بشرّي ونوابها وأهلها. يشير كيروز إلى أنّ محافظ الشمال رمزي نهرا “أوقف المشروع لأنّ المنطقة غير محدّدة عقارياً. وأصدر قاضي الأمور المستعجلة قراراً بإيقاف المشروع لأنّ بلدية بقاعصفرين ليست لديها مستندات تثبت ملكية الأرض. واتّخذ مجلس شورى الدولة قراراً في المنحى عينه”.
وصل الأمر إلى وزير المالية حينها علي حسن خليل فاتخذ قراراً بتسمية 4 مسّاحين وتحويل الملفّ إلى القاضي العقاري في الشمال. يقول كيروز: “قدّمنا وإيّاهم مستندات، ثمّ استمعت القاضية إلى كبار السنّ والمخاتير في كلتا البلدتين في جلسة استمرّت 8 ساعات. وصعدت بعدها مع الأشخاص الذين استمعت إليهم برفقة مدير الشؤون العقارية لتحديد النقاط على الأرض”. يأسف كيروز لكون بلديّة بقاعصفرين قدّمت طلباً لكفّ يد القاضية العقارية تيريز مقوم عندما تبيّن لها أنّ حكم القاضية لن يكون في صالحها، فـ”لماذا لم يقدّموا طلب كفّ يد القاضية منذ بدء النظر في القضية قبل 4 سنوات؟”.
يأسف أيضاً لعدم التزام البعض بالأعراف القروية التي تقضي الوقوف على خاطر أهل الشهيدين. ويسمّي البعض النائب جهاد الصمد بالاسم، فهو من سبق أن أقحم رمزاً دينياً بالقضية من باب التجييش الانتخابي. يتساءل كيروز: “لماذا لم تحصل مشاكل بيننا وبين أهل الهرمل على الرغم من الاختلاف السياسي والمذهبي؟ لماذا لم يحصل خلاف مع العرب؟”، ويخلص إلى أنّ “الهدف من كلّ ما حصل هو انتزاع ملكية القرنة السوداء، فالمشكلة ليست في المياه. نحن ملتزمون بما يقرّه القضاء، وإذا لم نحتكم إلى القانون فإلى ماذا سنحتكم؟”.
السؤال الأهمّ: لو صدر حكم عن أيّ محكمة لصالح هذا الطرف أو ذاك، فهل يقبل به الطرف الخاسر؟ وما هي آليّة تطبيق هذا القرار في ظلّ الحدود المفتوحة على مصراعيها في المنطقة الجبلية المترامية، ودولةٍ استقالت من واجباتها وتحلّلت أغلب مؤسّساتها؟

القرنة السوداء: الدم لا يجعل الباطل حقّاً..
سامر زريق/أساس ميديا/الإثنين 24 تموز 2023
أما وقد توضّحت التحقيقات الأمنية والقضائية والأجزاء التي كانت غامضة في جريمة القرنة السوداء، فإنّ الكلام عن السياق الذي أوصل إلى هذه النقطة الحسّاسة صار ممكناً، لا بل واجباً. هذا السياق كان الغائب الأكبر عن كلّ السرديّات التي سيقت في التقارير الإعلامية الكثيفة التي بُثّت أو كُتبت عقب الجريمة، ما خلا بعضها التي ذكرته إنّما بشكل مبتور أو منقوص، فغدا ما حصل وكأنّه نزاع على ملكيّة أرض سائبة أو مشاع، وهذا غير صحيح.
ما أسهم في بلوغ الاحتقان الطائفي ذروته حتّى كاد أنْ يوشك على الانفجار هو توحّد أغلب النخب المسيحية خلف الشعبوية، ليس لإحقاق الحقّ ومعاقبة من ارتكبوا جريمة القتل، بل سعيا للحصول على مكاسب “جيوسياسية” فيما هرول الكثير من الزعماء السُنّة إلى استرضاء أهل بشري مسلمين بالاتهام الموجه لأهالي بقاعصفرين قبل ظهور نتائج التحقيق. مواقف مهما عَظُمَت لا تساوي قيمتها الدماء التي سُفكت. كُثُرٌ أمعنوا في تصوير أبناء بقاعصفرين قطّاعَ طرق، ومحتلّين لأرض ليست لهم، ومغتصبين لحقوق، ومافيات تقيم الحواجز، وتنصب الدشم والمتاريس. وهذا كلّه وهمٌ وسراب، حسب ما أثبتته التحقيقات، وما تشير إليه الوقائع التاريخية المعزَّزة بالأدلّة والبيانات.
عودة إلى التاريخ
حينما أنشأت سلطات الانتداب الفرنسي دولة لبنان الكبير، قامت بترسيم الحدود الإداريّة لكلّ محافظة ومدينة وقرية. وحسب هذا الترسيم، دخلت القرنة السوداء ضمن الحدود الإدارية والجغرافية لبلدة بقاعصفرين، التي وصلت وقتها إلى “بركة اليمّونة”، قبل أنْ يتمّ إجراء بعض التعديلات عليها وتأخذ شكلها الحالي. تقول مرجعيات بشرّي إنّ لديها مستنداً عائداً إلى حقبة متصرفيّة جبل لبنان في العهد العثماني، يثبت أنّ القرنة السوداء كانت تابعة لها.
فلماذا لم يقُم أهالي ووجهاء بشرّي بالعمل على استرداد ما يعتبرونه حقّهم السليب في كيان وُجد من أجل الموارنة، ووقوفاً على خاطرهم، وفي ظلّ حكم المارونية السياسية؟ لماذا لا توجد أيّ مراسلة أو وثيقة بهذا الخصوص في الأرشيف الفرنسي العائد لفترة الانتداب؟ لو كان هناك شيء من هذا القبيل، أو حتّى طلب شفهي مدعوم من الكنيسة المارونية ما كان بوسع أيّ مندوب سامٍ فرنسي أنْ يتأخّر عن تلبيته. والحال عينه في فترة حكم المارونية السياسية التي استمرّت منذ الاستقلال حتى اندلاع الحرب الأهليّة.
عام 1968، صدر مرسوم بإنشاء بلدية بقاعصفرين بمساحة تبلغ 100 كيلومتر مربّع، وبحدود جغرافيّة تصل إلى ما بعد القرنة السوداء بقليل. مع ذلك لم يُسجَّل أيّ اعتراض في حينها. وهذا المرسوم موجود في خزائن وزارة الداخلية والبلديات. الإشكالات حول مياه ثلّاجات القرنة السوداء بدأت عام 1998، وهو العام الذي شهد إجراء أوّل انتخابات بلدية بعد الحرب، وعودة القوى المسيحية المعارضة للوصاية السورية إلى الواجهة.
يهمس المتابعون للقضية بأنّ “الرئيس ميقاتي ما أصدر قرار إحياء لجنة بتّ النزاعات إلّا استدراجاً للقوّات لتسليفهم خدمة سياسية. وبالفعل فقد جمّد القرار بعد اتّصال فقط من النائبة ستريدا جعجع، وحجّته جاهزة: وأد الفتنة”
بعدئذٍ تطوّرت الأمور إلى إطلاق نار على رعاة الماشية وقطعانهم، وأحياناً على أبناء بقاعصفرين كما حدث في عام 2005 عقب خروج زعيم القوات اللبنانية وابن بشرّي الدكتور سمير جعجع، لكنّ بلدية بشري ومرجعيّاتها اتّهموا طابوراً خامساً بافتعال هذه الحوادث، فيما كانوا يسيّرون دوريّات لإزالة ما يعتبرونه تعدّيات على أرض ليست أرضهم، من دون أيّ تكليف رسميّ بذلك. يُجمع من تحدّثنا إليهم من بقاعصفرين على وجود رابط معنوي بالحدّ الأدنى بين تطوّر مسار الإشكالات والاعتداءات من قبل أبناء بشرّي وبين تطوّر حضور رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في المعادلة السياسية، وسيطرته على تمثيل بشرّي نيابياً وبلدياً. واللافت أنّ مسار الإشكالات اتّخذ طابعاً أكثر زخماً وحدّة عقب اتّفاق “أوعا خيّك”، الذي جعل من جعجع شريكاً مفترضاً للعهد العوني.
الدولة: القرنة السوداء في بقاعصفرين
عام 2020، انتخب مجلس بلدية بقاعصفرين بلال زود رئيساً للبلدية. ولأنّه محامٍ وخبير بالقوانين ودهاليزها، وثّق منذ انتخابه حتى حصول الجريمة 32 حادث إطلاق نار من قبل أشخاص من بشرّي، وتقدّم بموجبها بإخبارات إلى القضاء. بيد أنّ أحداً لم يتحرّك، وحُفظت جميع القضايا في “ثلّاجة” الدولة. يكشف زود في حديث لـ”أساس” عن قيام شركة بولونيّة بإجراء دراسة للمنطقة بتكليف من الدولة عام 2008، وترسيم نقاط حدود الأقضية بين الهرمل وبشرّي والضنّية، وتثبيت الملكيّة العقارية للقرنة السوداء لبقاعصفرين.
أكثر من ذلك، يشير زود إلى أنّه “عند حدوث نزاع أو خلاف مدني في القرنة السوداء، ينظر فيه القاضي المنفرد في الضنّية. وهو ما حصل في حوادث إطلاق النار والاعتداءات السابقة، التي حُوّلت جميعها إلى فصيلة سير الضنّية. حتّى رخص البناء والإفادات العقارية في القرنة السوداء يتمّ الاستحصال عليها من أمانة السجلّ العقاري في دائرة الشمال الأولى، التي تشمل طرابلس والضنّية والمنية، وليس من أمانة السجلّ العقاري في الشمال الثانية، التي تشمل الكورة والبترون وزغرتا وبشرّي. وبالتالي لا يوجد نزاع على ملكيّة القرنة السوداء، فهي محدّدة وفق مرسوم إنشاء بلدية بقاعصفرين عام 1968، وواضحة باعتراف الدولة ومؤسّساتها”. علاوة على أنّ أمين السجلّ العقاري في الشمال (قبل التقسيم) أصدر تقريراً في آب 2014 وأرسله إلى محافظ الشمال أكّد فيه حرفيّاً أنّ “القرنة السوداء ضمن قضاء الضنّية”.
يرفض زود تحويل القضية إلى القاضي العقاري الذي تضغط بعض القوى والنخب المسيحية من أجل حصوله. ويبيّن مرجع قانوني أنّ القاضي العقاري ينظر في نزاعات الملكية بين الأفراد، ولا صلاحية له في تحديد الحدود العقارية للأقضية، فـ “حدود القضاء لا تتغيّر بقرار محكمة، بل بحاجة إلى قانون”. في حين يذكّر زود بالقاعدة القانونية بأنّ “المرسوم لا يلغى إلّا بمرسوم”. ما دام الأمر كذلك، فلماذا الإصرار على الاحتكام إلى القاضي العقاري؟
لا يوجد شيء في لبنان غير مرتبط بالسياسة وأوزان القوى التمثيلية والطوائف والمذاهب. فالقاضي العقاري المُراد تحويل الملف إليه هي القاضية تيريز مقوّم المقرّبة من القوّات، والتي منحها وزير العدل جرعة دعم معنوي هائلة من على منبر بكركي، مع أنّه يعرف أكثر من غيره، وهو قاضٍ، أنْ لا صلاحيّة قانونية لها.
المسيحيّون: الخصم والحكَم
عام 2019، أصدر قاضي الأمور المستعجلة في بشرّي جو خليل قراراً بإيقاف مشروع “بركة سمارة” في “جبل المكمل”، الذي كان يقوم بتنفيذه “المشروع الأخضر” في وزارة الزراعة، متذرّعاً باعتراض وزير البيئة حينذاك فادي جريصاتي على خرق القرار الصادر عام 1998، والذي قضى بتصنيف المنطقة بين المواقع الطبيعية الخاضعة لحماية وزارة البيئة ويُحظر فيها جميع أنواع الحفر لاستغلال مياه المتساقطات على ارتفاع أكثر من 2,400 متر.
القرار برمّته مخالف للقانون، فلا صلاحيّة مكانيّة لقضاء بشرّي في النظر بالقضية. لكنّ الضغوطات السياسية التي قادتها النائبة ستريدا جعجع أتت أُكلها، والتي شملت زيارة للرئيس نبيه برّي للطلب منه التدخّل لوقف المشروع. لذا ليس مفاجئاً أنْ لا حليف سنّيّاً للقوّات إلّا النائب أشرف ريفي.
“لماذا كلّ الذين يتابعون جريمة مقتل هيثم ومالك طوق مسيحيّون، أين القضاة المسلمون؟”. هذا هو لسان حال أبناء بقاعصفرين. القاضية العقارية تيريز مقوّم، قاضية التحقيق سمرندا نصّار. من أعطى الإشارة القضائية هي المحامية العامّة الاستئنافية في الشمال ماتيلدا توما، في حين غاب تماماً المدّعي العام الاستئنافي في الشمال القاضي زياد المصري الشعراني، وهو من كان يجب قانوناً أنْ يفعل ذلك. وأيضاً مدّعي عام التمييز غسان عويدات الذي اشتكى حسب المعلومات من تجاوزه، لكنّه كظم غيظه ولم يتواصل مع قيادة الجيش واستخباراتها من أجل التصحيح.
يكشف زود في حديث لـ”أساس” عن قيام شركة بولونيّة بإجراء دراسة للمنطقة بتكليف من الدولة عام 2008، وترسيم نقاط حدود الأقضية بين الهرمل وبشرّي والضنّية، وتثبيت الملكيّة العقارية للقرنة السوداء لبقاعصفرين
هل السُّنّة أهل ذمّة؟
يهمس المتابعون للقضية بأنّ “الرئيس ميقاتي ما أصدر قرار إحياء لجنة بتّ النزاعات إلّا استدراجاً للقوّات لتسليفهم خدمة سياسية. وبالفعل فقد جمّد القرار بعد اتّصال فقط من النائبة ستريدا جعجع، وحجّته جاهزة: وأد الفتنة”. أيّ مقام وأيّ هيبة بقيت لرئاسة الحكومة في تراجعها عن قرار لم يجفّ حبره بعد؟
أكثر من ذلك، بدا وزير الداخلية والبلديّات بسّام مولوي المسؤول الأوّل عن أمن البلاد، والذي تتبع البلديّات لوزارته، غير معنيّ بالجريمة ولا بتفاعلاتها الخطيرة وكأنّها حصلت في بلد آخر، مع أنّه يملك مفتاح الحلّ المتمثّل بالإفراج عن مرسوم إنشاء بلدية بقاعصفرين. يعترض بعض أهالي بقاعصفرين ووجهائها أيضاً على ما يرونه استنسابية الجيش الذي ألقى القبض على 9 أشخاص من البلدة مقابل شخصين فقط من بشرّي كانا إلى جانب هيثم طوق حينما اشتبكت مجموعتهم مع شباب من بقاعصفرين. “أين الأشخاص الآخرون الذين شاركوا في إطلاق النار؟ ولماذا لم يُلقَ القبض على أفراد المجموعة البشرّانيّة التي اشتبكت مع الجيش وأطلقت النار على عناصره بعد شيوع خبر مقتل هيثم طوق؟”. وممّا يجدر ذكره أنّ “3 مجموعات مسلّحة من شباب بشرّي توجد بشكل دائم في القرنة السوداء، كلّ واحدة منها مكوّنة من 5 إلى 10 أشخاص، والقتيلان من آل طوق كانا من أفراد هذه المجموعات”، وذلك حسب المعلومات التي حصلنا عليها من أبناء بقاعصفرين.
يطرح أبناء البلدة المعادلة التالية: “ماذا لو أنّ الاشتباك الذي حصل أدّى إلى وفاة شخص أو أكثر من بقاعصفرين، ولم تنجم عنه وفاة أحدٍ من بشرّي، هل تكون ردّة الفعل هي نفسها؟”، إضافة إلى أنّ ثمّة من يرى استنسابية في طريقة تعاطي الجيش مع القضية. فهو لا يحقّ له قانوناً طرد الرعاة من ملك خاص، فبدا وكأنّه يمهّد الطريق لتنفيذ مخطّط تغيير هويّة القرنة السوداء، ولا سيّما أنّه تمدّد في انتشاره إلى مسافات بعيدة، وأقام نقاط تفتيش قرب جبل الأربعين الذي يبعد قرابة ساعة ونصف عن القرنة السوداء. فهل ينحاز الجيش إلى الطرف الأقوى سياسياً؟
“من معه حقّ ليس بحاجة إلى أحد”، يقول رئيس بلدية بقاعصفرين بلال زود، ويضيف مختارها عمّار صبرا: “صمتنا من باب احترامنا لحرمة الدم وقدسيّته، ولإطفاء نار الفتنة، لكنّنا نعمل على تشكيل لجنة مشتركة من قضاء المنية والضنّية لمتابعة القضيّة سياسياً وقضائياً وشعبياً”.