شارل الياس شرتوني/معالم النقاش حول النظام الفدرالي

69

معالم النقاش حول النظام الفدرالي
شارل الياس شرتوني/28 تموز/2023

إن مناخات الإرهاب الفكري السائدة تجاه الطروحات الفدرالية ليست بطارئة بقدر ما تغلف محظورات إيديولوجية، وسياسات سيطرة، وقراءة إختزالية للتاريخ اللبناني. لا تكمن المشكلة في رفض أو قبول النظام الفدرالي، بل في الرفض المبدئي لطرح الموضوع وشرح إشكالياته ومقاربته، كأحد الحلول للأزمات السياسية المتوالية منذ بدايات لبنان الكبير، خاصة وأن الأفق السياسي الذي انتظمت على أساسه الجمهورية اللبنانية منذ نشأتها، هو توافقي ودستوري وديموقراطي وبقي كذلك، على الرغم من كل الأزمات الكيانية والسياسية التي عصفت به على مدى المئوية. الجمهورية الأولى التي عرفت بالمارونية السياسية لم تخرج يومًا عن الثقافة السياسية الميثاقية والتوافقية والديموقراطية، بإتجاه خيارات إنقلابية وسياسات سيطرة وتحالفات إقليمية حاضنة لها، في حين أن السياسات المعارضة لها كانت بالمبدأ إنقلابية على الكيان الوطني، والمبنى الدستوري وروايته الميثاقية المؤسسة.

إن واقع التأزم السياسي ليس عارضا بل نتيجة لأزمة شرعية الكيان الوطني، وتعطيل المؤسسات الدستورية، وتحويل لبنان أرضا لنزاعات بديلة أو منطلقًا لسياسات انقلابية داخلية وإقليمية. إن أية مقاربة للأزمات اللبنانية المتلاحقة (شرعية الكيان وسياسات وضع اليد السورية منذ الحقبة الفيصلية ووصولا الى الحقبة الناصرية، مرورًا بالحقبة الفلسطينية-اليسارية وحبكاتها على خطوط تقاطع الحرب الباردة بمتغيريها الدولي والعربي، ووصولًا الى التحالف الشيعي-العلوي الذي تديره سياسة النفوذ الايرانية …) تتجاهل التداخل بين المتغيرين الداخلي والخارجي الذي تنعقد على أساسه السياسات الانقلابية، هي جزء من المعميات الايديولوجية الإرادية التي تسعى الى تبرير السياسات الانقلابية دونما اكتراث كبير لتردداتها الكارثية على بلاد أنهكتها سياسات عدم الاستقرار المديدة.

إن أية مقاربة للحل السياسي خارجًا عن ضرورة إيجاد تفاهم حول مسألة شرعية الكيان والمؤسسات الديموقرطية، ورواياتها الميثاقية والليبرالية والدستورية المؤسسة، تندرج ضمن سياق تعطيل إرادي يستهدف الاستقرار في البلاد، والمناخات الديموقراطية والليبرالية، وأولويات حل المسائل المالية والاقتصادية والاجتماعية التي تحول بشكل مصطنع وإرادي دون إنفاذ الحلول التقنية المتوافرة، وتطبيع الحياة الاقتصادية على قاعدة إصلاحات مالية هيكلية.

إن المسار الانقلابي الحالي على خط التقاطع الشيعي اللبناني، النظام الإيراني، والحكم العلوي في سوريا، هو تكملة لإرث انقلابي ينتظم هذه المرة على أساس سياسة النفوذ الايرانية في منطقة الشرق الأوسط الكبير، مما يعني أن الأولوية الانقلابية الخارجية هي التي تحكم الأولويات الانقلابية الداخلية، وتفسر سياسة المماطلة والنسف الارادي للتسويات الديموقراطية والحلول التقنية للأزمات المالية وتردداتها الاقتصادية والاجتماعية القاتلة.

إذن، لا إصلاحات ممكنة لجهة الهندسة الدستورية ما لم نبدأ باشكاليات الاستقرار، وشرعية الكيان والدولة وسيادتها الفعلية على شؤونها الحكومية والتدبيرية. لا إمكانية لحلول سياسية فعلية في بلد حيث التداول على السلطة رهن بسياسات النفوذ الاقليمية وصراعاتها، وحل الأزمات المالية شأن تقرره الاوليغارشيات السياسية-المالية والمالية خارجا عن الأحكام الدستورية والتشريعات التنظيمية، ومشاركة المواطنين أصحاب الودائع (Stakeholders vs Shareholders)، والسياسات الخارجية والدفاعية مبنية على أولويات سياسة النفوذ الإيرانية ومواقيتها، والسلطة القضائية مستخدمة طوعًا من قبل مراكز النفوذ السياسية والمالية، وإدارات عامة ما هي الا آليات تستعملها الاوليغارشيات لترفيد مواردها ونفوذها، والمؤسسات الأمنية والعسكرية والوزارات المشرفة عليها، مراكز نفوذ من أجل السيطرة على روافع الأمن والسياسة والاقتصاد والاجتماع، على قاعدة المحاصصات وتوزع المسالب بين أطراف الاوليغارشيات الحاكمة المتقلبة.

لا إمكانية لاجراء أي أصلاح خارجًا عن الاعتبارات التالية:
-البت بشرعية الكيان الوطني اللبناني على نحو فعلي لا إسمي، إتفاق الطائف تحول من وثيقة دستورية تأسيسية لمرحلة ما بعد الحرب، الى غطاء لسياسة وضع اليد السورية ومن ثم الإيرانية على حيثيات الحياة السياسية وآليات الحكم، على قاعدة تحالفات متبدلة مع الاوليغارشيات المتوالية، واستعمال روافع النفوذ الداخلية على قاعدة المقايضات المتبادلة.

أدت مفارقات إتفاقية الطائف القانونية الى تعطيل السلطة الاجرائية في البلاد، وتحويل مجلس الوزراء الى سلطة تعطيل تحتكم عمليا إلى سلطات الوصاية الخارجية والداخلية، ومجلس النواب الى صندوق إيقاع لسياسات النفوذ بمتغيريها الخارجي والداخلي .هذه الاصلاحات ترتبط عضويا باقرار وضعية الحياد السياسي تجاه المداخلات الاقليمية التي تشكل المفاعل الثابت للتشابكات النزاعية على تعدد محاورها .

-الهندسة الدستورية في بلادنا قامت على قواعد ديموقراطية وليبرالية إرادية وتوافقية خارجة عن كل قواعد الاجتماع السياسي التي حكمت الجوار الاقليمي، وهذا ما تسعى الى القضاء عليه السياسات الانقلابية المتعاقبة.

-لبنان مجتمع سياسي پلورالي إنطلق من تعددية دينية أسست للتعددية الحضارية، والثقافية، والسياسية والاجتماعية، والنظام السياسي ليس بنظام ديني أو إيديولوجي يملي خيارات فكرية أو دينية أو حياتية على مواطنيه، خلافًا لأنظمة المنطقة أو للخيارات الأيديولوجية التوتاليتارية الشيوعية والقومية.

الجمهورية اللبنانية قائمة على أسس إجرائية وعلى قيم سياسية مشتركة تؤسس للمساواة بين المواطنين على إختلاف انتماءاتهم (Procedural Republic). إن الخلط الايديولوجي بين النظام الديني والتعددية الدينية، هو نهج متعمد يستهدف التعددية اللبنانية على إختلاف مدلولاتها وتطبيقاتها. لقد اعترف الدستور اللبناني (١٩٢٦،١٩٨٩) بالتعددية وبجدلية الحقوق الفردية والجماعية دون أن يصل بها الى خواتمها لجهة استكمال توحيد قوانين الأحوال الشخصية، لجهة الزواج عند المسيحيين، والزواج والميراث عند المسلمين، نظرا لاعتراضات مبدئية في الأوساط الإسلامية، ولكنه لم يحل دون الاعتراف بها إذا ما عقدت أو أقرت خارج البلاد، أو دون تجاوزها في حال توافر توافق سياسي حولها.

-النظام السياسي اللبناني ليس دينيا خلافا للتوصيفات الأيديولوجية، إن واقع التعددية الدينية هو مناف للحكم الديني لانه حال دون تطبيق أحكام الشريعة الاسلامية على المسيحيين وغير المسلمين، وقام على أساس المساواة والتعددية الدينية والجنسية كما تقرها الشرعة العميمة لحقوق الانسان، والاندماج الإرادي على قاعدة المساواة في المواطنية. النظام اللبناني تجاوز نظام الملل باتجاه التداخل الوظيفي الذي ينتج عن مفهوم المواطنة والتواصل الديموقراطي بين المواطنين.ناهيك أنه أسس للتمايز المبدئي بين الدائرة السلطوية والمجتمع المدني وافسح مجال التواصل الجدلي بين الاثنين.

– النظام اللبناني لم يستثن الهندسة الدستورية الفدرالية لجهة الأحوال الشخصية أو الحقوق الجماعية (في مجالات التربية والعمل الاجتماعي، والاستشفائي…) وافسح المجال لمعارضتها في حال تعديها أو تجاهلها الحقوق الفردية، في مجالات الأحوال الشخصية والخيارات الحياتية، ولم يحل دون العمل السياسي والعام من أجل تعديل التشريعات العائدة لها، وحماية حقوق المدافعين عنها. الأمر الذي استدعي عملا مزدوجًا على مستويات العمل التشريعي، والنضال السياسي، والنقاشات العامة ودورها في تحفيز الثقافة الليبرالية وترجماتها الحقوقية.

-الهندسة الفدرالية تستلزم، بادئ ذي بدء، وجود كيان وطني غير متنازع على شرعيته، ووجودا موضوعيًا للدولة خارجًا عن مصالح الفرقاء السياسيين وارتباطاتهم، وإرادة عيش مشتركة تلتئم حول إعلانات مبدئية (Eidgenossenschaft) وتفاهمات حول حيثيات الهندسة البديلة، وتوزع القرار بين الحكم المركزي الذي يشرف على السياسات الخارجية والدفاعية والمالية والعدلية المشتركة، وعلى مؤالفة أداء الحكومات المحلية مع المبادىء الدستورية المشتركة، وحماية المساواة في الحقوق المواطنية وإحترام حقوق الانسان، على أسس التوازي والاستقلالية التدبيرية (السياسات العامة:ضرائب محلية، عدل، تربية، صحة، بيئة، أشغال عامة، سياسات إجتماعية وإنمائية…)، ورأب التفاوتات بين المناطق والمشاركة في إدارة الفدرالية من خلال البرلمان الاتحادي. إن الحد من السلطة المركزية في لبنان قد أصبح واجبًا لاحتواء سياسات السيطرة الفئوية، ببعديها الداخلي والخارجي، التي خبرناها طوال المئوية والتي تفسر جموح السياسات الشيعية حاليًا التي ترفض التسوية لحساب السيطرة، ولإعادة الأولوية للعمل المهني على حساب سياسة النفوذ في الحياة العامة وما ينشأ عنها من ريوع ومحاصصات وزبائنيات وحيازات وفساد بنيوي كالذي نعاينه.

لقد آن أوان الخروج عن الخطاب الغوغائي، والتعدي السافر على الوقائع، وسياسات السيطرة بمندرجاتها الداخلية والإقليمية، إذا ما أردنا إنهاء سياسة “الأزمات المتناسلة”، والعمل على تخريج تسويات متوافرة على كل المستويات، والخروج من منطق التطاول والتنافي الذي تسعى سياسة السيطرة الشيعية الى فرضه، من خلال سياسة الاهتراءات المديدة، والإرهاب والجريمة المنظمة، والتبدل القسري للجغرافيا البشرية والمدنية.سياسات السيطرة تولد مضاداتها وأي تماد فيها سوف يفتح الباب واسعًا في منطقة متفجرة فقدت توازناتها لحساب صراعات نهيلية مفتوحة ولا أفق لها.