رابط فيديو تقرير ودراسة من تشاريتي تي في لسليم بدوي عنوانها: من هو حنا الماروني وما علاقته بقصص ألف ليلة وليلة/مع دراسة لوسام سعادة ومقدمة للكولونيل شربل بركات

128

رابط فيديو تقرير ودراسة عنوانها: من هو حنا الماروني؟ وما علاقته بقصص ألف ليلة وليلة؟ مع سليم بدوي
Charity TV – Official
May 24, 2023

 دراسة وسام سعادة نشرها موقع رصيف بتاريخ 26 أيلول عام 2017

حنا الماروني Hanna Le Maronite
الكولونيل شربل بركات/03 حزيران/2023
أنطون يوسف حنا دياب الماروني من سكان حلب والذي ولد سنة 1788 في عائلة مارونية نعرفها جيدا فقد كان جده لأبيه حنا ابن دياب ابن عبد الأحد ابن كيروز من سلالة جمعة ابو نار قد هاجر من بشري إلى حلب في بداية القرن السابع عشر بينما انتقل شقيقه يوسف إلى حدث الجبة وعندما قرر الوالد دياب اللحاق بولده حنا إلى حلب رفض الصغير جريس مرافقة الوالدين وقرر اللحاق بأخيه يوسف في الحدث وبعدما شب أرسله البطريرك يوسف العاقوري لمساندة السكان في عين إبل حيث استقر وتزوج ولا يزال أحفاده يشكلون مع أخوانهم من العائلات اللبنانية الأخرى سياج لبنان الجنوبي.
كان حنا دياب قد انتقل إلى حلب من ضمن تراث ماروني بدأ مع السلطان العثماني سليم بعد فتحه لبلاد الشام وانتصاره على المماليك في معركة مرج دابق ولما سمع عن قدرات الموارنة الزراعية ومعارفهم طلب من البطريرك ارسال جماعة منهم لتعليم سكان حلب أصول الزراعة واستغلال الأرض كونه سمع عن تلك الدنائن المعلقة في جبال لبنان والخبرة والنشاط اللذان يرافقان سكانه. وهكذا فقد انتقل في بداية القرن السادس عشر أربعون عائلة مارونية سكنوا في ما لا يزال يعرف حتى اليوم حي الأربعين في حلب نسبة لعدد هذه العائلات التي لا تزال تشكل استمرارية الوجود الماروني في هذه المدينة.
حنا ابن دياب إذا كان من الرعيل الثاني الذي هاجر إلى حلب من بشري في جبل لبنان وقد ولد له ابن دعاه يوسف على اسم شقيقه الأكبر والذي سكن في حدث الجبة. ولما شب أنطون ابن يوسف بن حنا تعرف على تاجر أوروبي وعمل معه فترة من الزمن اكتسب خلالها معرفته اللغتين الفرنسية والايطالية ومن ثم ورغبة منه في المزيد من العلم دخل الدير في أحد أديرة جبل لبنان فتعلم السريانية وهي اللغة الطقسية التي يعرفها من خلال الليتورجيا المارونية ولكنه كما يبدو لم يكن صاحب دعوة كهنوتية فقرر العودة إلى حلب وفي طريقه التق أحد الرحالة الأورةبيون ويدعى بول لوقا فترافقا في الطريق وأعجب لوقا بأنطون الذي كان يتقن الفرنسية والايطالية وبالطبع العربية والتركية اضافة إلى السريانية ولكن ما لفت نظره أكثر قدرة أنطون على سرد القصص وخياله الواسع وخاصة أنه كان يترجمها بلسان مقبول وأسلوب شيق لا يخلو من الصور التي تدفع السامع للتعلق بهذا الراوي الشاب. فأقنعه بمرافقته كمترجم له خلال الرحلة التي كان ينوي القيام بها ومن ثم الذهاب معه إلى باريس ومقابلة الملك الذي كان يحب الاطلاع على الثقافات المختلفة. وقال له بأن امتلاكه لخمس لغات وقدرته على جذب المستمع خلال سرده للروايات ستكون بدون شك مساعدا له للحصول على مركز في المكتبة الملكية في قصر فرساي.
وقصة أنطون كتبها بالتفاصيل وقد حفظت في مكتبة الفاتيكان وأخيرا صدرت في كتاب بالفرنسية سنة 2015 تحت عنوان “حنا الماروني”.

يمكن قراءة المقال ربطا والذي نشر على موقع “رصيف” وكتبه وسام سعادة عن قصة ابن عمنا أنطون هذا الذي أضاف إلى التراث البشري قصصا مثل “علي بابا والأربعين حرامي” وقصة “علاء الدين والمصباح السحري” وغيرها من الاضافات.
الثلاثاء 26 سبتمبر 201707:51 م (وسام سعادة – رصيف)
“التفت الملك وكل أكابر الدولة نحوي، وسألني واحد منهم عن اسم هذه الوحوش، فقلت له أنه في بلادهم يسمى جربوع، فأمر الملك بأن يقدموا لي قلم وقرطاز (قرطاس، الصحيفة التي يكتب فيها) حتى أكتب اسمهم بلساني”. أما الملك الذي من شدة هيبته “ما بيقدر انسان يحقق النظر فيه”، فهو لويس الرابع عشر (ت 1717). “سلطان فرنسا” كما يسمّيه كاتب النص، حنا الماروني الحلبي، عندما قرّر أن يدوّن كتابةً ذكريات رحلته من حلب إلى باريس، وصولاً إلى بلاط مليكها وحاشيته، في مطلع القرن الثامن عشر. أما الكاتب فليس بكاتب محترف. ماروني من حلب، اسمه الكامل أنطون يوسف حنا دياب. كان في السبعين من العمر حين أخذ في تدوين رحلة شبابه هذه، في صحبة سائح فرنسي “ملكي” يدعى بول لوكا، من حلب إلى باريس. باريس التي يكتبها في معظم الأحيان “بهريس”.
حلبي ماروني و”جرابيع” في بلاط البوربون
أمّا الجرابيع فهي بعض مما جلبه هذا السائح الملكي، بول لوكا، من رحلته في الشرق العثماني إلى البلاط الملكي الفرنسي.
والجرابيع من القوارض الليلية الصحراوية، لونها من لون الصحراء. حملها لوكا، أو بالأحرى مرافقه الترجمان حنا دياب، من صعيد مصر إلى “بهريس”. مات خمسة منها في الطريق، وبقي اثنان، ويبدو أنّها أثارت تعجب واهتمام الملك، و”منسنيور الدلفين ابن الملك” (الذي “كان يقال عنه بأن أباه ملك وابنه البكر ملك اسبانيا وما هو ملك” كما يعرّفه حنا)، وأميرات البلاط، سيّما أنّ هذه الجرابيع الصحراوية لم تكن مذكورة في كتب الطبيعيات عندهم. يصف لنا حنا كيف تمازج الاهتمام و”التعجّب من خلقة” الجربوعين في القفص، وبين تفحّصه هو، “الشرقي حامل القفص”، الذي عرّفه بول لوكا للملك بأنّه “من بلاد سوريا، ومن الأرض المقدسة، وهو من طائفة الموارنة الذين استقاموا في الكنيسة البطرسية من عهد الرسل، وما انشقوا عنها إلى الآن”.
لكن الرابطة الدينية الكاثوليكية التي تجمع حنا دياب بأهل بلاط لويس الرابع عشر، لم تحل دون تعجبّهم من شواربه و”القلبق” الذي يعتمره، “فتركوا فرجة الوحوش (الجرابيع)، و”صاروا يتفرجوا عليّ وعلى ملبوسي ويضحكون”، فـ”لماً تفرجوا على الوحوش، وعليّ أيضاً، أرسلوني إلى عند أميرة أخرى، ومن هناك إلى عند غير أميرة”، وظلوا يأخذونه من مكان إلى آخر “إلى ساعتين بعد نصف الليل”. صعب على أميرات فرنسا تمييز هذا الماروني عن المسلمين. “تعالوا تفرجوا على سيف المسلم!” قالت إحداهن، فارتكب حنا محظور الجواب بأنّه سكين لا سيف. وهذا كان ليودي به إلى التهلكة، لأنّ الدخول على البلاط بسكين، يفيد نيّة الغدر، في حين أن الدخول عليه بسيف أو “سيخ” كما يسمّيه حنا، أمره مختلف. كان هذا هو “ثاني خطأ بروتوكولي” يرتكبه عمّنا حنا في بلاط آل بوربون، ويجري التسامح معه. الأوّل كان أكثر وقاحة: أخذ الشمعدان من يد “الملك – الشمس”!
نصّ تختلط فيه العامية بالفصحى
كتب الختيار حنا دياب رحلة شبابه من حلب إلى “بهريس” بمزيج من العامية والفصحى، مع غلبة الأولى. ظلت المخطوطة محتجبة عن عالم القراءة زهاء قرنين ونصف. عام 1926 أهداها قس حلبي إلى مكتبة الفاتيكان، وحفظت فيه “كخلية نائمة” إلى أن اكتشفت في تسعينيات القرن الماضي. نشرت دار “اكت سود” Actes Sud ترجمتها الفرنسية قبل عامين، في حين تكفلّت “دار الجمل” بنشر النصّ العربي “الوسيط بين العامية والفصحى”، كما كتبه حنا، بتحقيق ممتاز أجراه كل من محمد مصطفى الجاروش وصفاء أبو شهلاء جبران (من جامعة ساو باولو) لنصّ المخطوطة، من دون التدخل إملائياً على أسلوب حنا في كتابة الكلمات بشكل يحاكي طريق النطق في أيامه، مع كثير من العشوائية أيضاً، ذلك أنّه ينوّع في طريقة كتابة الكلمة الواحدة.
سبق لحنا، قبل رحلته هذه بفترة وجيزة، أن حاول الترهّب في دير بجبل لبنان ثم عدّل عن ذلك. تعرّف على بول لوكا “سائح من سواح سلطان فرنسا” في حلب، وطلب منه الأخير مرافقته كترجمان، ما دام ابن دياب يلم بقدر من الفرنسية (والإيطالية) يضاف إلى العربية والتركية، ووعده في المقابل بوظيفة “في خزانة الكتب العربية” في “بهريس”، و”بيصير لك علوفة (من علف، والمقصود هنا مخصص مالي) وبتعيش طول عمرك تحت نام الملك (المقصود تحت رعايته)”.
السياحة الملكية
انبهر حنا بـ”معلّمه” بول لوكا. “على ما رأيت من هذا الرجل، عنده من كل علم خبره”، الطب والفلك والهندسة والفلسفة والطبيعيات، وخواص الحشائش والنباتات والعقاقير المتنوعة، والأهم “معلمي كان معلّم في علم الجواهر، وخواصاتهم واثمانهم، وفي غاية ما يكون”. لا عجب، فبول لوكا (ت 1737)، كان مكلّفاً بالسياحة في الشرق، لاقتناص وشراء مخطوطات ومسكوكات ومجوهرات ونوادر ونفائس للعودة بها إلى لويس الرابع عشر. بل إن العاهل الفرنسي، الحليف للدولة العثمانية في وجه العدو النمساوي المشترك، كان مهتماً في جلب ما أمكن من آثار مصرية قديمة، بما في ذلك المومياءات الفرعونية. يخبرنا حنا أنّه أثناء توقفهم بحارة الموسكي، حارة تجار الفرنج في القاهرة، قدم أحد الفلاحين ليسرّ إلى أحد خدام “القنصر” (القنصل الفرنسي) بأنه وجد مومياء، كي لا يشاع الخبر ويأخذه الحكام إلى السلطان العثماني. يقول حنا إنّ هذه المومياءات موجودة قرب “المرامات” (الأهرامات)، ويحصل في أحيان نادرة حين يعصف الريح أن يكشف الرمل عن هذه القبور، “فبيطلعوا الفلاحين المتحبرين (…) وبالنادر حتى يبروا قبر فيه جسد مصيّر، وإذا رأوا واحد بيخفوه” إلى أن يباع للتجار الأجانب.
إضافات حنا الحلبي إلى “ألف ليلة وليلة”
لم يأت بول لوكا في المقابل، على مدار مجلّداته الثلاثة عن رحلاته الشرقية، على ذكر حنا. هذا بخلاف المستشرق أنطوان جالان، الذي تعرّف بواسطة لوكا على حنا في “بهريس”.
جالان هو أول مترجم لكتاب “ألف ليلة وليلة” إلى لغة أوروبية. يقول حنا إن جالان كان يستعين به “لأجل بعض قضايا ما كان يفهمها”، وإن المخطوطة التي كان يترجمها كانت “ناقصة كم ليلة”، فأكملها له حنا مما في جعبته من الحكايا.
وبحسب الباحثة كرستيانه داميان (من جامعة ساو باولو أيضاً)، فإنّ الحكايا التي رواها حنا دياب لأنطوان جالان، لتضمينها في ترجمته لألف ليلة وليلة، لم يكن لها وجود إطلاقاً في أي مخطوطة أصلية للكتاب، خصوصاً بالنسبة لحكايتي “علاء الدين والسراج المسحور” و”علي بابا والأربعون حرامياً”. أي أن أبرز ما دخل المخيال السينمائي من قصص ألف ليلة، مصدره حنا الحلبي، وبالتالي التراث السردي الشفهي لحكواتية بلاد الشام. لم يخف انطوان جالان مصدره هذا في يومياته، “حنا الماروني الذي جاء به بول لوكا من حلب” (وفي مواضع أخرى يصفه بـ”الماروني الدمشقي”). يقول في مطلع شهر أيار 1709 إن “السيد حنا استقدم معه بعض الحكايات العربية الجميلة جداً وقد وعدني بكتابتها وإبلاغي إياها”.
يبدأ يومياته بعد ذلك بأيام “في الصباح، انتهى الماروني الحلبي من سرده عليّ حكاية المصباح”، أو “قصّ عليّ حكاية عربية عن ابني عمومة، قمر الدين وبدر البدور”. عدّل جالان بعضاً مما وصله من حنا. فـ”خوجا بابا” أصبح “علي بابا” على سبيل المثال. لكن حنا كان يزوّد انطوان جالان أيضاً – على ما يذكر الأخير في يومياته – بأخبار عن طوائف بلاد الشام، عن العائلات الدرزية التي أصبحت كاثوليكية، وعن أكل الدروز لحم الخنزير وشربهم للخمر، وعن أولئك الذين “يأكلون لحم الكلاب والقطط”، ويقيمون بين طرابلس وحلب، ويقسمون بحق الشمس.
ملكوت وجهنّم على متن سفينة
الهوية المارونية مركزية في نصّ حنا. يعبّر عن ارتياحه، لأنه في بيروت “ما في قيد على النصراني ايش ما لبس”، وعن إعجابه بمنظر مشايخ آل الخازن الذين رآهم فيها “لافين بروسهم شاشات يانس” (أي من القماش الحريري المتموج)، و”على أكتافهم مشالح صوف انكلري (أسود فاتح، بالتركية)”، و”شاكين خناجر مجوهرة”. يظهر نفوره من لؤم الروم الأرثوذكس في قبرص. يخبرنا عن فزعهم من التبشير الكاثوليكي الفرنسيسكاني. يصفهم بالهراطقة والمتواطئين مع المسلمين “بيقولوا دايماً مسلمان ولا رومان”. ينقل أنهم يجوزون بناتهم للانكشارية (يكتبها “الالجكارية”) لأجل نيل الحماية من الحكام، و”ما لهم عرف ولا دين”. يسعد برؤية ماروني يتحدر من الذين هاجروا إلى قبرص يوم كانت تتبع للبندقية، والذين يحترسون من “الكريكية الهراطقة”. يتأسّف على أنّ بلاد المغاربة التي زار منها طرابلس الغرب وتونس مع بول لوكا لم تعد مسيحية. لا يخفي تعصّبه الكاثوليكي عندما يتحدّث عمّا عايشه من اضطهاد البروتستانت في فرنسا. مع ذلك، لا يتوان حنا عن انتقاد الكاهن الكاثوليكي الذي بات عنده، هو ومعلّمه، في الفيوم. يروي أنه كان يقصده كثير من رجال ونساء وأولاد “منهم قبط ومنهم فلاحين، وكان يعلمهم طريقة الإيمان”، لكنه كان يكثر من استخدام الكي لمعالجتهم.
يسأله حنا: “ألا يوجعك قلبك على هذه الأوادم الذين تعذّبهم بمكاوي النار التي لا يطاق ألمهم؟” (الجملة الأصلية خليط عامية وفصحى، وفصحناها هنا للتسهيل). يجبيه الكاهن بأنّ هؤلاء الأوادم “طبعهم طبع وحوش، الأدوية الاعتيادي ما بتأثر في أجسادهم ولا بتنفعهم، فالتزمت فيهم بأن أعالجهم هذا العلاج الذي بيعالجوا فيه الحيوانات”. كذلك يصف حنا حال المجدّفين في السفن الشراعية (الغاليرات) الفرنسية، بأسى عميق. فهؤلاء من المجرمين المحكوم عليهم، ما إن يقصّر الواحد منهم عن التجديف حتى يناله السوط المصنوع من “عصب البقر”. “رؤيتهم بتحزن، يقول حنا، كأنهم داخل جهنّم والشياطين تجلدهم وتعذبهم”. ينهره الكاهن الذي في السفينة عندما سأله في أمرهم، ويذكّره بأنّ هذا ما تقتضي به “الشريعة” (المسيحية). يفضل حنا الصمت حينها، ويشبّه القسم الذي يقيم فيه بالسفينة بـ”الملكوت”، فيما الآخرون في جهنّم. قسمة السفينة الشراعية الواحدة إلى “ملكوت وجهنم”، واحدة من الصور المؤثرة الكثيرة التي يطالعنا بها هذا النصّ المبهر والشيّق، صعب التصنيف.
“بهريس” دياب و”باريز” الطهطاوي
يبحث دياب خلال مروره في مدن البرّ الفرنسي عن “جشمات” (مراحيض) لا يلقاها، ولا يجد “أدب خانة” لقضاء حاجته. يقارن بين نبيذ بورغونيا ونبيذ جبال لبنان، ثم يقارن بهريس بحلب. يعبّر عن إعجابه بالعاصمة الفرنسية المضاءة بنظام فريد من الشموع في الليل، والتي يلزم فيها كل صاحب منزل بأن يكنس قبالته في الصباح. يخبرنا عن مستشفياتها، وأديرتها، واحتفالاتها الدينية، والتدخلات العجائبية لشفيعتها، وبعض التجار الأرمن المقيمين فيها، وعن التجار الذاهبين منها إلى الهند والشرق العثماني. يوجز عن مسارحها، وعن الكوميديا التي يكتبها “كموديه”، وهي “شبه خيال البزار عندنا” وفيها “الملاعيب من المسخنات والمضحكات، شي بيفوق الوصف”. و”صاحب الملعوب بيسمى اركلين (ارلوكان)، مثل ما عندنا صاحب الملعوب عيواظ وقرى كور”. يتابع: “كل ملعوبهم ينبنى عن اشيا صادرة في ذلك العصر، وعن أناس سكرية أشقيا، وغيرهم من ذوي الباطوليين المعترين، وغيرهم من الجنود الجبانين الجزوعين غير الثابتين في الحروب وما يشبه ذلك، وخصوصاً من النشا (النساء) الشراشيح الرعنات. وجميع هذا منظوم بألفاظ مقنعة مسددة، حتى أن السامع ينوعظ من أمثال هل جماعات المكروهة والمدمومة من الجميع”. يخبرنا أيضاً، أن في هذه المدينة “كثيرين من بنات الخطا (المومسات)، وبيوتهم معروفة من الإشارة المعلّقة على أبوابهم، وهي كبة شوك كبيرة”. و”موجود من المحتالين والمحتالات شي كتير”. تختلف الفترة الزمنية التي حلّ فيها حنا دياب على “بهريس” (1709) عن الفترة الزمنية التي حلّ فيها رفاعة الطهطاوي في “باريز” (1826). مغرية مع ذلك المقارنة بين المشترك والمختلف بينهما. فدياب يركّز على بيئة متدينة محافظة فيها، والطهطاوي يركّز على ابتعاد أهلها عن دينهم الكاثوليكي.
طبعاً، بين الرجلين مرّت على المدينة محن وثورات كثيرة. دياب كتب بعامية مختلطة بالفصحى،
والطهطاوي بالفصحى غير المسجّعة، المنبئة بحداثة لغوية. دياب بحث عن “إلفته” مع المدينة ككاثوليكي، هو أقرب إليها من هراطقتها البروتستانت. الطهطاوي رأى أبناءها يبتعدون عن الكاثوليكية وعن التدين جملة، ورأى في ذلك إمكان الأخذ عنهم دون التعريض بتديّنه الأزهري… دياب كان أكثر “حداثوية”، من خلال الأنا التي يشير إليها بـ”الفقير” تواضعاً، والتي نجدها حاضرة طول الوقت. يخبرنا عن مغامراته هو، عن تدخّله في الأحداث هو. أما الطهطاوي فأكثر انسحاباً كذات مفردة حين يسرد تفاصيل إقامته في المدينة، ومعاش الباريسيين.
شيء من الندم، شيء من البوح
يخبرنا دياب عن شتاء الصقيع والجوع بباريس، عن الفقراء “أهل القرى والضيع” وهم يتسولون في المدينة، عن دور الإكليروس في رعاية أمور الفقراء الريفيين الوافدين، وحماية المدينة منهم في نفس الوقت. يخبرنا عن العقوبات الجسدية التي كانت لا تزال تعتبر “شريعة” منزّلة عند الكاثوليك في ذلك الوقت. عن حيثيات قراره بالعودة إلى حلب، بعد أن تنازع على استتباعه معلمّه لوكا، والمستشرق جالان. وعن زمن التحوّط في السفر البحري طول الوقت من احتمال القراصنة. عاد أدراجه من باريس إلى مرسيليا إلى إزمير إلى الأستانة، فحلب، حيث زاول التجارة وكوّن أسرة من اثني عشر ابناً وابنة. لم يفكّر بالعودة ثانية إلى “بهريس”، لكنّه، حين دوّن “أدب رحلته”، لم يخف شعوره، وباح بأنه “أول ما وضع رجليه في البر”، بإزمير، “رأيت المسلمين الموجودين في الجمرك، فرجف قلبي، وانوهمت كأني حصلت في اليسر، وندمت على ما فعلت، كيف تركت المسيحية ورجعت إلى يسر المسلمين”.