الكولونيل شربل بركات: قراءة في كتاب العقيد ريمون فرحات موارنة في جبل عامل

188

قراءة في كتاب العقيد ريمون فرحات “موارنة في جبل عامل…”
الكولونيل شربل بركات/23 آيار/2023

العقيد فرحات مشكور على دراسته والجهد الذي بذله لمراجعة هذا العدد من المراجع التي استند إليها خلال عمله القيم من نواحي عديدة. فهو حاول أن يقارب التفاعل الطبيعي بين سكان جبل عامل الشيعة والموارنة خاصة، والمستمر أقله منذ مرحلة الأمير فخر الدين الثاني المعني الكبير. وبالرغم من عدم اطلاعه على الكثير من المصادر الرصينة والتي يفتقد لها أي باحث في هذا الشأن، حاول استخلاص بعض الوقائع من خلال تجارب العامة؛ المكتوبة منها والمتناقلة عبر الأجيال. ولكنه، وعلى مثال هؤلاء الذين يحاولون اضفاء موقف “المحايد” على بحثهم، يقع في مغالطات أو ينجرف مع التيار الذي يستسهل حصر الملامة “بالأستعمار الغربي”، كمحاولة لتبرير خطأ شائع لا يزال يتغلغل بين النفوس لتهييج الغرائز من جهة، ولتعظيم دور بعض من يدّعي القدرة على التغيير بالقوة وفرض الرأي بدون وجه حق، لا بل التلاعب بالحقائق وتشويه الأحداث، وعدم الاعتراف بالخطأ، ما يؤدي دائما إلى تكراره. ومثال ذلك مذابح الأرمن في كيليكيا ومجاذر “سيفو” في ديار بكر التي لم يعترف بها الأتراك حتى اليوم دون أن ننسى تجويع اللبنانيين حتى الابادة الجماعية خلال الحرب الكبرى.

في محاولته، مثل الكثيرين، ربط عاملة بسد مأرب التي يمكن أن تكون إحدى النظريات الغير دقيقة، يستبعد تأصل العامليين بلبنان وارتباطهم بالجزيرة العربية، كمقولة البعض. ونحن لا نرفض هذا الارتباط ولكننا نستغرب وجود اسم عاملة (عاملاتو) من ضمن الشعوب التي تسكن المنطقة في رسائل تل العمارنة (أي قبل ما يحكى عن حادثة سد مأرب بزمن طويل) وهذه تميزها عن “العبيرو” أو العبر والعرب وهم المتنقلون. من جهة أخرى فقد عدت عاملة بحسب التراث الاسلامي بين القبائل التي حاربت النبي في غزوة “أُحد” وقد تكون، مثل الغساسنة والانباط، اعتنقت الديانة المسيحية منذ بداياتها، ومن هنا تسمية المنطقة الجنوبية من جبل عامل ببلاد البشارة كونها أول من انتشرت فيها البشارة المسيحية منذ عهد الرسل الذين التجأوا إليها خوفا من الاضطهاد، وذلك قبل الفتوحات الاسلامية بمئات السنين حيث كانت صور مركزا مهما للمسيحيين في القرون المسيحية الأولى . وبالطبع في زمن البدع قد يكون طرأ تغيّرا على المفاهيم فقلّ التعلق بالكنيسة الأم، وهكذا فقد تشيّع العامليون مع أبو ذر الغفاري الصحابي الذي نفاه معاوية إلى هذه المنطقة وحافظوا على تشيعهم حتى يومنا هذا.

نعرف بأن المدن الفينيقية كانت تعتمد على التجارة ومنها التجارة الجنوبية أي مع بلاد العرب حتى الهند عبر عمان، والحبشة (أفريقيا) عبر اليمن، ومن هنا ضرورة وجود مراكز لاستقبال القوافل على طول الطريق من صور إلى شمال فلسطين وعبر الأردن نحو بلاد العرب. فالعلاقة بين حُماة المدن اللبنانية الساحلية ضد غزوات البدو ومراكز استراحة قوافلها على طول الطريق كان لا بد أن يناط بأولاد هذه المنطقة (فناء صور الداخلي) منذ انطلاق القوافل ذهابا أو ايابا. والعلاقة بين هؤلاء وسكان بقية المراكز التجارية على طول الطريق لا بد أن تكون حسنة لا بل حميمة لتأمين استمرار تبادل المصالح. من هنا قد تكون نظرية ارتباط عاملة بالجزيرة العربية وسكانها طرحت من هذا القبيل وتطورت مع الوقت واستمرت. ولكنها كانت بالطبع في سبيل الحفاظ على المصالح الأساسية، وهي حماية المدن الساحلية وخطوط تجارتها بالاتجاهين. وهذا هو الارتباط الاساسي بلبنان وبأرضه واستمرار الولاء له والدفاع عنه.

لا نريد اطالة البحث حول هذا الموضوع ولكننا نرغب في اثبات انتماء جبل عامل إلى لبنان تاريخيا وتحلّي سكانه بنفس الخصائص التي تحلّى بها الموارنة في الشمال والدروز في الوسط وهي عوامل تتأثر بالمحيط الجغرافي المتميز عن الجوار في قساوة الطبيعة وبنفس الوقت ثرائها الذي يختص بالقلة مع التنوع وما تؤمنه للحماية من أطماع المتغطرسين. فكما يقول الدكتور يوسف الحوراني “يبدأ لبنان حيث تبدأ الطبيعة بمساندة حرية الأنسان… وبالتالي حيث تقف أطماع الآخرين” وهو يحده من الجنوب سهول فلسطين الغنية حتى هضبة الجش ومن الشرق سهول طبرية والحولة وهضبة الجولان التي تنتهي بسهول حوران وغوطة الشام لتصل إلى مناطق الشمال الغنية بسهولها أيضا في حمص وحماة. فيحيطه إذا الأراضي الغنية التي لا تهم اللبنانيين بكل فئاتهم بل هم يتمسكون بحريتهم وجهدهم الكفيل بتأمين عيشهم بدون منة ولا حاجة لهم للجيوش والقتال إلا لمنع المعتدين.

ومن هنا لا بد لنا من ذكر ثورة علّاقة ضد الفاطميين مع أنهم يعتبرون شيعة ولكن قد تكون الحرية مطلوبة أكثر من التبعية ولو لنفس المذهب. ومن جهة أخرى فقد تفاهم سكان جبل عامل مع الصليبيين لا بل هناك من يقول بأنهم تعاونوا في أكثر من مجال، ومن هنا فتاوى ابن تيمية التي حللت دمهم كما الدروز والعلويين والاسماعيلية، وهذا ما أفرغ البلاد بعد حروب بيبرس في المنطقة ومنع السكن لعمق اربعين كيلومترا من الساحل أي سفر يوم بكامله ولمدة طويلة عاد بعدها السكان بالتدريج. كل هذه تعطينا فكرة عن معاناة المنطقة وأبنائها. وكما مع المماليك، استمرت المعاناة مع العثمانيين، كون الشاه اسماعيل حاكم بلاد الفرس والذي اعتمد المذهب الشيعي كان شجّع بعض علماء جبل عامل للتوجه إلى إيران من أجل التعليم الديني في دولته التي فرض فيها مذهب الشيعية الأثني عشرية، ولكن انتصار السلطان سليم عليه قبل معركة مرج دابق أخاف شيعة جبل عامل من ردة الفعل العثمانية عليهم ما جعلهم في حال من الترقب والحذر الدائم من سطوة الأتراك. ولذا فلم يجروء العامليون على تنظيم أي نوع من القوى خلال الفترة الأولى لحكم العثمانيين، وبالتالي كانت مصلحتهم تدعو لتنسيق الأمور مع حكام جبل لبنان الدروز الذين كانوا مالوا للسلطان سليم مع حاكم حلب في معركة مرج دابق وساهموا بحسم المعركة لصالح العثمانيين، ومن هنا تلك الدالة للدروز على الحكم الجديد. ولكن حادثة سرقة أموال الجباية القادمة من مصر عبر لبنان متوجهة إلى الاستانة (في جون عكار) واتهام أمير لبنان قرقماز بالتغطية على الفاعلين قلب الأمور ضد الدروز فقامت حملة والي مصر بمساندة الأسطول العثماني بالقضاء على جيش الأمير وقتله وخسارة الدروز الكبرى سنة 1584.

كانت مرحلة المماليك قد أضعفت كافة الفئات في لبنان كما قلنا؛ من حروبهم ضد الموارنة والتنكيل بهم وحصرهم في المناطق الجبلية، إلى فتاوى ابن تيمية التي اضعفت الدروز والشيعة ايضا وقلصت تواجدهم واستقلاليتهم وحتى تأثيرهم في ادارة البلاد. ولكن مع تسلّم فخر الدين الثاني لحكم الامارة واستعادته ما كان لوالي صيدا جنوبا، أعاد ارتباط جبل عامل مجددا بلبنان. وكما استعان السلطان سليم بالموارنة لتحسين الانتاج الزرعي في حلب ومن ثم سمحوا للعسافيين باعمار كسروان، شجع هؤلاء المزارعين الموارنة للسكن في كسروان. ومن ثم، عندما احتاج فخر الدين للمزيد من الطاقات الانتاجية بسبب قلة العنصر البشري في مناطق الدروز، استعان بهؤلاء الموارنة الذين كانوا أيضا سندا له في مجالات الدفاع والادارة. وقد فهم زعماء جبل عامل أهمية العنصر الماروني في تحديث الانتاج وتعليم المزارعين فشجعوا بدورهم هذه الاندفاعة جنوبا، وهو ما لا يفهمه بعض من ادعى كتابة تاريخ جبل عامل خاصة وأنه وقع تحت مشاعر الحقد التي دفعت بعض العناصر الشيعية التي كبر عندها الوهم فدفعت إلى ارتكاب المجازر بحق اخوانهم الموارنة والمسيحيين بدون مبرر إلا أحلام بعض الضباط من بقايا العثمانيين والذين التحقوا بفيصل لتجنّب المحاكمات.

مأخذنا على العقيد فرحات أنه حيث لم يجد كتبا منشورة عن التواجد الماروني في جبل عامل لم يقم بالعناء اللازم وراء الحقائق التاريخية فمثلا لم يناقش مقدمة الشحيمة المارونية التي طبعها الخوري عبد المسيح الطويل والموجودة في الارشيف الذي اطلع عليه (وقد ذكرها عرضا) وهي تدل على تواجد ماروني في عين إبل قبل سنة 1630 حيث أن المطران يوسف العاقوري قد رسم عبد المسيح خريج المدرسة المارونية كاهنا على أقاربه في عين إبل ومن ثم فإن تاريخ العائلات العينبلية المدونة بالأسماء تذكر هذا التواجد منذ بداية القرن السابع عشر او حتى قبل سنة 1600 فلعائلات الطويل (أي خريش) ودياب وعتمة وصادر وغيرهم من العائلات العينبلية لوائح مفصلة باسماء الجدود منذ سكنهم في عين إبل لا بل فأن سجل عائلة دياب الذي دونه المونسينيور يوحنا دياب العينبلي أول خوري على موارنة بيروت والذي أنشأ مدرسة الحكمة تفصل تاريخ العائلة ما قبل قدوم جريس دياب إلى عين إبل وتذكر توجه شقيقه حنا إلى حلب وشقيقه يوسف إلى حدث الجبة من بشري. وبالتالي ولو أن حريق عين إبل وسجلات الكنيسة الذي وقع سنة 1920 لم يبق على أثر كما هو الوضع مع سجل العماد لدبل وأو رميش ولكن الوثائق موجودة . وهنا لا نريد أن نقلل من قيمة البحث في الأرشيف الكنسي ولكن التقليل من توضيح تجزّر عين إبل بالمنطقة وكأنه غير مؤكد يبدو مقصودا إذا ما رأينا كل الجهد الموضوع.

لم يذكر الباحث مثلا أي معلومة حول الكهنة الذين خدموا عين إبل ونعرفهم بالاسم منذ عبد المسيح الطويل مرورا ببركات ابن جريس دياب ثم الخوري انطانس ابن جريس خريش والخوري انطانس ابن شاهين دياب أي ابن شقيق الخوري بركات ومن ثم الخوري يوسف ابن حنا ابراهيم دياب وأولاده الثلاثة ابراهيم (والد المونسينيور يوحنا وقديس نيحا) وبطرس (من مشاهير عين ورقة وأحد مؤسسي رهبنة الكريم) وخليل الذي ارتسم باسم يوسف. ومن ثم لم يبحث في سجلات تلامذة مدرسة عين ورقة التي تدل على عدد كبير من أبناء المنطقة الموارنة الذين تعلموا فيها وعلى الأقل أصبحوا كهنة، مثل الخوري بطرس الذي سبق ذكره والخوري موسى صادر وغيرهم وهذا ما يربط هؤلاء بلبنان طيلة الوقت ما لم يكن غريبا على جبل عامل سوى عند بعض النفوس المريضة التي ادعت بأنها تحفظ تاريخه بهذه الطريقة، وهي طمس المعلومات وتغييرها ما أمكن لدعم موقف سياسي غير موزون في أغلب الأحيان. وهذه بعض الأمثلة فقط عن السرعة التي تجعل البعض يعتقد بأن المسيحيين والموارنة بوجه الخصوص هم طارئون على المنطقة ولذا فرأيهم لا أهمية له في الأمور المصيرية، وهنا بيت القصيد.

نعود إلى القرن الثامن عشر وخاصة مرحلة ناصيف النصّار الذي يظهر تعلّق جبل عامل بحدود لبنان الجنوبية والشرقية. فهو حارب ضاهر العمر يوم حاول التعدي على حدود لبنان في مواقع البصة وميرون وطربيخا، ومن ثم عندما عرف حده تعاون معه ضد والي الشام وخاصة في موقعة الحولة، التي ثبتت حدود لبنان الحالية من الجهة الشرقية. وهنا نعرف بأن الموارنة، خاصة ابناء عين إبل، أحبوه واحترموه لا بل حاربوا في صفوفه، فقد سمى مخايل ابن خليل جريس دياب ولده الثاني ناصيف تيمنا بالشيخ ناصيف النصار وكان هذا خروجا عن المألوف، كما سمى يوسف ابن جريس خريش ابنه الثالث ناصيف وكذلك سمى جريس عتمه ابنه الثاني ناصيف. من هنا نعرف العلاقة بين زعامة جبل عامل وسكان عين إبل في القرن الثامن عشر. ولكن وفاة الشيخ ناصيف وسيطرة الجزار على البلاد وفرضه السخرة و”السرولي” (التجنيد الاجباري) ساهما في اشاعة أجواء من القلق وخلقا نوعا من الخارجين عن القانون الذين سموا “الطياحة”، وقد اعتمدوا على السرقة والتشليح ما زاد من الفوضى وخاصة الخوف من الانفتاح الذي كان سائدا، وهذه أيضا لم يتطرق لها الكاتب ولا غيره بالشكل المطلوب.

نستخلص من هذه النقاط التي أحببنا أن نوردها ليس فقط للباحث العقيد فرحات، وإنما أيضا للسادة الدكاترة الذين يوجهون الابحاث ويشددون على النفس اليساري الرافض للبنان المتعاون، وهم يعتقدون بأن التقليل من وطنية الموارنة في مطالبتهم بالانتماء إلى لبنان، وتصنيفهم معادين لراي سكان المنطقة ومساندين “للمحتل” الفرنسي، إنما هم على خطأ. فلو أن سوريا بقيت كما قسمها الفرنسيون اربعة دويلات لربما كان ذلك أفضل من أن تعيش تحت الكبت وحكم المخابرات طيلة الفترة السابقة أو حروب التهجير اليوم لتثبيت الدويلات. فإذا كان السوريون سنة 1936 ضغطوا على فرنسا لتعيد توحيد سوريا فهم لم يفهموا بدون شك مسار التاريخ الذي انتجته حروب الأسد اليوم؛ وهي دويلة الأكراد في الشمال وكانت يومها دولة حلب، ودويلة الدروز في الجنوب وكانت مفروزة يومها، ودولة دمشق التي يحكمها العلويون من دولتهم الساحلية اليوم بالحديد والنار وقد هجروا ما استطاعوا ويحاولون توطين ايرانيون مكانهم.

نعيب على كل من حاول البحث في موضوع مجزرة عين إبل وغيرها من التعديات التي فرضت نوعا من التهجير الطائفي، أنهم حاولوا بسبب النفس اليساري السائد والذي يدّعي بأن فرنسا كانت العدو بينما أثبتت الأيام أن ما اقترحته فرنسا يومها كان الحل الأمثل لاعطاء الشعوب دورا في الحكم ونوعا من الاستقلالية الداخلية من ضمن دولة توحّد أكثر من أن تقسّم، وكانت صادقة في تتويج فيصل ملكا عليها، ولكن بقايا الضباط العثمانيين، وخاصة يوسف العظمة، لأن رئيس الوزراء الركابي (وهو أيضا ضابط تركي سابق) فهم الموضوع وانسحب قبل المجزرة، أما تعنت يوسف العظمة وارتباطاته مع الضباط في تركيا حيث كانت تقوم ما سمي بحرب التحرير، وقد استعملت فيها “قوات ملي” اي المليشيات المسلحة السنية ضد اليونانين وغيرهم من الاقليات، ما سمح لهم بالسيطرة مجددا على البلاد وانهاء السلطنة لصالح الدولة العلمانية، التي يحاول اردوغان ازالتها اليوم بنفس المنطق التعصبي.

إن إيجاد المبررات للعصابات التي هاجمت عين إبل بالاشتراك مع الفصيل العسكري التابع ليوسف العظمة لا تشرّف الشيعة، كما قال الزعيم الوائلي كامل بيك الأسعد (إن عين إبل خسرت أهاليها صحيح ولكن الشيعة خسروا شرفهم) وخاصة في جبل عامل حيث ساد الوئام بين جميع سكانه وعرف كل حده فوقف عنده لأن الزعامة كانت صادقة في توجيه الناس. وعندما بدأت بعض الشخصيات المتسرّعة التي تصبوا إلى أدوار على صعيد الزعامة باختراع نظريات تثير النفور، بدون أن تأخذ بالحسبان مصالح الناس الأساسية، دبت الفوضى وسقط الاستقرار ولا يزال البعض يحاول تغزية هذا النوع من التفرقة.

نقول للباحثين الشيعة أولا، أنهم وبعد مئة عام يجب أن يضعوا النقاط على الحروف بشكل صحيح. فما يسمونه العصابات المسيحية لم يكن موجودا، وفي عين إبل بالذات. أكيد تسلح الأهالي للدفاع عن حقهم بالحياة، ولكنهم لم يعتدوا على أحد، ولا هاجموا أي قرية مهما صغرت، ولكنهم تحدّوا صادق حمزة وعصابته يوم ارسل يطلب منهم دفع ضريبة مئتي ليرة ذهبية وتسليم مئتي بندقية. فقالوا للرسول، وكان ابو الجواريش من يارون ، قل لصادق حمزة لن ندفع له ليرة واحدة، وأذا أراد مهاجمتنا أهلا به. وقد حاول ذلك حيث جرّب أن يهاجم من اتجاه شلعبون فكانوا له بالمرصاد وأذاقوه طعم سلاحهم فهرب.

ويوم ضغط جماعة الشام على الزعيم كامل بيك الأسعد بزيارة محمود مريود التهديدية له في الطيبة، كانت نوايا البيك صادقة بالدعوة إلى اجتماع للدراسة وأخذ قرار على مستوى المنطقة ربما، ولكن العصابات وعلى رأسها جماعة أدهم خنجر وصادق حمزة علموا بأمر الاجتماع وقرروا أن يفرضوا الراي بالقوة، عندها تمنّع البيك عن الحضور لأنه علم بأن أوامر دمشق تدعو لمواجهته شخصيا، وبالتالي تفتيت الطائفة والباسها ثوبا لا يليق بها. وهذا الأمر كان يجدر بمن ادّعى البحث أن يطرحه بشكل طبيعي لا أن يكتفي هؤلاء بالاشادة بدور شرف الدين الذي توجه إلى دمشق فور الانتهاء من المؤتمر لتقديم الطاعة. وهنا فقد ربط أغلب الباحثين بين مؤتمر سان ريمو ومؤتمر وادي الحجير وقد يكونون على حق لأن التيار الذي كان يدير الأمور في دمشق كان يلعب اللعبة العالمية ويعرف معاني الأمور، ومن هنا أهمية اتخاذ قرار مهاجمة عين إبل، فهي ليست بالصدفة ولا ردا على اعتداء، كما يحلو للبعض أن يختلق. قرار مهاجمة عين إبل هو قرار استراتيجي أتخذه القائد العثماني يوسف العظمة ومدير مكتب أنور باشا وزير الحربية السابق في السلطنة شخصيا، وكان المنفذون من عصابات جبل عامل المغرر بهم وجماعة عرب الفضل ومن لف لفهم. وهم كانوا استسهلوا الاثراء السريع بالسلب والقبض بدون حساب للنتائج التي تحمّلها أهالي المنطقة خسائر وأحقاد. ويجب أن تفهم الحقائق كما هي لكي لا تتكرر. ومن هنا عتبنا على صاحب البحث ولو أنه حاول في الختام ترطيب الأجواء إلا أنه لم يُظهر الحقائق كما هي بل اكتفى بمقولات بعض من ادعى البحث وغرضه التعتيم على الحقائق وتوزيع الملامة على القتيل قبل القاتل.

كملخص لم يغص فرحات عميقا في بدايات الوجود الماروني في جبل عامل ولو أنه أخبرنا الكثير عن يوميات هذه المنطقة. وفي الموضوع السياسي لم يثبت الموقف الوطني حتى بعد مرور مئة عام على لبنان الكبير، لا بل أبقى التذبذب سائدا حول موضوع انتماء جبل عامل للبنان أو لا، ما يدعو البعض إلى أعادة مواقف الرفض إلى الطاولة التي كانت قد انتهت منذ عقود طويلة، وأصبح للشيعة اللبانيين استقلالية من حيث التبعية الدينية، والمركز الثاني من حيث السلطة السياسية في البلاد، والكلمة الفصل في كل شؤونه. ولكن لا يزال هناك من يحاول نفض الغبار عن أفكار تقسيمية استتباعية لا يراد منها الخير للبنان أو بنيه.