شارل الياس شرتوني/مفارقات جمهورية الموز الشيعية ومآسي اللبنانيين

72

مفارقات جمهورية الموز الشيعية ومآسي اللبنانيين
شارل الياس شرتوني/10 آيار/2023

لقد أنقضت أربع سنوات على الأزمات المالية القاتلة، وثلاث سنوات على جريمة المرفأ الارهابية، و٦ أشهر على الفراغ الرئاسي، وترهات حكومة تصريف الأعمال، وسنة على إنتخاب مجلس نيابي صوري وقاصر لا يأتي عملًا، و٣٣ سنة على جمهورية الطائف التي تآكلت بفعل مفارقاتها الدستورية والسياسية التي ربطت عمل المؤسسات بسياسات النفوذ الاقليمية ومفاعلاتها الداخلية، وأسست لسياسات المحاصصة المتحركة على خط التبعيات الاقليمية ومساراتها الانقلابية المتعرجة، بدءًا بالتسوية السعودية-السورية، ومرورًا بمرحلة الاحتلال السوري الناجز، وصولا الى المد الانقلابي الشيعي الذي تديره إيران انطلاقًا من لبنان، والإتفاق السعودي-الايراني الذي لم تتبلور معالمه حتى الساعة، والذي يحيلنا الى سياسة تقاسم نفوذ متموجة، أكثر منها الى تسوية للنزاعات من وجهة نظر ديموقراطية وانمائية تضع حدًا تدريجيًا للديناميكيات النزاعية، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وحلقات العنف المتوالية التي تستحثها. يرتكب الباحثون(الحقوقيون والسياسيون والاقتصاديون) خطأ منهجيا جسيمًا، عندما يتعاملون مع المؤسسات الدستورية القائمة وكأنها الضابط الفعلي لايقاعات الحياة السياسية والعامة، في حين أنها ليست إلا غطاءات لسياسات نفوذ استنسابية متحركة كما ظهرتها، مراحل النفوذ الأربع التي استعدتها في هذه المقدمة.الحياة المؤسسية في لبنان الحاضر ليست الا ردائف لسياسات النفوذ الداخلية والخارجية على تعدد مفارقاتها.

هذه الملاحظات تتظهر من خلال المحاور النزاعية الحالية:
أ- الأزمات المالية المفتوحة منذ أربع سنوات، دون أي بوادر لحل جزئي أم كلي لإشكاليات شرحت كل جوانبها لجهة حيثياتها وحلولها من قبل الخبراء الماليين والاقتصاديين في الداخل والخارج، ومن قبل المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة، والتي كان بالإمكان معالجتها في الأسابيع الأولى لاندلاعها، لولا الممانعات الإرادية التي أبدتها أجنحة الاوليغارشيات المالية والسياسية، حماية لإرث متراكم على مدى ثلاثة عقود، من سياسات النهب المنهجي للأموال العامة عبر سياسة الاكتتابات بسندات الخزينة، كآلية تفاضلية أقرها رئيس الوزراء رفيق الحريري بالتوافق مع النظام السوري، وسياسات النفوذ الشيعية والدرزية، والنخب السياسية الموالية التي اصطنعها النظام السوري وشركاه في الأوساط المسيحية.

إن سياسة النهب المنهجية ليست وليدة الصدفة، بل نتيجة مباشرة لنهج سياسي انقلابي لجهة إقرار السياسات العامة، والتأسيس لنظام المحاصصات الاوليغارشية الذي استباح الأموال الخاصة والعامة على خط التواصل بين جمعية المصارف التي يديرها اقطاب النفوذ السياسي-المالي (٢٠/١٨ من المصارف مملوكة منهم ومن شركاهم في القطاع المصرفي)، والمصرف المركزي، والحكومات والمجالس النيابية المتعاقبة. خلافًا لمقولة جمعية المصارف التي تنحي باللائمة على ما يسمونه “دولة”، علينا أن نظهر أن سياسة الاكتتابات بسندات الخزينة هي خيار إرادي غير قانوني سمح لها التصرف بأموال المودعين خارجًا عن الضوابط التي يلحظها قانون النقد والتسليف (١٠٠/٣٠)، على قاعدة حسابات ريعية ( ١٢-٤٢/ ١٠٠)، وتجاهل مبرح للطابع الجرمي لهذه الممارسة، لجهة معرفتهم التامة بواقع الفساد المعمم في كل القطاعات العامة، وعمليات النهب المنهجي التي انتظمت على أساسها عمليات إعادة الإعمار، والخيارات والكلفة وأصول التلزيمات، والمراقبة والتقييم.

السؤال المنهجي الذي يطرح، بادىء ذي بدء، لما اعتمدت سياسة الاكتتابات على حساب آليات اخرى، كالقروض الميسرة والطويلة الأجل من المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة، وتحفيز الاستثمارات من خلال تثبيت الاستقرار السياسي، وإصلاحات الحوكمة والقضاء، والتعاون مع الجامعات وأوساط العمل المهني المتنوعة، واشراك المغتربات اللبنانية حول العالم، بدلًا من بيع البلاد للصناديق الانتهازية، وتحويل النظام المصرفي الى موقع لتبييض الاموال، وشفط أموال اللبنانيين من خلال الهندسات المالية المضللة، والمضاربات المالية والعقارية، وتجفيف مصادر التمويل الصناعي والزراعي والتربوي والتكنولوجي والخدماتي والسياحي، لحساب سياسة الموارد الريعية والجرائم المالية والاقتصادية المنظمة، وتبديل روافع العمل الاقتصادي من خلال الترهيب والإفساد والتصرف الكيفي بمؤسسات الدولة ومواردها. لقد انتقلنا من الاقتصاد الربوي المتفاهم عليه من قبل أركان الاوليغارشيات وأوليائهم الإقليميين،الى أركان الفاشية الشيعية السياسيين وأدواتهم الاقتصادية غير المشروعة ، كروافع لسياسات انقلابية وعمليات سطو منهجية على العمل الاقتصادي في البلاد.

لا خروج من هذه المناخات والممارسات الإجرامية التي أسست للتسيب الأخلاقي المعمم، دون إصلاح الحوكمة، وإجراء تحقيق جنائي مالي لرصد مواقع وآليات وأقطاب الفساد على تدرج مواقعهم ومسؤولياتهم، وتخمين كمي دقيق للأموال المنهوبة، والادعاء على كل من تثبت مسؤوليته الجنائية أمام المحاكم الدولية والمحلية، ووضع خطة إصلاحية تعيد ربط التداول المالي بحركة الاقتصاد الفعلي، من خلال إعادة هيكلة المصارف لجهة عددها وعملها ( تطبيق اتفاقيات بازل الثلاث لجهة الملاءة المصرفية، الرأسمال الاحتياطي وإدارة المخاطر، …)، وإعادة البنك المركزي الى دور الرقابة وإدارة المخاطر وإنفاذ التشريعات المالية، وتحفيز الاستثمارات في كل القطاعات الانتاجية من خلال الحاضنات العلمية، والاصلاحات التربوية، ونقل التكنولوجيا، وإعادة النظر بالسياسات الضريبية التحفيزية والناظمة للتوظيفات. لما لم تجر عملية الاصلاح، الجواب المباشر، لأن هنالك مصالح آسرة تحكم القرار السياسي والمالي في البلاد، وتوجهات انقلابية تسعى الى ترسيخ واقع الانهيارات المعممة مقدمة لوضع اليد على البلاد.

ب- أزمة الانتخابات الرئاسية تظهر بشكل نافر درجة تسكع المؤسسات الدستورية واستكمال عملية إفراغها من أي قوام معنوي وقانوني تستوي على قاعدته الحياة السياسية. أصبحت الحياة السياسية تعبيرًا محضا عن سياسات نفوذ متفلتة تحكمها موازين القوى الداخلية المتبدلة، ومحاور النفوذ الاقليمية المتمثلة حاليًا بسياسة الانقلاب الشيعية التي يديرها النظام الايراني على المستوى الإقليمي. إن التموضع عند تخوم سياسة النفوذ الايرانية، وإملاءات التسوية الايرانية-السعودية، وربط الحل السياسي الداخلي بالمقايضات بين محوري النفوذ الناشىء، هو دليل كاف على ما وصلت إليه الحياة السياسية في البلاد من انهيارات بنيوية تطاول الكيان الوطني والدولتي على حد سواء. أصبح لبنان تفصيلًا داخل معادلات تتجاوزه وتسقطه من دائرة التداول السياسي والاقليمي كدولة سيدة.

معادلة “سليمان فرنجية أم الفراغ”، تحيلنا إلى استحالات مدمرة تعمق واقع الانهيارات في البلاد، وتصيب قواعد الاجتماع السياسي اللبناني الميثاقية والليبرالية والديموقراطية، وتعيدنا الى متاهات نزاعية مدمرة خبرناها على مدى سبعة عقود متواصلة من الصراعات المفتوحة. إن سياسة السيطرة المطبقة للفاشيات الشيعية على المؤسسات من خلال المجلس النيابي الصوري، والتلاعب بالتمثيل السني، والتصرف برئاسة مجلس الوزراء من خلال تواطؤ الحكومات المتوالية في السنوات الأربع الماضية، وانصياع ميقاتي لاملاءات بري على خلفية مصالح مالية مشتركة، واستعمال رئاسة الجمهورية غطاء لسياسة السيطرة المعلنة، تستحث معارضة أكثرية في الأوساط المسيحية، ومناورات من جهة جبران باسيل وتياره المخروق من قبل حزب الله، ومعارضات مخترقة في الأوساط السنية، وذبذبة في مواقف وليد جنبلاط على خلفية ممانعة في الأوساط الدرزية.

نحن في خضم لعبة اوليغارشية بإمتياز خارجة عن أية اعتبارات دستورية وهموم إصلاحية في بلد يعيش حالة احتضار مديدة. لقد سقطت اللعبة الدستورية لحساب المقاطعات السلطوية النافذة ومشاريعها، على خط التواصل بين بيروت وطهران والسعي الى مقايضات مع السعودية. تصريحات فرنجية مقذعة ببدائيتها لجهة التموضع الصريح ضمن اللعبة الاوليغارشية، وخط النفوذ الممتد بين طهران والشام، دون ايلاء أي إعتبار للشأن السيادي والمؤسسي والإصلاحي، وكأن هذه الاعتبارات هامشية ودخيلة على قواعد اللعبة كما يفهمها . فيما الثنائي الفاشي الشيعي غير مكترث لإي اعتبار خارج عن سياسة استكمال وضع اليد على المؤسسات الدستورية، والسير قدما بمشروعه الانقلابي بالتفاهم مع النظام السوري، في ظل استعمال مسألة التهجير مدخلا لضرب استقرار لبنان، واستهداف حيثيته الكيانية والدولتية، وإبقاء الواقع اللبناني أسيرا لمعادلات انقلابية تقع على خط التقاطع بين سياسات النفوذ الايرانية والروسية والتركية والجهادية.

لم يبق للبنان سوى موقف الممانعة الاميركية تجاه سياسة وضع اليد من قبل حزب الله، وما سينشأ عن هذا الواقع من سياسات نفوذ مضادة. السؤال الأهم، في هذه المرحلة الخطرة، يدور حول إمكانية استكمال الاستحقاقات الدستورية في ظل مناخات وفاقية وسيادية وإصلاحية تخرج البلاد من حالة المراوحة القاتلة، أو التسمر داخل دوامات نزاعية مفتوحة معطوفة على واقع إقليمي متفجر يفتقد نقاط ارتكاز ثابتة، على الرغم من التوقعات المبهمة التي استحثتها المصالحة الإيرانية-السعودية.