د. امين جول اسكندر/الإبادة الجماعية ١٩١٥ – ١٩١٨ على يد العثمانيين

86

الإبادة الجماعية ١٩١٥ – ١٩١٨ على يد العثمانيين
د. امين جول اسكندر/الشفافية نيوز/03 آيار/2023

في ٢٤ نيسان (أبريل) ١٩١٥، أمر طلعت باشا باعتقال المثقفين الأرمن، ليتمّ في ما بعد ترحيلهم جميعًا وتجويعهم وإعدامهم. وفي ذلك اليوم، بدأت الإبادة الجماعية التي امتدّت إلى جبل لبنان وغيّرت وجه الشرق الأوسط برمّته.

يُعتبر يوم ٢٤ نيسان (أبريل) يوم الإبادة الجماعية لمسيحيي الشرق، حيث خضع ثلاثة أرباعهم لمذابح ومجاعات وعمليات ترحيل إبّان الحرب العالمية الأولى. لقد أخذ هذا التطهير العرقي اسم Tséghaspanoutioun لدى الأرمن، وسيفو (Seyfo) لدى السريان والكلدان والآشوريين، وكفنو (Kafno) لدى سكّان جبل لبنان.

محمد طلعت باشا، وزير داخلية الدولة العثمانية/أطفال مسيحيون جائعون (١٩١٥ – ١٩١٨).
أربعة قرون من السلام النسبي
حافظت الإمبراطورية العثمانية على تنوّعها العرقي لمدة أربعة قرون تخلّلتها حوادث خطيرة وأقلّ خطورة، وشهدت فترات أكبر من الاستقرار النسبي وحتى الازدهار. وبينما راح الأرمن يعتلون درجات المجتمع الراقي في القسطنطينية ويحافظون على مراكزهم في محافظات الإمبراطورية، عاد الموارنة إلى السكن في جبالهم التي سبق ودمّرها المماليك. وبفضل البعثات الأوروبية والأمريكية، بالإضافة إلى الامتيازات التي كانت تحمي مسيحيي الإمبراطورية، تم تفضيلهم بشكل غير مباشر في مناطق معيّنة، حتى أنّ مكانهم بدا مضمونًا في هذا الهيكل الإمبراطوري المتعدّد الجنسيات والأعراق والثقافات.

إلّا أنّ هذا كلّه كان ليتغيّر مع ظهور مفهوم الدولة القومية في القرن التاسع عشر. الإمبراطورية العثمانية ليست أمة، بل مجموعة من دول عُرفت باسم مِلَل، حيث نشأ تخوّف من تزايد عدد الأرمن في عدة محافظات، ومن تزايد عدد الموارنة وغيرهم من المسيحيين في جبل لبنان، وكانت علاقاتهم مع القوى المسيحية في الغرب وفي روسيا بدأت تثير غضب القومية التركية.

المذابح الأولى
لقد ساهمت كلّ من حرب الاستقلال اليونانية (١٨٢١ – ١٨٣٠)، وتحرير واستقلال بعض دول البلقان من بعدها، في ازدياد مخاوف القوميين الأتراك الذين نظّموا، ابتداءً من العام ١٨٦٠، مذابح للمسيحيين في جبل لبنان حتّى دمشق، ما أدّى إلى تدخّل جيش نابليون الثالث وإقامة حكم ذاتي لبناني (متصرفية جبل لبنان) ضمنته خمس قوى أوروبية.

علاوة على ذلك، فإنّ إبرام معاهدتَي سان ستيفانو وبرلين في العام ١٨٧٨، ثبّت تفكيك أوصال الجزء الأوروبي من الإمبراطورية العثمانية وأشترط ضمان أمن الأرمن في الجزء الآسيوي، مع التلميح إلى حكم ذاتي محتمل لأرمينيا على غرار جبل لبنان. لذا، شعرت السلطات التركية بقلق متزايد إزاء الوزن الديمغرافي والاقتصادي والسياسي للأرمن، ما اضطرّهم إلى تخفيض أرقام تعداد السكان الأرمن إلى النصف على الورق في مرحلةٍ أولى.

عبد الحميد الثاني
لكن العمل الملموس لم يأخذ الكثير من الوقت ليتبلور على الأرض، إذ استؤنفت المذابح على الفور ضد السريان والكلدان والآشوريين في الجزيرة الفراتية، وضد الأرمن في غالبية المحافظات. وقد نفّذ الجيش التركي نفسه هذه المذابح تارةً، وطورًا تمّ تفويضها للأكراد، في فترة امتدّت بين ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر، وأشهرها مذابح ١٨٩٤ – ١٨٩٦الحميدية التي أودت بحياة ٢٠٠ ألف أرمني، وأرغمت ٤٠٠ ألف آخرين على التحوّل القسري إلى الاسلام، وأكسبت السلطان عبد الحميد الثاني لقب «السلطان الأحمر». وفي حين ظلّت فرنسا صامتة بشكل فاضح، وضعت التهديدات البريطانية والتدخل الروسي حدًا لهذه المجزرة.

أثناء تدميره أو تحويله ٥٦٨ كنيسة أرمنية إلى مساجد، استمر هذا السلطان بشكل متناقض في اعتبار مسيحيي لبنان ركنًا هامًّا لازدهار بيروت، مدينته الساحلية المفضلة وعاصمة الولاية. وقد تمّ خلع السلطان عبد الحميد الثاني في العام ١٩٠٨ على يد حركة تركيا الفتاة (أو الأتراك الشباب) ذات النزعة العصبية القومية التي بدأت حلقة جديدة من المذابح في العام ١٩٠٩ في كيليكيا، ما أدّى إلى تدخّل القوّات البحرية الفرنسية والإنجليزية والروسية والألمانية والإيطالية وحتى الأميركية.

إسماعيل أنور باشا، وزير الحرب في الإمبراطورية العثمانية/عائلة تتضوّر جوعًا في جبل لبنان (١٩١٥ – ١٩١٨).
الحرب العظمى
لقد وضع اندلاع الحرب العالمية الأولى في العام ١٩١٤ حدًّا للتدخّلات الغربية التي عادةً ما توقف المذابح، وسمح بالتّالي للإمبراطورية بالانتقال إلى المستوى الأعلى، أي إلى الإبادة شبه الكاملة للمِلَل المسيحية. وقد نُفّذ المشروع بقيادة طلعت وأنور باشا في نيسان (أبريل) ١٩١٥، وتم تقديمه في وثائق رسمية كحصار لجبل لبنان بهدف منع الإنزال الفرنسي البريطاني، وكنزوح للسكان الأرمن من المحافظات الشرقية وبهدف منع أي تعاون مع الروس.

في الواقع، كان الهدف يكمن في تحويل الإمبراطورية المتعددة الجنسيات إلى دولة قومية من خلال إزالة الاثنيّات المسيحية. وتبيّن أنّ عمليات نزوح السكان الأرمن كانت عمليات ترحيل قاتلة تُوّجت بذبح الناجين، وأخذت مئات الآلاف من السريان والكلدان والآشوريين في طريقها. وسرعان ما تحوّل حصار جبل لبنان إلى معسكر اعتقال واسع، حيث تمّت مصادرة جميع المكونات اللازمة للبقاء، وفرض عقوبة الإعدام على أيّ محاولة لإيصال المساعدات الإنسانية.

مئات الآلاف من الضحايا
بعد أن كانت تجربة عام ١٨٦٠ بمثابة درس، لم تعد مسألة استخدام السيف واردة في لبنان المرتبط بشكل طبيعي بأوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط. كان من المفترض أن تتمّ الإبادة من خلال المجاعة والأوبئة التي تولّدها، ومن هنا تمّت تسمية الإبادة الجماعية سيفو (سيف) في الجزيرة الفراتية، وكفنو (مجاعة) في جبل لبنان. وبفضل شبكة سرية أنشأها كلّ من القائد ألبرت طرابو من الجيش الفرنسي والأسقف بول عقل من الكنيسة المارونية، تمّ تفادي المسح الكامل لسكّان جبل لبنان.

وفي المجموع، أودت هذه الإبادة الجماعية بحياة أكثر من ٣٥٠ ألف يوناني بُنطي، وحوالي ٧٥٠ ألف شخص من السريان والكلدان والآشوريين، ومليون ونصف أرمني، وأكثر من ٢٢٠ ألف شخص من سكّان جبل لبنان. وبناءً على هذه البيانات، فقدت كل من هذه الشعوب ما يقارب ثلاثة أرباع سكّانها.

والجدير بالذكر أنّ أكثر من ٩٠ بالمائة من الآشوريين الكلدانيين والسريان والأرمن هلكوا في بعض المحافظات. وفي جبل لبنان، تمّ تعداد أكثر من ٢٢٠ ألف ضحية في صفوف سكّان يبلغ عددهم حوالي ٥٥٠ ألفًا. ولكن هنا أيضًا، بسبب الهجرة الناجمة، انخفض عدد السكان بمقدار ثلاثة أرباع. وفي بعض مناطق قضاء البترون، مات أكثر من ٦٠ بالمئة من السكان بسبب المجاعة.

أدلّة دامغة
في ما يتعلّق بالأدلّة على هذه الإبادة الجماعية ضدّ كلّ من الأرمن وسكّان جبل لبنان، فإنّ محفوظات الدبلوماسيين الغربيين والفاتيكانيين دامغة، حتّى ولو استمرّ التعنّت الجبان في الموقف اللبناني في إنكار الأدلة، مختبئًا وراء حكاية جراد مثيرة للاشمئزاز. بينما تفيض الوثائق الموجودة لدى الصليب الأحمر الأميركي، وواشنطن، ووزارة الخارجية الفرنسية بالتفاصيل المدعّمة بالأرقام.

يشكل البريد الدبلوماسي الذي تمّ تبادله في العام ١٩١٦بين أريستيد بريان وسفيرَي فرنسا ديفرانج وباريير، على التوالي في القاهرة وروما، ثروة من المعلومات حول الجوانب الحقيقية لهذه العملية المتعمّدة للتجويع حتى الموت. فقد ضرب الجوع المنطقة بأكملها خلال هذه الحرب، لكن سكّان الجبل المحاصرين والأرمن المرحّلين هم فقط من ماتوا.

أحمد جمال باشا وزير البحرية وقائد الجيش العثماني الرابع/توزيع الخبز من قبل البطريرك الماروني (١٩١٥ – ١٩١٨).

الشهادات
أدان أريستيد بريان بشكل قاطع الإبادة الجماعية للأرمن في رسالته المؤرّخة ٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩١٦ إلى عضو مجلس الشيوخ لويس مارتن. لقد تحدث في هذه الرسالة عن «مشروع وحشيّ لإبادة عرق بأكمله». ونقل المؤرخ نيال فيرغسون تصريحات لمستشار للجيش الألماني مفادها أنّ أنور باشا سبق وصرّح إنه يريد “حل المشكلة اليونانية… بنفس الطريقة التي اعتقد أنّه حلّ بها المشكلة الأرمنية “. ويروي متصرّف جبل لبنان أوهانيس كويومجيان في مذكراته تصريحات جمال باشا الذي قال فيها إنه يريد «حل المشكلة الأرمنية بالسيف والمشكلة اللبنانية بالمجاعة». كما كتب أيضًا أنّ جمال باشا “لم ينظم كما هو الحال … بالنسبة للأرمن، مذابح دموية؛ إنّ أداة التعذيب التي استخدمها كانت المجاعة البشعة “…

لقد وضع الأب سارلوت اللعازري في عينطورة هذه المجاعة «في أعقاب الإبادة الجماعية للأرمن». وأخيرًا، تحتوي المحفوظات اليسوعية في بيروت على وثائق عثمانية تهدّد بإعدام أي شخص يقوم بإيصال المساعدات. إنّ المراسيم المتعلقة بالرقابة والاعتقال للأرمن واللبنانيين لا حصر لها، مثل تلك الصادرة عن محكمة عاليه العسكرية في جبل لبنان، أو محكمة طلعت باشا، المؤرخة ٢٤ نيسان (أبريل) ١٩١٥، والتي أمر فيها باعتقال المثقفين الأرمن، وذكر أنّه سيتم ترحيلهم جميعًا وتجويعهم وإعدامهم. وفي ذلك اليوم، بدأت الإبادة الجماعية التي غيّرت وجه الشرق برمّته.