الكولونيل شربل بركات/مجزرة عين إبل في الذكرى الثالثة بعد المئة

267

مجزرة عين إبل في الذكرى الثالثة بعد المئة
الكولونيل شربل بركات/01 آيار/2023

في الخامس من أيار سنة 1920 قامت عصابات (أو ميليشيات) يوسف العظمة التي تشبه إلى حد ما المليشيات المسلحة في جنوب تركيا والتي سميت يومها “قوات ملي” وكانت نظمت بعد أن وقّعت تركيا اتفاق وقف اطلاق النار الذي مهد لنهاية الحرب العالمية الأولى، قامت هذه العصابات بالهجوم على عين إبل وتنفيذ مجزرة بسكانها راح ضحيتها الشيوخ والنساء والأطفال كما الشبان الذين قاتلوا حتى الاستشهاد.

كانت شروط السلام لانهاء الحرب تضمنت بقاء السلطنة مع اشراف الحلفاء على حرية الملاحة في المضائق بين البحر المتوسط والبحر الأسود وتسريح عدد كبير من الجيش العثماني الذي كان انسحب من الجبهات في اوروبا وبلاد المشرق. وقد قامت حركات رفض لتسريح القوات من قبل الضباط العثمانيين وكلف أتاتورك بالتوجه إلى الآناضول لاقناع هؤلاء الضباط على القبول بالشروط المطلوبة. ولكن على ما يبدو كان هذا الرفض من قبل المتشددين الذين خافوا من فتح ملفات جرائم انسانية قد تؤدي إلى محاكمتهم. وبالفعل فقد حكم على أنور باشا الذي كان وزير الحربية وأحد الثلاثة الذين قادوا السلطنة خلال الحرب، وهم طلعت باشا الصدر الأعظم ووزير الداخلية وجمال باشا وزير البحرية وأنور باشا وزير الحربية وشاركوا بشكل أو بآخر وغيرهم بمجازر “التنظيف العرقي” في جنوب تركيا خاصة مجازر الأرمن واليونانيين في كيليكيا والآشوريين والسريان في ديار بكر. وحكمت المحكمة على أنور باشا بالاعدام للتسبب بالحرب وسوء التصرف ما دفعه إلى الفرار واللجوء إلى ألمانيا.

وقد كان جمال باشا الذي لقبه اللبنانيون بالسفّاح هو من فرض الحصار التمويني على متصرفية جبل لبنان بعد أن حل مجلس الادارة فيها وألغى القوانين المتعلقة بها ومفاعيلها ما تسبب بالمجاعة التي أدت لمقتل حوالي 200 ألف من اللبنانيين يشكلون ثلث السكان وهجرة الثلث الآخر.

في محاولته ضبط الوضع بين العسكريين، خاصة بعد أن قام بعض الضباط بتوزيع السلاح على المدنيين في جنوب تركيا وحثهم على القتال للحفاظ على مكتسباتهم، سيما وأن بعض هؤلاء كان نقل إلى هذه المنطقة بعد عمليات الابادة وأعطي أراضي وبيوت المهجرين، ولم يكن قد مر بعد على عمليات القتل الجماعية تلك التي أدت إلى التهجير أكثر من خمس سنوات، ما أظهر المصلحة المشتركة للضباط الخائفين من تسريح الجيش وملاحقتهم، وبعض الأهالي الذين شاركوا بشكل أو بآخر في التوطين والاستيلاء على حقوق المهجرين، كانت مهمة أتاتورك صعبة . وقد زاد من صعوبتها دخول القوات اليونانية إلى المناطق التي يسكنها يونانيون بقصد حماية السكان خاصة ازمير التي تعتبر أكبر مدينة يونانية في آسيا الصغرى.

في هذه الأجواء عاش يوسف العظمة وغيره من الضباط العثمانيين الذين التحقوا بقوات فيصل بعد سقوط دمشق وانسحاب القوات العثمانية. ويوسف العظمة هو تركماني سوري كان من الضباط القادة المهمين في الجيش العثماني وقد شارك في معارك البلقان وقاد الفرقة الخامسة والعشرين ومن ثم أصبح مساعدا لوزير الحربية أنور باشا المذكور أعلاه وقد يكون له علاقة بالمجازر التي حصلت في جنوب تركيا ومن هنا خوفه من أن يؤدي الاستقرار إلى ملاحقته شخصيا كما حصل مع رئيسه المباشر أنور باشا.

صحيح أن لفرنسا وبريطانيا العظمى مصالح، خاصة وأنهما دفعتا الحصة الكبرى من خسائر الحرب، ولكنهما لم تحملا في خلفيتهما السياسية بذور التفرقة الدينية. فقد كانت الدول الاوروبية التي توسع انتشارها في كافة اقطار العالم قبل الحرب العالمية الأولى بسبب امتلاكها لقدرات تقنية، وبنفس الوقت وسع الافكار الانسانية التي استندت إلى قوانين نتجت عن معاناة المجتمعات المتعددة الثقافات فعرفت كيف تستوعب مشاكلها وبالتالي تمنع تقاتلها لا بل توجه قواها نحو التنافس على تحسين أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية وتعاونها، ما جعلها بغنى عن استعمال الحقد الديني أو المذهبي الذي نمى ولا يزال ينمو مع الحركات الدينية في المجتمعات المتخلفة من حولنا، ولو بعد مئة سنة على تلك الأحداث. وما يحاول بعض الباحثين في التاريخ وأسباب المجازر في تلك المرحلة لصقه بما يسمونه الاستعمار لكي يستوعبوا الدوافع الكامنة خلف هذا الحقد الذي انتج هكذا مجازر يبعد بعض الشيء عن الواقع.

إذا ما درسنا تلك المرحلة بكل جوانبها نجد بأن من دفع بعض العصابات لمهاجمة عين إبل ومن نظم مؤتمر وادي الحجير تحت اسم الزعيم الشيعي كامل بيك الأسعد بدون علمه أو مشاركته، ومن قبل بقيادة محمود الفاعور زعيم عرب الفضل في الجولان بدون أن يسأل عن زعامة الوائليين المتجزرة في الدفاع عن جبل عامل طيلة مئتي سنة، يقصّر لا بل يخطئ في توجيهه للبحث. يجب أن يتساءل الباحثون لماذا ذهب السيد عبد الحسين شرف الدين الذي القى خطبته الرنانة في مؤتمر وادي الحجير مباشرة ألى دمشق؟ اليس ليقدم تقريره إلى من كلفه بذلك؟ وهي الدلالة على التخطيط.

من جهة أخرى يجب العلم بأن كامل بيك الأسعد كان مجتمعا مع الكولونيل نيجر في النبطية لتنظيم حرس مدني بالتنسيق مع الفرنسيين لوقف أعمال هذه العصابات، وقد تم تنفيذ مجزرة عين إبل في نفس يوم الاجتماع أي الخامس من ايار 1920 لمنع نجاح هذه العملية. وهذا وحده دليل قاطع على مسؤولية يوسف العظمة وجهازه عنها. صحيح بأن الاتهام وجه للأسعد على مسؤوليته المعنوية، ولكنه بدون شك لم يكن يرغب بالسير بركب يوسف العظمة ولا قبل بأوامره، لا بل قد يكون تخطيط الأخير موجها ضد زعامة الأسعد الشاملة لكافة أطياف المجتمع في جنوب لبنان حيث ساهم المسيحيون كما الشيعة باستمرار هذه الزعامة. ولم يكن هناك تنافرا بين سكان القرى الشيعية والمسيحية قبل تلك الأحداث.

وبالرغم من اشتراك بعض أبناء المنطقة المغرر بهم بالهجوم على عين إبل فإن الجو العام عاد إلى الهدوء بعد الحادثة. ولكن اعتبار يوسف العظمة شهيدا مناضلا ترك أثره في نفوس السوريين ما تسبب بأحداث 1925 واستمرار التعبئة ضد الفرنسيين، حتى بعد قيام لبنان الكبير والاستقرار الذي رافقه. إلا أننا نجد ردة فعل زعيم بنت جبيل الحاج محمد سعيد بزي على نهج الكراهية الذي عاد إلى الظهور في 1936 (والذي تحرك بعد المطالبة باعادة توحيد الدويلات السورية حلب ودمشق وجبل الدروز وبلاد العلويين) بأن غادر بنت جبيل وسكن في عين إبل اعتراضا على ما كان بعض الحالمين بالانضمام إلى دمشق يحاولون الترويج له. وقد استقبل بحفاوة في البلدة وبقي فيها إلى أن تحركت الوفود من كافة أرجاء المنطقة وعلى رأسها السيد عبد الحسين شرف الدين نفسه لوقف هذا النوع من التعبئة، فعاد إلى بيته مواكبا من الأهالي.

إن ما حدث في عين إبل في الخامس من أيار سنة 1920 أساء إلى العلاقات الطبيعية بين مركبات المجتمع الجنوبي، ولكنه لم يكن من ضمن أخلاقيات أبناء المنطقة. ويوم حاول البعض إعطاء قيمة لصادق حمزة وأدهم خنجر على أنهما يمثلان الشيعة، أساءوا إلى الطائفة الشيعية مرة أخرى كون هؤلاء وأمثالهم لم يكونوا يوما قادة فكر أو منظورين في الجماعة. وقد يكونوا عملوا مع تنظيم مخابراتي عثماني قبل الحرب (تشكيلات محسوسة) أو قاموا بأعمال خارجة عن القانون ما دفعهم إلى الالتحاق بقوات الفاعور من أجل التلطي وحماية أنفسهم فساهموا بالتفرقة بين المواطنين كمقدمة لسيطرة خط أنور باشا ويوسف العظمة على الفكر السياسي في بلاد الشام، والذي ساهم ولا يزال بتفشي أمراض الحقد التي نعاني منها حتى اليوم. وهو أيضا ما كان حصل في جنوب تركيا ودفع بالنهاية أتاتورك لفرض العلمانية على الدولة التركية الحديثة والتي بقيت حتى أردوغان وساهمت بمنع المشاكل الداخلية فيها.

وحتى الأحداث التي جرت في العراق كانت من ضمن نفس السياق وقد انطلقت ما سمي بالثورة بنفس الفترة أي في أيار 1920 ما اضطر بريطانيا لاستقدام قوة من الهند لوقف التدهور. من جهة أخرى فقد أعطت بريطانيا لأبناء الشريف حسين مملكة شرق الأردن (الملك عبدالله) ومن ثم، وحتى بعد فشل فيصل في الشام بسبب خطط يوسف العظمة، أعادته ملكا على العراق، لا بل كان العراق أول دولة في المنطقة تنال الاستقلال سنة 1932 وذلك كأشارة بأنها لا تنسى من وقف معها. ولكن الفكر الديني والمتحجر، اضافة إلى الفكر اليساري الذي تأثر بالشيوعية في روسيا ورافق أغلب “المثقفين” فيما بعد خاصة في الفترة الناصرية، ساهما بوضع كل المساوئ على من اسموها دول الاستعمار وهي الدول التي حاولت تعليم المواطنين على ادارة البلاد والتخطيط لمزيد من الانتاج لا السيطرة بواسطة القوة على ما ينتجه الآخرون والتمتع به، وهي طريقة لا زالت معتمدة عند الكثير من الشعوب المتخلفة.

في هذه المناسبة أي الذكرة الثالثة بعد المئة لمجزرة عين إبل ندعوا الباحثين في التاريخ للنظر بهذه الأمور التي طرحناها لكي يتعمقوا أكثر بالموضوع ويفتشوا عن الوثائق التي تدعم هذا الطرح أو تنفيه لا الاستمرار باجترار مقولة الاستعمار والامبريالية اللتين ساهمتا بتأخر هذه الدول وتوقفها عن التقدم لا بل استعادة التقاتل والاستئثار بالسلطة كدافع للتزعم ومنع أي كان من المنافسة الطبيعية.