نديم البستاني: إلغاء الطائفية السياسية وخطر الإبادة الجماعية في لبنان …  نهج إلغاء الطائفية السياسية هو في باطنيته الحقيقية، مسعى لتغليب الأكثرية العددية الطائفية

146

إلغاء الطائفية السياسية وخطر الإبادة الجماعية في لبنان …  نهج إلغاء الطائفية السياسية هو في باطنيته الحقيقية، مسعى لتغليب الأكثرية العددية الطائفية

نديم البستاني/نداء الوطن/17 كانون الثاني 2023

“من أجل الذين يريدون إبادتنا ومن أجل الذين أكلتهم سماك البحر ومزّقتهم الطيور الكاسرة ومن أجل القاطنين في المغاور ومن أجل الذين يبغضوننا ويريدون إبادتنا نصلي” – بهذه الصلاة الواردة في نافور مار مرقس كان المسيحيون من أبناء بلدة الدامور ينتظرون الموت القادم إليهم في كانون الثاني من العام 1976 على أيدي المقاتلين الفلسطينيين والسوريين وسائر ميليشيات الحركة الوطنية المكونة من اللبنانيين.

بخلاف الخطاب الرائج في لبنان الذي يحاول قصر القيم السامية التي توصلت لها البشرية فقط على مجال حماية حقوق الأفراد بشكل حصري، فإن حقوق الجماعات هي من الركائز الأساسية لحقوق الإنسان ومن مداميك القانون الدولي. فالثابت في تاريخ البشرية عبر كل العصور هو ارتكاب الإبادات الجماعية وليس العكس، بحسب ما نصت عليه ديباجة “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”. حيث باتت هذه الاتفاقية بالذات أحد أهم السبل لتجسيد إرادة المجتمع الدولي بغية حماية حقوق الجماعات، وقد أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 9/12/1948 بموجب القرار A/RES/260(III)، وذلك توازناً مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المقرّ في اليوم التالي والذي خصص إلى حماية حقوق الأفراد.

لا يجب أن يخدعنا السلام المزيف الذي يعيشه اللبنانيون بعد انتهاء الحرب العسكرية عقب إرساء اتفاق الطائف في العام 1990، إذ أنه ليس من شأنه تشكيل أية ضمانة تمنع ارتكاب الإبادات الجماعية ولا سيما أن المادة الأولى من الاتفاقية الدولية تنص على أن الإبادات الجماعية يمكن أن ترتكب في أوقات الحرب كما في أوقات السلم. وبناء عليه يضحى أي عمل منصب في هذا المنحى عرضة للمساءلة حتى لو كان حاصلاً في إطار السلم. وهناك منحى رائج يتوخى إشاحة النظر عن مركزية قضية التعددية الطائفية بالنسبة للمسألة اللبنانية، عبر الزعم كون لبنان يعاني من إشكاليات إدارة التعددية والتنوع في مختلف أشكالها سواء كان حزبية أو ثقافية أو تربوية أو رياضية أو مناطقية أو فنية أو جندرية إلى جانب التعددية القائمة على أساس الانتماء الطائفي، بحيث لا يجب إيلاء الاهتمام لهذا النمط الأخير على حساب الأنماط الباقية. وبذلك يكون قد تم تمييع الهم الرئيسي الذي يتمحور حول حماية الهوية الطائفية، بما يخالف ما أجمعت عليه البشرية كون الجماعات الأكثر تهديداً واستهدافاً على أساس الهوية على مرّ التاريخ وبالتالي الأجدر بالحماية تحصر فقط بأربعة وهي الجماعات الوطنية، والجماعات الإثنية، والجماعات العرقية، والجماعات الدينية بحيث قد نصت المادة الثانية من الاتفاقية أن أي عمل يطال هذه الجماعات بقصد تدميرها كلياً أو جزئياً بصفتها هذه أي بصفتها كجماعات تحمل إحدى هذه الهويات المحددة حصراً، يعتبر من أفعال الإبادة الجماعية. فكيف بالحري أننا في لبنان كل تاريخنا قائم على الصراع الطائفي، المسبوغ بالمنحى الدموي في الكثير من أوقاته.

أما وقد انتهى هذا البعض من مقاربته، وهو الذي يقارب بخجل مسألة حقيقة التكوين الطائفي للشعب اللبناني. يأتي فريق آخر أكثر ضراوة وإيديولوجية فيقيم الحدّ الفاصل بين الانتماء الوطني والانتماء الطائفي، معلناً التعارض فيما بينهما وأن الواحد لا يمكنه أن يقوم إلا على حساب الآخر. في حين بمراجعة القرارات الصادرة عن المحاكم الجنائية الدولية، يتبين المرء مدى هشاشة هذه المقاربات إذ اعتبرت المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا ICTY في أحكام متعددة كون الإبادات الحاصلة في يوغسلافيا بأنها كانت قائمة على أساس الهوية الوطنية للجماعة المستهدفة بالتزامن أيضاً مع طبيعتها كجماعة دينية، ما يستتبع أحقية الحماية لهاتين الهويتين بشكل مشترك ودون مفاضلة أو تمييز فيما بينهما IT-98-33-T, para. 559)). فالجماعات الدينية، هي الجماعات التي تنشأ هويتها بفعل العامل الديني المشترك فيما بين أعضائها وتكون مشمولة بالحماية حتى لو كانت تتشارك بالمزايا الوطنية والحضارية واللغوية مع محيطها.

على نقيض للنظريات الرائجة التي تحاول إنكار حقيقة قيام الهويات الطوائفية في لبنان، ناعتة إياها بكونها لا تتناسب مع المعايير العلمية التي تحكم نشوء الحضارات، أو بكون الشعب المنتمي إلى طائفة معينة يفتقد للأدلة الجينية التي تثبت مزاياه المشتركة، وما قد يصل إلى حدّ نعت الهويات الطائفية بكونها هواجس متخيلة سياسياً، أو بكونها من صنيعة الاستعمار وقد عفى التاريخ على ظروف نشأتها، فإنه بحسب تقرير بعثة دارفور في العام 2005 (Report of the Darfur Commission n. 557, para. 499)، وقرار الدائرة الابتدائية للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا في قصية روتاغاندا (ICTR-96-3-T, para. 56) وقد أيد ذلك معظم علماء القانون الدولي، يتجلى بوضوح كون آليات العدالة الدولية تنحو للتأكيد على أن الهوية لا تتطلب المعيار الموضوعي البحت والمعايير الجامدة من أجل الاعتراف بها، بل يكفي من أجل قيامها الاستناد على المعيار الشخصي، على أن تكون هذه الهوية قابلة للتحديد والبروز في الإطار الملموس. بحيث يعول على نظرة المرتكِب باعتبار جماعة ما بكونها تتمتع بهوية محددة من الجماعات المذكورة وتعامله معها الجرمي على هذا الأساس حتى يتم شمولها بالحماية. وكذلك يؤخذ بنظرة الجماعة لنفسها على أنها تشكل هوية ذات مزايا مشتركة وعيشها في حياتها اليومية على هذا الأساس وتعاطيها مع الآخرين من هذا المنطلق حتى يتم شمولها بالحماية. وهنا يبرز المثل البارز حول شعب “الهوتو” وشعب “التوتسي” إذ أنه لا معيار علمي موضوعي للتفريق بينهما وخاصة لا معيار عرقي، كما هو شائع خطأ، بل المسألة تعود للمستعمر البلجيكي الذي قسم المجتمع في رواندا على أساس طبقي وظائفي بين الهوتو المزارعين والتوتسي مربي المواشي، وأصدر بطاقات الهوية على هذا الأساس. (حدثت الإبادة من قبل المرتكبين التابعين لشعب الهوتو ضد شعب التوتسي، في غضون مئة يوم بين شهري نيسان وتموز 1994، وذهب ضحيتها حوالي 800,000 قتيل).

بعدما حطت الحرب الأهلية رحالها، فشل اللبنانيون في بناء السلام في ظل اعتناق ثقافة الإقصاء والشمولية وعدم القبول الصادق بالتعددية سوى على مستوى الصياغات اللفظية الإنشائية، فدخل لبنان حقبة الإبادة الثقافية التي تناوب على ممارستها الجماعة/ات المهيمنة بحق الآخرين، بحيث أن هذا النهج يطرح تحت مجهر التجريم الدولي في حال كان من الأعمال الممهدة لتحقيق الإنهاء البيولوجي للجماعة المنتهكة وحتى لو لم ينتج عنه الإنهاء المادي بشكل فوري.

فإن التدمير قد يكون كلياً أو جزئياً (المادة 2 من إتفاقية الإبادة الجماعية)، ما يعني أنه لا ينبغي بالضرورة أن يطال كل فرد من أفراد الجماعة بل يمكن الاكتفاء بالتعدي الحاصل على جزء محدد على شرط أن يكون واسع النطاق وذات تأثير على بقاء سائر الجماعة. وقد رفضت المحاكم الجنائية الدولية وضع معيار محدد لتعداد الضحايا ينبغي الوصول إليه من أجل القول بوقوع الإبادة الجماعية. وفي المرحلة الأخيرة من عمر لبنان وتحديداً ما بعد العام 2005، ودون تبرئة للحقبات السابقة، أخذ خطاب منهجي يسيطر على الإعلام والثقافة السياسية قوامه الاتهام بالخيانة والعمالة والطائفية (بمنحاها السلبي العنصري – تحريفاً عن مفهومها الهوياتي) وقد تم إلصاق هذه التهم المعلبة بجماعة محددة، بحيث بات هذا الخطاب يتخطى المضامين السياسية والثقافية على خطورتها ليبلغ حدّ التحريض الجنائي على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، إن تم مزجه مع روح الفوقية وممارسة العنف، ونزق التسلح، وتسييب السلطة، وتدمير حكم القانون. فالتحريض الجنائي على ارتكاب الإبادة الجماعية، هو جرم يتحقق لذاته وحتى لو لم تعقبه أية أفعال مادية على أرض الواقع، أي حتى لو لم ترق ولا أية قطرة دم واحدة (المادة 3 من الاتفاقية). فإن كان لا يؤخذ على مجرد خطابات الكراهية غير المنهجية أو بعض التصريحات العنصرية أو غيرها من الأعمال الانفعالية أو التحقيرية، فالتحريض الجنائي لا يستلزم أن يكون واضحاً بحيث يمكن أن يتوخى الأساليب الضمنية كما لو تم قصد الجماعة دون تسميتها. لكن بجميع الأحوال يجب أن يكون مباشراً وعلنياً، ودافعاً بشكل جدي على ارتكاب الأفعال الجرمية مع توافر النية على تدمير الجماعة. ومن الأمثلة الشهيرة ما جرى خلال أحداث رواندا حيث تمت إدانة أهل الإعلام لمجرد تسخيرهم المذياع والجريدة كأداة فعالة للتحريض على المجازر ولتوجيه المقاتلين وإرشادهم على أماكن تواجد الضحايا.

وإزاء الوضع المقلق الذي يعيشه لبنان، نطرح إصلاحات ثلاثة، الأول والثاني على المستوى القانوني-القضائي وأما الثالث فهو على المستوى السياسي، لعلّ ذلك يؤمن بعض الضمانات للجماعات المهددة ويكون جزءاً من الحماية المطلوبة في مواجهة خطر الإبادة الجماعية.

أولاً، تعديل المنظومة التشريعية اللبنانية بغية السماح للقضاء اللبناني بالتصدي لجرائم الإبادات الجماعية وملاحقة مرتكبيها، وكما بغية تخويل المحاكم من التحرر ومن التكبيل الخبيث الذي يفرض عليها ويمنعها من تطبيق سائر الاتفاقيات الدولية التي تحفظ حقوق الإنسان متى تعارضت مع التشريع المحلي. فهذا الإصلاح يجد سبيله عبر تعديل قانون العقوبات (م.إ 340/1943) ليتواءم مع نصوص الاتفاقية الدولية فتضحى الإبادة الجماعية جريمة مستقلة قائمة بذاتها ضمن الشريعة الجزائية اللبنانية، خاضعة لاختصاص المحاكم المحلية إنفاذاً لموجب التعديل المفروض على الدول الموقعة ومن بينها لبنان بحسب ما تنص عليه المادة 5 من اتفاقية الإبادة. وعلى صعيد أعم بتوجب تعديل المادة 18 من قانون إنشاء المجلس الدستوري (قانون رقم 250/1993)، التي يصح توصيفها بـ”المادة السرطانية” بحيث أنها منعت على المحاكم اللبنانية تطبيق نصوص الاتفاقيات الدولية عند اختلافها عن التشريع الداخلي، وحصرت هذه الصلاحية بيد المجلس الدستوري، وذلك من باب تعطيلها.

ثانياً، انضمام لبنان إلى المحكمة الجنائية الدولية المنشأة منذ 1 تموز 2002، بموجب نظام روما الصادر سنة 1998 على أثر اجتماع معقود من قبل الأمم المتحدة بهذا الصدد. واليوم ينضم إليها حالياً 123 دولة. وهي تمتلك صلاحية دولية لمحاكمة جريمة الإبادة الجماعية، والجرائم بحق الإنسانية، وجرائم الحرب، وجريمة العدوان. بحيث يؤمل أن توفر هذه المحكمة، القائمة بذاتها والمستقلة تماماً عن الدول وذات التمويل الذاتي، بعضاً من الحماية للبنانيين أفراداً وجماعات وهم القابعين تحت سطوة الإجرام والترهيب والمنتهكين في أدنى تفاصيل حقوقهم الأساسية، وكما لعلها تشكل بالمقابل بعضاً من الرادع للأطراف المنفلشة على الأراضي اللبنانية والتي لا تتورع عن الإمعان في ارتكاب أبشع جرائم القانون الدولي.

ثالثاً، التحذير من خطورة الخطاب الداعي لإلغاء الطائفية السياسية، إذ أنه في الوضعية اللبنانية ليس مطلباً إصلاحياً بقدر ما هو من الأعمال الممهدة لجريمة الإبادة الجماعية. فالطائفية السياسية هي في الأساس نوع من الضمانات الدستورية والسياسية في النظام اللبناني بغية حماية المجموعات عبر حفظ دورها في الدولة وحصصها في الحكم والسلطة وحقها في إعلان هويتها وبلورتها في كافة شؤون المجتمع.

إن نهج إلغاء الطائفية السياسية هو في باطنيته الحقيقية، مسعى لتغليب الأكثرية العددية الطائفية في جوهرها والإتاحة لها تحكمها برقاب الآخرين وممارسة التمييز والإقصاء والتخضيع والتهميش بحقهم وصولاً إلى طمس الخصوصية المجتمعية للهويات الطائفية بذريعة عدم وجوب الحديث إلا عن الهوية الوطنية، بحيث يتم تحويل المواطنة من قيمة تفرض المساواة إلى أداة لتغليب الأكثرية الفئوية وإعطائها رخصة لممارسة الطغيان بحق الأقلية. وبذلك يتم إخراج الطوائف المهددة من دائرة الجماعات المحمية بموجب القانون الدولي، وينقلب إذاك التعدي عليها ليتحول على أنه شأن من الشؤون الداخلية أو إحدى أشكال الصراعات السياسية.