المحامي عبد الحميد الأحدب/ثورة تشرين: الجبل الذي تمخَّضَ فوَلَدَ فأراً، ولكن الثورة الحقيقية آتية مع الحساب والمشانق، ثورة فيها حساب وفيها مشانق، إذ ذاك نقول تمخَّض الجبل جبلاً أكبر منه ناصع البياض

71

ثورة تشرين: الجبل الذي تمخَّضَ فوَلَدَ فأراً
لكن الثورة آتية لا ريب فيها، ثورة فيها حساب وفيها مشانق، إذ ذاك نقول تمخَّض الجبل جبلاً أكبر منه ناصع البياض.

المحامي عبد الحميد الأحدب/18 تشرين الأول/2022

يقول الرئيس صائب سلام (رحمه الله) في مذكراته عن (الرئيس) ميشال عون: “الجنرال “عون” من أول يوم استلم سمّيتُه رجلاً سلطوياً يبغي غير شخصية، ويبغي ان يكون رئيساً بالإنتخاب او رئيساً بالحراب لا مانع، رئيساً لكنه يبقى رئيساً سلطويّ الشخصية متنفّذاً لم يتورّع عن شيء. وهنا نأتي الى القول عن “عون”، وإني لآسف كيف أن بعض السذج او المضلَّلين انساقوا وراءه. ننتقل الى موضوع آخر الآن، قال إنه يريد أن يحمي المسيحيين ويحمي ويدافع عن الحضارة المسيحية، اين هم المسيحيون؟ قتل الألوف، أصاب عشرات الألوف، هجّر مئات الألوف، هدّم البيوت، خرّب الأسس الإجتماعية والإقتصادية جميعاً، هل هذا دفاع عن المسيحية؟”. وكان العميد ريمون اده خلال اقامته الطويلة في فرنسا، يرفض باستمرار استقبال ميشال عون رغم إلحاح اصدقائه واصدقاء العميد، ويقولون للعميد: لماذا يا عميد، أليس بطلاً وطنياً؟ فكان العميد يجيب عن عون: لا بطل ولا وطني… “لعّيب حبال”، هو يشتم السوريين وبنفس الوقت يفاوضهم! وانا متأكد من ذلك. واذا وصل “لعيب الحبال” الى الرئاسة، فالويل الويل للبنان!

وكانت المحطة الكبيرة في انتخابات ميشال عون لرئاسة الجمهورية، الخلاف الذي وقع بين سعد الحريري وفؤاد السنيورة حول عزم الحريري على انتخابه مع 19 نائباً من كتلته، وكان فؤاد السنيورة بعقله واتزانه يشرح لسعد الحريري مخاطر وصول هذا الرجل الى الرئاسة بضغط من حزب الله الذي عطّل انتخاب الرئاسة سنتين ونصف، وكان السنيورة يشرح للحريري مخاطر اتصالات عون ولاسيما اتفاق “مار مخايل” وما يشكله ذلك من تحضير لوضع الدولة في خدمة حزب الله، وكان المستشارون المثقفون الطاهرون كلهم من رأي السنيورة، الا ان الحريري تشبث مدعوماً من نادر الحريري بانتخاب ميشال عون للرئاسة وسط استغراب الجميع. وقال له وقتها السنيورة: “ستندم، وندم الحريري ولو متأخراً”.

ست سنوات مضت على ميشال عون وهو في بعبدا، هو يودّع القصر، والبلد منهار انهياراً كاملاً على كل صعيد: حطّم كل مؤسسات وأجهزة الدولة، وجعل القضاء سياسة، لا شيء غير السياسة، وأدخل 31 الف من انصاره موظفين بالدولة لا عمل لهم ولا مكان لهم في الوزارات، فكانوا يبقون في بيوتهم ويتقاضون رواتب اضعاف رواتب الموظفين الذين كانوا يعملون وبقوا يعملون كل النهار! ووضع قانون انتخاب، هو سيء بالطبع، ولكنه يضمن له وصول انصاره الى المجلس النيابي بأقلية الأصوات، وعطل التحقيق في انفجار المرفأ، وأسقط قيمة العملة، وأفرغ خزينة الدولة على المشاريع الوهمية، و… و… والأهم الأهم انه تنازل عن الرئاسة لصهره جبران باسيل الذي أصبح اقوى من رئيس الجمهورية!

مرة ثانية اعترفت مديرة صندوق النقد الدولي د. كريستالينا غورغييفا بأن محادثات الصندوق مع لبنان لا زالت معلقة، مطالبة السياسيين وضع بلادهم وشعبهم في المقام الأول، مؤكدة ان الصندوق لا يستطيع ان يفعل شيئاً قبل تنفيذ لبنان لتعهداته. المعنى واضح لدى المديرة وهو مكرر الى حد كبير، ويشبه التحذيرات التي يرددها مسؤولو الصناديق العربية والدولية المهتمة بإقراض لبنان شرط إظهاره القدرة على تسديد الدين لاحقاً. غورغييفا تقول ان السياسيين اللبنانيين وحلفائهم المصرفيين والرأسماليين يضعون مصالحهم الذاتية في المكان الأول والثاني والثالث ولا يهمهم اطلاقاً مصالح لبنان وشعبه، خاصة ان المناشدة للتصحيح والإصلاح لم تجد نفعاً بل ذهبت ادراج الرياح مثلها مثل وعود السياسيين الكاذبة بالإنقاذ والإزدهار. هذه باختصار ادانة واضحة من المرجع الدولي المختص الذي يتطلع اليه السياسيون لمساعدتهم على قهر شعبهم واستيعاب الوضع الكارثي الذي أوصلوا البلد اليه بالتعاون مع المصارف الشاردة وحاكمها “الملهم” الذي يصر حتى اليوم ان الليرة بخير وأن الودائع بخير وكأنه يتكلم من المريخ عن حاله وحال شركائه متجاهلاً حال اللبنانيين الذين رماهم في غياهب العوز والقهر والفقر .

وبدا لبنان منذ 17 تشرين لمعظم الناس صراعاً بين الخير والشر، بين الوصاية والسيادة، بين الحرية واعداء الحرية، بين الديمقراطية والفاشية.
واندلعت ثورة تشرين ايام حكم عون منذ ثلاث سنوات! ونزل فيها الشعب بالملايين الى الساحات. ولكن في الاحتفال بذكراها منذ ايام كان المحتفلون اقل من العشرات. ولا بد هنا من وقفة امام ما كتبه منذ ايام في النهار عقل العويط في فلسفة شعرية عن ثورة تشرين: “17 تشرين والوصايا العشر”، ما كتبه عقل العويط للتاريخ، بل التاريخ الجميل المرصع بالبياض، ولكن اين نحن من ثورة تشرين؟ وكيف ينطفئ نور ثورة كثورة تشرين، نور من طينة الثورة الفرنسية والثورة الروسية والثورات التي غيرت مجرى التاريخ! فأين أصبحت، المنظر المذل لأقل من العشرات الذين احتفلوا بها منذ ايام، يقول اين انتهت وكيف انتهت؟

يقول عقل العويط:
“ما 17 تشرين؟
17 تشرين ليس صنماً ليس معبوداً ليس إلهاً ليس حزباً ليس يوماً ليس تاريخاً ليس موعداً في الجغرافيا في المكان. لحظة هو فحسب، لحظة خارقة فقط وحسب، خارج الوقت خارج المكان خارج الزمان. كمثل تأجّج النبع في الأرض وعدم تحمل البقاء في حلكة الأرض. كمثل ولادة البركان بعد طول مخاض، كمثل الخروج على منطق الليل والنهار، على منطق العمر، على منطق السكة، كمثل انزياح القلب الى العقل وبقائه فيه، كمثل انزياح العقل الى القلب وتعمشقه به، كمثل لحظة البرق، كمثل لحظة الصعق، كمثل النظرة النسائية القاتلة، كمثل الجوع المفترس، كمثل الشبق الجامح، كمثل تسلّق الصخور، كمثل الإنهيار الثلجي، كمثل وصول لحظة الشهوة الى مبتغاها الإنتشائي المحيي المميت، كمثل كل تصعيد فائق القدرة على الإحتمال، على البقاء والإستمرار في الوقت في المكان.

17 تشرين لحظة في العقل الممتاز. كمثل شيء يكون فحسب، خارج الماضي خارج الحاضر خارج كل وقت ومكان.
تذكّروا: كمثل 14 آذار، فوق الجميع ابعد من الجميع، من متناول الأيدي، من تقبّل “المساكنة” و”التعايش” و”الزواج” والزعبرة والإكراه و… المصادرة.
تذكروا عكسياً: كمثل الرابع من آب، كمثل الساعة السادسة وسبع دقائق من الرابع من آب، حيث لا قبل لا بعد. كوقت خارج الوقت.
وتذكروا: 17 تشرين لا ابا له ولا أم. ولد بذاته. وسيظل. سيظل يولد باستمرار.

ثم اخيراً- لا آخراً- تذكروا واتّعظوا وتواضعوا: 17 تشرين لا ينام على حرير، ولا في سرير، ولا – خصوصاً- يطيق ان يضعه أحد تحت إبطه، ويأخذه معه الى بيته. 17 تشرين بيته أكثر من المنازل والبيوت، وأوسع، وأرحب. سيد حر مستقل. عقله العقل، قلبه القلب، وسقفه أعلى. أعلى من كل حد وانتماء وسماء. 17 لحظة هو في دولة الحرية. دولة العقل والحرية”.

ثم يقول عقل العويط عن الوصايا: الأطفال، النساء، المدن، الفلاسفة، الشعراء ثم الروائيون، الخلاّقين المفكّرين والمثقّفين والرسّامين والنحّاتين والمسرحيين والفنانين ويختم بدعوة: “الأحرار الثوّار (المواطنات والمواطنون حصراً وطبعاً وكلاّ): كما تفعل منارة في الزمهرير في الحلكة وفي الأوقات الصعبة، وبلا حساب. فلا تثقوا بعهد ولا بوعدٍ ولا برئيسٍ ولا بنائبٍ أو بوزير، ولا تناموا على وهم بوصلة، ولا على ضغث ضوء، ولا على حرير شيء أو أحد، ولا ايضاً على سرير، بل كونوا الجوهر، مغناطيس لبنان، وفكّوا قيود ذلّه وأسره، وحرّروه من عصابات سرّاقهِ وطغاته، واجعلوه ملحاً طيّباً، وملّكوه كيانه فيكون الدولة، ويكون الدستور، ويكون يكون الطفل، ويكون الجبل والسهل وهلم، ويكون الحريّة والعقل، فيكون السيّد الحرّ المستقلّ..”.
ولكن أين هي الثورة؟

تمخَّض الجبل فولد فأراً! فمقال عقل عويط ثورة، ثورة بكل معنى الثورة! والثورات لا تنطفئ! “والتغييريين” ليسوا أبناء الثورة بل أبناء حديقة الأطفال، أبناء الوَلْدَنة! ليسوا من معدن الثورة! شارل ديغول ظهر في فرنسا التي كانت ممزقّة منقسمة منهارة، فحقّق ثورة وأعادها إلى أصلها! دولة حقوق الإنسان! والحرية والعدالة! ونجح. 17 تشرين كانت جبلاً، هذا الذي كتب عنه عقل عويط، ولكن البلد المقسّم إلى طوائف ليس فيه وطنية بل مذهبية. وستأتي ثورة الجبل الذي ينشئ وطناً على أنقاض نفايات الإنتماءات المذهبية. وإذا كانت ثورة تشرين جبلاً تمخَّض عن فأر، فإنّ عجلة التاريخ لا تقف، ومعدن ثورة تشرين يؤكد أنّ الجبل سيعود وينهض بشموخ وعزّة وحرية ووطنية، وأنه لا بد أن يعلّق المشانق.

ثورة تشرين مضت عليها ثلاث سنوات ولم تحاسِب أحداً ولا علّقت مشنقة. كل ما أنجبته ثورة تشرين هو جبران باسيل والتغييريين والمزيد من المذهبية والمزيد من الإنهيار والفساد! الثورة آتية لا ريب فيها، ثورة فيها حساب وفيها مشانق، إذ ذاك نقول تمخَّض الجبل جبلاً أكبر منه ناصع البياض.
واليوم آت.. آت.. لا محالة.