الكولونيل شربل بركات/نقاط المواجهة السعودية الإيرانية

135

نقاط المواجهة السعودية الإيرانية
الكولونيل شربل بركات/29 حزيران/2022

التكهنات اليوم تدور كلها حول ما تقوم به إيران من عناصر التطويق في حربها المعلنة على دول الخليج وخاصة السعودية والامارات التي تقف علنا إلى جانبها. فالنظام الإيراني الذي تبنى تصدير الثورة إلى المحيط راى في السعودية، الجار الأكثر ثراء من حوله والذي يديره نظام معتدل من ناحية الأطماع الخارجية، هدفا اساسيا يثير اللعاب من نواحي عدة؛ فامتلاك أكبر احتياطي للنفط في العالم على مرمى حجر من سيطرته يعد الأول من الأهداف إذا كان هذا النظام يعتمد القوة والتمدد كعنصر رئيسي في استراتيجيته. والسيطرة على الدول الصغيرة مثل الكويت والبحرين وقطر والامارات وحتى عمان، وكلها دول منتجة للنفط، يتم بسهولة إذا ما رضخت السعودية للتهديد. وإذ كان العراق دولة قوية على حدوده المباشرة، وهي أيضا دولة نفطية، قامت الحرب الأولى ضدها وكانت ضارية ومكلفة، اضطر بعد كل الخسائر التي مني بها أن يوافق الخميني نفسه على التنازل لانهائها، ولكن خليفته، وبعد تسرّع الرئيس العراقي صدام حسين واحتلاله للكويت وخوف كل دول الخليج وعلى راسها السعودية من نتائج تقوية هذا النظام، لعب على ترك الغير يكمل مشروعه. فقامت الولايات المتحدة بانهاء حكم صدام حسين، وبالتالي، وبغياب نظام قوي يحكم البلد، تسلل الحرس الثوري، تحت ظل “مقاومة القاعدة” (التي رعتها وحمتها إيران) للاحتلال الأميركي واثارت الشيعة ببعض التفجيرات التي طالت مراكز دينية شيعية ومن ثم الانسحاب المتسرع للأميركيين ايام أوباما الذي فسح المجال لقيام ما سمي بالدولة الاسلامية (داعش)، ليهيمن على شيعة العراق وينظم فيه قوات الحشد الشعبي ومشتقاتها التي أصبحت جزء من قوات الحرس الثوري وهي تسيطر اليوم على العراق بأوامر ايرانية مباشرة وتمنع قيام الدولة فيه.

إيران أيضا ولاكمال مشروعها الأمبراطوري المنفلش في الشرق الأوسط قامت بخلق المشاكل للسعودية ليس فقط في الشمال انما في الشرق حيث حركت شيعة البحرين ما اضطر المملكة للدفع بقوات “درع الخليج” للمساهمة في ضبط الأوضاع وتمكين السلطة من بسط الأمن. ومن ثم حركت إيران ايضا شيعة “القطيف” شرق السعودية ما اضطر المملكة للضرب بقساوة لضبط الأوضاع. وقامت بعدها بفتح الجبهة الجنوبية بواسطة الحوثيين في اليمن ما اضطر المملكة للقيام بمهمة عسكرية أخرى خارج حدودها لدعم “الشرعية” اليمنية ووقف التمدد الإيراني. ولكن الأطماع الايرانية لم تقف عند تطويق السعودية من الجنوب والشمال وتهديدها بثورة البحرين والقطيف في الشرق فقط بل دخلت عبر شريكها الأسد إلى سوريا، وتحت غطاء محاربة داعش ايضا، سيطرت على قرار الحكم في هذا البلد وهي تسعى لتغيير الديمغرافيا فيه، ومن ثم تساعد أزلامها في لبنان، أي حزب الله، لزيادة الشرخ بين اللبنانيين واضعاف الدولة وبالتالي تأمين الطريق لوصولها إلى شواطئ البحر المتوسط حيث تصبح هي الدولة المركزية في المنطقة والتي يمتد نفوذها من أواسط أسيا على حدود الصين من خلال افغانستان شرقا إلى البحر المتوسط غربا، ومن اليمن على المحيط الهندي جنوبا إلى بحر قزوين والبحر الأسود عبر ارمينيا شمالا.

السعودية ومنذ اكتشاف النفط وتفاهم حكامها مع اللاعب الجديد في السياسة العالمية يومها، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، أي الامريكيين لعبت دورا أساسيا في المنطقة بدون الحاجة لاستعمال الحرب كوسيلة توسع، ما لم تكن بحاجة إليه لاكتفائها من ناحية الانتاج النفطي، بل اعتمدت سياسة المساعدات وتأمين عدم تطور الخلافات من حولها والتي قد تؤدي إلى نشوء توتر وبالتالي أعمال عنف. ومن هنا كان دعمها لانتشار الفكر العروبي والمساعدة على حل المشاكل والنزاعات بين مجموع الدول المحيطة والتي تقبلت مسمى “العربية” بالتفاهم والحوار عبر منظمة “الجامعة العربية” حيث بات التاثير الإيجابي والمستند على الهبات السعودية مهيمنا على الفكر السياسي في المنطقة. ولكن مشكلة فلسطين وما يدور حولها بقيت عنصر تشويه للعصر “الذهبي” الذي توجته تلك المساعدات السعودية، ولو أنها بشكل أو بآخر ساعدت ايضا على انضباط هذه الدول بالالتفاف حول قضية مركزية تجمعوا خلفها هي “قضية فلسطين”.

الخميني الذي عرف بسهولة سر اللعبة والسيطرة التي تفرضها السعودية بواسطة المساعدات والدعم وتجميع الدول حول قضية مركزية، حاول سلب وسيلة الجمع هذه بأن نظم ما سماه “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني وكلفه بمهمة “تحرير فلسطين” ليسرق من العرب قضيتهم المركزية كمقدمة للسيطرة على هذا التجمع. فإذا كانت السعودية تملك مال النفط فهو يملكه ايضا، وإذا كان العرب يتغنون بأنهم سيطروا على المنطقة منذ الفتح العربي حيث قضوا على أحلام الأمبراطورية الفارسية الثانية وجعلوا من الفرس رعايا في دولتهم، فإن هذه الأمبراطورية ستعود وستفرض سيطرتها من جديد بغياب القوى الغربية وتلهيها عن النضال والتوسع. وسوف تجعل من هؤلاء العرب، الذين باتوا يتنعمون بأموال النفط، رعايا تستجدي الأمن والاستقرار وتتوسل الحماية، بعد أن تفرض نفسها ايضا على الساحة الدولية بواسطة السلاح النووي الذي لا تمتلكه سوى الدول العظمى.

من هنا تبدو المعركة الأساسية في المنطقة بين قوتين؛ المملكة العربية السعودية والتي تملك تأثيرا كبيرا في المنطقة والعالم وتاريخا من العلاقات المتزنة والموثوقة، وإيران الخمينية التي تملك طاقات كبرى ايضا وتتحضر للسيطرة على دول المنطقة بواسطة سلاح جديد أساسه تدمير الدول والكيانات المستقلة واعتماد المرتزقة المؤيدين لا بل المنفذين بدون تساؤل لأوامر “الولي الفقيه” في خلق المشاكل وتفريغ الدول من قدراتها وطاقاتها وحتى مواطنيها لتسهل عملية السيطرة عليهم وحكمهم من قبل وكلاء الحرس الثوري الذين يسعون لاخضاع التجمعات الحضارية المتعددة والتي تحاول الاستمرار والمحافظة على تقاليد الحرية والمبادرة الفردية التي ميزتها منذ ما قبل نشوء الامبراطورية الأخمينية الأولى.

المملكة العربية السعودية تدرك مدى الخطر وتشعر بتباعد وجهات النظر بينها وبين حلفائها الغربيين، خاصة الموجة الجديدة في قيادة الولايات المتحدة، ومن هنا محاولتها خلق وضع جديد ممكن أن يغيّر موازين القوى، يعتمد على التفاهم بين أولاد العم؛ أي العرب واليهود الذين يعانون من نفس الأخطار ويواجهون عدوا مشتركا. ولذا فقد أطلق على الاتفاقات بين دول الخليج واسرائيل تسمية “الاتفاق الابراهيمي” تيمنا بالجد المشترك للعرب واليهود أولاد اسماعيل وأولاد اسحاق. فهل ستكون هناك قواسم مشتركة وتعاون جدي يبنى عليه للفترة القادمة التي ستميز التحولات السياسية في المنطقة؟ وهل ستكون قيادة المملكة العربية السعودية لما تبقى من الدول العربية، اي مصر والأردن ودول الخليج مع من سيلتحق من دول شمال أفريقيا، لتحالف تدخله اسرائيل من الباب الواسع، إذا لم تكن هي راس الحربة فيه، هو الرد السعودي على طروحات الخمينية وأحلام الفرس بالسيطرة على الشرق الأوسط؟

الحرب بين اسرائيل وإيران قائمة والتهديد من قبل الطرفين وارد في كل لحظة لا بل إن التحضيرات للمواجهة الشاملة تبدو ناشطة وقد بدأت الأمور تأخذ منحى عملي وها هي الجبهة الوحيدة القريبة من حدود اسرائيل في لبنان تستعد للمواجهة بدون أي حساب لمصالح الشعب اللبناني تماما كما حصل في حرب تموز من العام 2006، وما استحضار هنية وغيره من رموز “مقاومة التطبيع” إلى بيروت والتركيز على ذلك الشعور الذي لا يزال بعض اللبنانيين يجترونه في حالة تشبه النوستالجية لأيام حروب عرفات الدونكيشوتية التي تقوم على انتظار أوامر الولي الفقيه هذه المرة والاستعداد للمعركة “الفاصلة” التي شعارها الصلاة في “مسجد الصخرة”، إلا بوادر على تلك التحضيرات التي يقوم بها الحرس الثوري بانتظار أن يأتي الأمر بالتحرش وقد تركت جميع الأبواب مفتوحة للاستغلال، وما قصة “حقل كاريش” إلا واحدة منها. فهل يقع المحظور هذه المرة أيضا وتفتح الساحة على مصراعيها ويستعمل فيها سكان لبنان والمهجرين فيه من مخيمات سورية وفلسطينية قد نستفيق على تسلحها والشعارات المنطلقة منها؟ وهل إن تأثير العرب وعلى رأسهم المملكة السعودية لم يعد له أهمية في ظل السلاح المهيمن على الدولة والحدود والذي يقامر بمصير الطائفة الشيعية أولا وبقية اللبنانيين بعدها؟

الحرب إذا ما حصلت بين اسرائيل وإيران ستكون حول القدرة النووية التي تحاول الأمبراطورية الجديدة امتلاكها ومسايرة الغرب لها والتفاوض الذي يجري معها منذ وقت طويل لا يفعل سوى زيادة الاقتراب من القرار الصعب وهو ضرب المفاعلات النووية الإيرانية. وإذا كانت اسرائيل لا تمتلك القدرات التي للولايات المتحدة ولا يمكن لطيرانها الوصول إلى إيران بسبب بعد المسافة فإن التفاهمات والتحالفات التي تبنى على أساس الاتفاق الابراهيمي قد تعطيها تلك الامكانية. وقد راينا تعاونا عسكريا بين البحرين واسرائيل ما يحل مشكلة المسافة تلك. ولكن الموافقة على قرار الحرب هذا يبقى بيد السعودية ولو أنها لم تقم بعد علاقات طبيعية مع اسرائيل. ولكنها إذا ما خيرت بين الخضوع لابتزاز الإيرانيين وبين التعاون العسكري مع الاسرائيليين للدفاع عن مصالحها فإن خيارها بدون شك سيكون مصلحة المملكة ومواجهة الاعتداءات الفارسية ووقف سيطرتها وتوسعها في المنطقة.

الأيام القادمة تنذر بالخطر واللقاءات التي تجريها المملكة مع دول المنطقة تشير إلى قيام حلف جديد لمواجهة الأطماع الإيرانية فهل يمكن تجاوز الحرب والعودة إلى نوع من التعاون بين كافة أطراف النزاع أم أن النظام القائم في طهران لا يستطيع التنازل عن مشروعه ولا يمكنه التوقف قبل أن يتم السيطرة على كل جيرانه ولا بد له من امتلاك سلاح الردع المخيف (السلاح النووي) الذي سيجعله يفرض هيمنته على مقدرات شعوب المنطقة ويمنعها من محاولة الوقوف بوجهه. وهل ستقبل اسرائيل والعرب بامتلاك إيران للسلاح النووي؟..