زياد شبيب: في التفاوض تحت الماء … المعركة مع العدو تحولت من معركة وجود الى قضية حدود. ويبدو أن مشروع إزالة اسرائيل من الوجود ورميها في البحر لم يعد قائماً

67

في التفاوض تحت الماء (01)
زياد شبيب/النهار/12 شباط/2022

التفاوض تحت الماء (02)
زياد شبيب/النهار/10 حزيران/2022
بعد احتلالها شبه جزيرة #سيناء في العام ١٩٦٧ حاولت إسرائيل استثمار ثرواتها ومنها حقول النفط الواقعة في خليج السويس. ولهذا الغرض استأجرت في أواخر عام ١٩٦٩ سفينة حفر تدعى “كيتنغ”، ولكن بعد مدة قصيرة وفي ٤ حزيران 1970، أعلنت الشركة الكندية للبترول، مالكة السفينة، إلغاء عقدها مع إسرائيل وفقا لما ذكرته صحيفة “الأهرام” فى صفحتها الأولى يوم 5 حزيران 1970، من أن “هذا الحفار نُسف فى ميناء أبيدجان فى مارس الماضى، وقالت الصحف البريطانية وقتها إن الكوماندوز ال#مصريين هم الذين نفذوا العملية، ووصفوها بأنها كانت ضربة قاصمة لمشروعات إسرائيل فى خليج السويس”.
طبعاً الصحيفة المصرية نسبت الخبر للصحافة البريطانية لأن مصر شاءت وقتها ألّا تتبنى العملية لتجنب تداعياتها. فمن ينوي جدياً الدفاع عن مصالح بلاده يفعل ما يتوجب عليه بصمت وفعاليّة.
“أمين هويدي”، رئيس جهاز المخابرات آنذاك المصرية، روى تفاصيل العملية فى كتابه “أضواء على النكسة وحرب الاستنزاف”، منذ استئجار اسرائيل “الحفار” وبدء رحلته من كندا باتجاه البحر الأحمر وقرار مصر منع تنفيذ مهمته بأي وسيلة، فتم تحضير عملية كوماندوس لنسف الحفار في أحد المرافئ التي سيتوقف فيها خلال الرحلة ووقع الاختيار على أبيدجان فى ساحل العاج. وللتمويه عن العملية التي قررت مصر القيام بها، قامت باتصالات سريعة مع المركز الرئيسى للشركة الأميركية الكندية فى دنفر ألحّت فيها على طلب استئجار الحفار مقابل مبلغ أضخم مما دفعته إسرائيل. وفى 3 اذار 1970 تم رصد وصول الحفار إلى أبيدجان وفى الساعة الخامسة فجر 8 آذار، قام أفراد الفريق المصري بوضع الألغام تحت جسم الحفار، وفى الثامنة صباحا اهتزت أبيدجان على صوت الانفجارات.
هذه القصة تكفي وحدها لجعل اسرائيل تحسب ألف حساب لو كان في الجانب اللبناني نية لمحاولة منعها من الوصول إلى الغاز في الحقل الذي يقع قسم منه في المياه اللبنانية. ولكنها بدت مطمئنة الى انها لن تتعرض لأي عمل في الطريق أو في الموقع.
منصة Energean العائمة لاستخراج الغاز الطبيعي التي وصلت إلى حقل #كاريش كان قد أُعلِن عن انطلاقها من سنغافورة قبل أسابيع وتمت متابعة مسارها في الإعلام واجتازت قناة السويس بنجاح، والأهم أنه تم بناؤها خصيصاً لحقل كاريش، أي أن المشروع مُعلن ومعروف الأبعاد والأهداف منذ مدة طويلة. كل هذه المراحل تم اجتيازها دون خوف من الشركة أو من الجانب الاسرائيلي على هذا الاستثمار الكبير، علماً أن أن أي تهديد جدّي من جانب لبنان الرسمي أو غير الرسمي كان كفيلاً بجعل شركات التأمين تمتنع عن تغطية الرحلة والمنشأة وبعرقلة المشروع برمته.
قد يذهب البعض إلى القول بأن لبنان سيخسر فرصة البدء بالاستفادة من ثرواته في هذه الظروف القاسية التي يعانيها شعبه، أي أنه الطرف الأكثر عجلة وحاجة، ولكن العكس هو الصحيح بالنظر إلى المعطيات الدولية حول الطلب على الغاز من مصادر جديدة بسبب الحرب في أوكرانيا.
ما يحصل اليوم ليس أكثر من سيناريو هدفه الوصول إلى الوضعية التي علينا الاختيار فيها بين القبول بالنصيب الذي قرّره لنا “الوسيط” أو البقاء متفرجين على سحب الغاز من حقل كاريش. وكان الوسيط في زيارته الأخيرة قد أبدع في اقتراحه الذي يقضي بنسيان أمر الخطوط والتفاوض على الحقول باعتبار أن الغاز موجود تحت الماء وليس على سطحها. وهذا الاقتراح يريح لبنان الرسمي العاجز عن التمسك بالخط 29 والمحرج بوجود حقل مشترك يتطلب منطقياً استثماراً مشتركاً فأصبح التخلي عن الحقل أسهل من شبهة التطبيع التي تترتب على الاستتثمار المشترك.
– لو لم تكن شركة التنقيب مطمئنة مئة بالمئة الى انها لن تتعرض لأي عمل عسكري لما أحضرت معداتها وباشرت العمل.
****
– جميع المعنيين في الدولة وخارجها، اصحاب السلطة الدستورية أو الفعلية القادرين على تثبيت حقوق لبنان أو على منع إسرائيل من الاستخراج، جميعهم موافقون مسبقاً على مباشرة إسرائيل باستخراج الغاز، حتى اثبات العكس.
– مرسوم تحديد الحدود البحرية هو عمل قانوني اعلاني وليس إنشائي، أي أنه يعبّر عن الواقع ولا ينشئه، ومن يريد حقيقةً الدفاع عن حدود لبنان وحقوقه لا يتذرع بعدم صدور المرسوم.
– لماذا لا يبادر لبنان الى التعاقد فوراً وإرسال باخرة تباشر استخراج الغاز من حقل كاريش أيضاً، طالما أن العدو قبل بمعادلة “يلي سبق شم الحبق”؟

في التفاوض تحت الماء (01)
زياد شبيب/النهار/12 شباط/2022
مقابلات عاموس هوكشتاين على الشاشات اللبنانية أظهرت كاريزما الرجل وأظهرت موضوعيته المفترضة. بدا حريصاً على مصلحة الشعب اللبناني في الاسراع باستخراج الغاز والخروج تالياً من الموت الذي نحن فيه. وتحدث بواقعية عندما قال بأن دول شرق المتوسط جميعاً دخلت مرحلة استخراج الغاز ما عدا لبنان وأن التأخير هنا سيفقدنا فرصة استثمار ثرواتنا في مرحلة التحول السائرة باتجاه اعتماد الطاقة البديلة. حتى أنه نصحنا باعتماد التنوع في مصادر الطاقة، وعندنا كما قال، وقوله صحيح، كل مقوماتها الطبيعية من رياح وأشعة شمس.
ما لم يقله هوكشتاين، ولن يجرؤ حكامنا على قوله، أن اسرائيل حققت إنجازاتٍ تاريخية هي:
أولاً، بتوقيعه اتفاق إطار التفاوض سنة 2020 وافق لبنان على المطلب الإسرائيلي باعتماد التفاوض بدلًا من القانون. فالاتفاق المذكور لا يشير إلى أي مرجعية لمفاوضات الترسيم كقانون البحار لعام 1982، ما يجعلها خاضعة لموازين القوى والضغوط التي نراها تُمارس على لبنان، ولم يلحظ الاتفاق أي بديل في حال فشلت المفاوضات كالتوجه إلى التحكيم الدولي. وذلك حصل بالطبع لأن حجة إسرائيل القانونية ضعيفة، بينما حجة لبنان في ترسيم حدوده قوية لأنها تستند إلى قانون البحار. وهذا ما أكدته دراسات الخبراء، بما فيها الإسرائيلية.
ثانياً، في الاتفاق المذكور اعترف لبنان باسرائيل ضمنياً كدولة قائمة على أرض فلسطين، لأنه للمرة الاولى في تاريخ العلاقات والمفاوضات والحروب والانتصارات…، جرى الحديث عن الحدود بين لبنان وإسرائيل، وليس فلسطين. وللمصادفة بالأمس قرر المجلس المركزي الفلسطيني تعليق اعتراف منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية باسرائيل، ما يترتب عليه، قانوناً أو نظرياً، أن التفاوض على الحدود البحرية يجب أن يحصل مع الفلسطينيين.
اتفاقية الهدنة التي وقعت العام ١٩٤٩ بعد المعارك التي خاضها الجيش اللبناني في وجه الاحتلال والبطولات التي سطرها في معركة المجيدية، ورد فيها ذكر الحدود مع فلسطين وليس اسرائيل. فقد نصت اتفاقية الهدنة على أن “يتبع خط الهدنة الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين” (المادة الخامسة). والمقصود بالحدود الدولية الخط الذي تم الاتفاق عليه بين دولتي الانتداب، فرنسا عن الجانب اللبناني وبريطانيا عن الجانب الفلسطيني، سنة 1923. وتنازلت فيه فرنسا آنذاك عن القرى السبع وضمتها بريطانيا إلى فلسطين رغم كونها قرى لبنانية بالكامل. والثمن كان إعطاء الفرنسيين عقد تجفيف بعض المستنقعات في فلسطين. تلك الصفقة تذكرنا بزيارة الرئيس الفرنسي بُعَيْد انفجار 4 آب والتي اصطحب فيها الشركة التي ستحصل على عقد إعادة بناء واستثمار المرفأ.
ثالثاً، نجح هوكشتاين بتسويق فكرته الذكية بالتركيز على ما تحت الماء أي على الحقول القابلة للاستثمار بدلاً من خطوط الحدود. واعتماد هذه الفكرة يريح السلطات اللبنانية من واجب توقيع مرسوم تعديل الحدود البحرية لاعتماد الخط ٢٩. فالجدوى من ذلك تنتفي لأن التفاوض سيكون تحت الماء ومتركزاً على الحقول بدل الحدود.
المعركة مع العدو تحولت من معركة وجود الى قضية حدود. ويبدو أن مشروع إزالة اسرائيل من الوجود ورميها في البحر لم يعد قائماً. واليوم مع المبادرة الاخيرة للسيد هوكشتاين لم تعد قضية الحدود البحرية مطروحة ولم يجرؤ لبنان على توقيع مرسوم تحديد حدوده كما يضمنه القانون الدولي.
مع كل جولة مفاوضات أو زيارة للوسيط الأميركي يسجل لبنان تراجعاً إضافياً. نأمل أن تنتهي هذه المفاوضات والتنازلات بأقل خسائر ممكنة.
يبدو أن التنازل لا يعتبر خيانةً متى كان تنازلاً جماعياً.