الكولونيل شربل بركات: قوافل عين إبل التجارية

238

قوافل عين إبل التجارية
الكولونيل شربل بركات/14 آذار/2022

شهد وسط القرن الثامن عشر ونهايته فترة من التغيير السياسي والأمني حيث قام علي بيك الكبير في مصر بالسيطرة على الحكم وفرض سلطته هناك ومن ثم مد نفوذه إلى الحجاز بواسطة حملة مصرية بقيادة ابو الدهب ما سمح له باعادة تحريك التجارة مع الهند، عبر ميناء جدة على البحر الأحمر، والتي كانت توقفت منذ اعتمد البرتغاليون طريق راس الرجاء الصالح للتجارة بين الهند وأوروبا. وكانت السلطنة العثمانية يومها منشغلة بحروب القرم مع روسيا زمن كاترين الثانية، والتي أدت إلى ارسال اسطول البلطيق الروسي إلى البحر المتوسط وقضائه على الاسطول العثماني في معركة تشيزمي في بحر ايجه سنة 1770، ما سمح للسفن الأوروبية بالعودة بشكل أوسع إلى استعمال البحر المتوسط كطريق للتجارة كان توقف بشكل شبه نهائي مع انتهاء الوجود الاوروبي شرق المتوسط منذ تدمير عكا وصور وغيرهما من المدن الساحلية أثناء هجمات المماليك وتعدد المناوشات بين مملكة قبرص والدولة المملوكية.

وكان ضاهر العمر قد أعاد فتح ميناء عكا وشجع زراعة القطن في السهول حولها ابتداء من منتصف القرن الثامن عشر. وفي نفس الوقت كان ناصيف النصار ضبط منطقة جنوب لبنان وتحالف مع ضاهر العمر وفتح ميناء صور مجددا. ولكن وبعد بضعة مناوشات ومعارك حول مناطق النفوذ نشأت بينهما صداقة وتعاون. وقد كانت العلاقات الحسنة لا بل التحالف قد ربطت ضاهر العمر مع علي بيك الكبير سيد مصر والذي احتل دمشق لفترة كان فيها حليف الأسطول الروسي ما شجع التبادل التجاري وتصدير المنتجات من المنطقة عبر السفن التجارية باتجاه أوروبا.

ومن هذه التطورات أيضا قدوم الحملة الفرنسية بقيادة نابوليون بونابرت في نهاية القرن الثامن عشر وبعد وفاة ضاهر العمر وتسلم الجزار لمدينة عكا حيث تعاونت السلطنة مع الأسطول البريطاني لوقف هجوم بونابرت على عكا، ما شكل ايضا حافزا للبحارة والتجار الأوروبيين لزيادة زياراتهم لشرق المتوسط.

هذا الوضع المستجد فتح أفقا لأولاد المنطقة، ومنهم أبناء عين إبل الذين كانوا تخصصوا بالانتاج الزراعي في القرن السابع عشر، وسمح لبعضهم بالتحوّل، في نهاية هذه الفترة اي ما بعد منتصف القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، نحو النقل البري، خاصة بين سهول حوران ومدن الساحل، ما جعل جزءً من المجهود الرئيسي لأبناء البلدة يتركز حول هذه الصنعة الجديدة، والتي لم تمنع الاستمرار بالزراعة المحلية، ولو أن سهول حوران في الشرق وفلسطين في الجنوب كانت أكثر انتاجا وأقل تكلفة من الانتاج المحلي.

وقد تقدمت هذه الصنعة وكثر المتعاطين بها فتطورت معها هندسة البيت العينبلي الذي أصبح بحاجة لدار مصون بابه الرئيسي عالي يسمح بدخول الجمال المحملة ويتسع لعدد منها لتنيّخ للتحميل والتحطيط بعيدا عن العيون. ومن هنا ذلك المثل المعروف: “هاللي بدو يعمل جمّال بدو يعلي باب دارو”. ونلاحظ بأن هذه البيوت قد خرجت عن بيوت القرية القديمة التي كانت تجمعت حول الكنيسة العتيقة، فإذا بهذه تنطلق لتنشأ على أطراف البلدة القديمة. ولا نزال نذكر الكثير منها من دار يوسف سلوم وبيت أيوب وغيرهم في حارة الخريشية، إلى بيت أبو كرم وبيت جريس مرتى وبيت بطرس سليمان وعطوي قبل أن يهدم العتيق ويبنى مكانه بيوت الباطون، وبيت الصيداوي بقرب بيت الدحر وبيت ابو غنام وبيت ناصيف وربما أبو فرنسيس، وقد يكون أحد بيوت بيت مطر ايضا مجهزا لمثل تلك الأعمال، وبيت يعقوب صادر أيضا، وما كان من بيت ابو بركات الذي اشتراه مردخاي اليهودي ومن ثم أصبح من رزق بيت فرح، وبيت الخورية أيضا في نفس المنطقة، وغيرها من البيوت المصون دارها والتي يسمح بابها العالي بدخول الجمل محملا إلى تلك الدار المصونة.

ويذكرنا هذا الوضع بايام عز صور حيث كانت قوافل تجارتها وشقيقاتها من المدن الفينيقية، والتي تجوب الشرق الأوسط انطلاقا من نفس الطريق، قد فرضت على القرى الواقعة على هذه الطرق المشاركة بتجارة المدن الكبرى عبر قوافل الجمال التي تحمل المنتجات القادمة إلى الأسواق أو الخارجة منها، ما جعلها تصبح محطات استقبال وحماية للقوافل والمنتجات العابرة. ومن هنا أهمية الدار المصونة والتي تحمي القوافل والبضائع عن عيون المتطفلين، حتى في نفس القرية، لكي يبقى السر حول أنواع التجارة محفوظا، فلا تتعرض هذه القوافل للسرقة أو الاعتراض على الطرق من قبل قطاع الطرق أو المصطادين بالماء العكر.

هذه الصنعة الجديدة تطلبت انفتاحا على المحيط وتعاونا بين الجمالة وبعض أبناء المنطقة، نشأ عنها صداقات، ولو محدودة، إن في حوران أو فلسطين أو ما بينهما أحيانا، لتأمين المصادر والزبائن من جهة، وايضا الحماية من قطاع الطرق وشهوة المتطاولين من جهة أخرى. ومن هنا فقد احتاجت عملية النقل هذه الكثير من الدقة والدراية والشجاعة والمعرفة، وليس فقط الوسائل والامكانيات المادية. ولكنها كانت واعدة نوعا ما، ولذا فقد بقيت صنعة اساسية، حتى مع تبدل السلطة في الجوار. ولكنها كانت تخبو أو تعظم بحسب الأوضاع حتى بداية القرن العشرين، وخاصة بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى وتأثيرها ونتائجها.

ولنا من قصة “كرسيفار” التي كتبها الصديق الأستاذ جورج شوفاني، وحديثه عن الجمالة وقصصهم وعلاقاتهم مع الجوار والسلطة على حد سواء، وصفا دقيقا يفتح الأفق نحو هذه الصنعة التي مورست زمنا طويلا وبقيت في رميش وعين إبل حتى النصف الأول من القرن العشرين عندما استبدلت بالشاحنات بعد الحرب الكبرى. فقد باع عطوي اندراوس جماله ليشتري شاحنة من بقايا الشاحنات الألمانية التي كانت استعملت في الحرب العالمية الأولى وشغّلها بين المنطقة ومرج ابن عامر ومدن حيفا وعكا والضفة الغربية من جهة، وبين حوران وحتى دمشق وصور وصيدا من جهة أخرى، قبل أن تغلق الحدود لتصبح عين إبل، التي كانت تعتبر في مركز الطرق التجارية في الشرق الأوسط، اي بين لبنان وفلسطين وسوريا والأردن، تصبح في آخر الطريق المسدود. ولنا من خبرية عطوي يوم باع الشاحنة الألمانية لأحد أبناء بيروت خير دليل على ذلك، إذ قال له المشتري: “هل تريد خمسة آلاف ليرة أو ثلاثة آلاف متر أرض في الأشرفية ببيروت”. وكان خيار عطوي بالتأكيد الخمسة آلاف ليرة لأن “الأرض في بيروت لا تصلح لشيء”، بحسب رأيه،  بينما يمكنه أن يبني بيتا في عين إبل الواقعة على خطوط التجارة بالمبلغ المعروض يكفيه للاستمرار بالاهتمام بتجارته وعمليات النقل المطلوبة بكثرة في تلك الأيام.