بول ناصيف عكاري/النهار: الثورة…الميثاق…الميثاقيّة

116

الثورة…الميثاق…الميثاقيّة

بول ناصيف عكاري/النهار/14 شباط/2022

النظام السياسي اللبناني الذي تكرس في اتفاق الطائف قائم على دستور مكتوب و “ميثاق وطني” عرفيّ غير مكتوب. حدّد الأول أطر الحكم وأسسه ومبادئه وحُدّدت في الثاني الأعراف والصيغة العمليّة لتطبيق الدستور. كرس الميثاق صيغة طائفيّة  لتقاسم السلطة، بين “جناحي الوطن” من مسلمين ومسيحيّين، على قدم المساواة، بما يعني ذلك من مشاركة في الحكم والقرار. كما أكّد الميثاق على أن يتخلى المسيحيّون عن أية مطالب بحماية أجنبية، ويرتضي المسلمون بالكيان اللبنانيّ بحدوده الحاضرة كياناً سيداً حرّاُ مستقلاً، تنبع سياسات دولته وقراراتها من مصالح شعبه العليا. كما أصرّ، على النأي عن الدخول في سياسات المحاور التي يمكن أن تتجاذب الأقطار العربيّة في ما بينها (من كتاب باسم الجسر، ميثاق 1943). هو تعاهد وميثاق شرف (وهل بقي من شرف) بين المسيحيّين والمسلمين على استقلال لبنان استقلالاً كاملاً، وعلى بناء وطن سيّد حرّ يكون لجميع أبنائه على التساوي، ويكون أخا للعرب، ونافذتهم إلى الحضارة الغربيّة. هو لبنان الذي “لا يُحارِبْ ولا يُحارَبْ”، ونضيف عليها “ولا يَتَحارَبْ أبناؤه في ما بينهم”. وهو تعاقد جناحيه على أن يحولا دون أي سبب من أسباب إثارة النعرة الطائفيّة والتقاتل والتدمير.

 تجدر الإشارة إلى أنّ الكيان الصهيوني لم يكن قد استُنبط آنذاك، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الآباء المؤسسّين قد وعوا المصائب المتأتية من سلوكيات الحركة الصهيونيّة وأفعالها في فلسطين. الميثاق لم يولد من العدم، بل من الإيمان بلبنان، بخصوصيته، بمزاياه، بتراثه، بتقاليد شعبه، وبتكوين مجتمعه، والأهمّ بحريته وبالكرامة الإنسانيّة. لكن شتّان بين النيّة السليمة والمبدأ والتطبيق الفعليّ! الميثاق واضح وصريح ويعتبر من أهم الصيغ الممكنة وأفضلها للبنان إن طبقت بنيّة سليمة ووطنية قادرة على أخذ الوطن إلى أعلى مصاف الدول الإنسانيّة والمتطورة. يجب أن يكون هذا الميثاق المرجع الصالح الذي يرجع إليه عند الحاجة، ولكن، أين نحن منه؟ ولماذا خرجنا عنه؟

الجواب يكمن في أنّ البعض، مستفرداً، يفسّر الميثاق بما يتلاءم مع مصالحه الخاصة المدعومة والمشرعنة من مذهبه وعمى أتباعه. منهم من فسّر المساواة والسيادة والحريّة والمشاركة الوطنيّة في الحقوق والواجبات والحكم على مستوى جهالته وحقده وأنانيّته. منهم من استنبط جدلية ونزاعاً حول هوية ما وقوميّة ما لشعبه أثبتت الأيام أنهما كانتا سراباً في بحر من الأوهام. منهم من اختزل جناح من الوطن من خلال الاستقواء بالخارج وتهديد المواطنين الآمنين بالسلاح والترهيب والحرب الأهليّة. معظمهم، بالتكافل والتضامن، أخرجوا الميثاق من فكره ومفهومه الوطنيّ النقيّ ودكّوه في كتاب تاريخ مزور ومجبول بالأكاذيب لكي لا تتبناه الأجيال الصاعدة وتعمل من أجل تنفيذه وصونه. كلهم انتظموا سياسيّاً ومجتمعيّاً ومذهبيّاً وخلقوا الحاجة إلى مرجعية تعلو على الدستور لتنظيم وإدارة اختلافاتهم بما يتناغم مع مصالحهم والسماح لهم بتكديس أكبر قدر من الأموال. كلّهم أمعنوا في إضعاف الدولة من أجل استزلام مناصريهم وأزلامهم. وكلّ ذلك على حساب الإنسان المحبّ لوطنه وللحياة والعيشة الهنيّة المستدامة.

من البديهيّ أنّ الخروج عن الميثاق ليس بالأمر السهل ويحصل فقط عندما تخرج طائفة بكاملها، وبملء إرادتها، عنه وليس بخروج فرقة من مذهب معيّن أو كتلة مذهبية أو أيّ تحالف كان ساعة يشاؤون. أمّا سلوكيّات وأفعال كلّ من تسوله نفسه الاستقواء على الآخر بسبب ظروف معيّنة مؤاتية له، ليفسّر الميثاق والدستور على هواه من أجل مصالح مشغّليه، فهو ضرب من العمالة والخيانة الوطنيّة ويجب أن يحاكم على فعلته. ومن تجليّات ضرب الميثاق والدستور حاضراً، إمعان المنظومة المافياويّة، مستقويةً  بالوليّ الفقيه ومنظومة الممانعة وبتخاذل فريق كبير من اللبنانيّين، في شلّ الدولة وتعطيل البلد من أجل الوصول إلى مآربها غير الوطنية ولإخضاع باقي المكونات لإملاءاتها لتحافظ على مكتسباتها ولتلبي ّمصلحة مشغّليها.

لقد خالفت “الثنائيّة الشيعيّة”، العمود الفقريّ للمنظومة المافياويّة، من خلال تسلبطها على المجلس النيابيّ وتفردها بتفسير مفهوم الميثاق ومواد الدستور، وفقاً لمفهومها المافياويّ الميليشياويّ ، كامل مندرجات الميثاق والدستور. تجلّت الذروة في أحد اختراعاتها الأرنبيّة ألا وهو “الميثاقيّة” بكلّ تجلياتها الشريرة مستندةً إلى الفقرة “ي” من مقدمة الدستور. هذا الاختراع المسخ، هو خروج صريح عن الميثاق واللحمة الداخليّة وهزّ الكيان اللبنانيّ ومحرك للنعرات الطائفيّة لا بلّ المذهبيّة. كما أعطت “الثنائيّة الشيعيّة” نفسها الشرعيّة، المبنيّة على فائض من القوة الموهومة، فاستفاضت في تعطيل الدولة وتدمير البلد وسلب الشرعيّة من الشرعيّة الدستوريّة والميثاقيّة الحقيقيّة. للتذكير، إنّ الحزب لا يعترف بالدستور والكيان ونهائيّة لبنان الوطن، فضربه للميثاق هو نقطة مياه في بحر الخيانة الوطنيّة. هذه الاختراعات ما هي إلّا ضرب من الفساد الدستوري وتوريط المجلس النيابيّ في أكبر عملية نصب وسرقة من خلال القوانين التي حمت المغتصبين للسيادة والفاسدين والحراميّة.

والأنكى من ذلك كلّه، أنّ صانعيّ الميثاق، الموارنة والسُنّة، لم يحرّكا ساكناً، وبالأخصّ الموارنة، الذين يعتبرون “أمّ الصبيّ”. لقد ارتضت القيادات المارونيّة المصابة ب “متلازمة الموارنة” الاستزلام والانبطاح أمام سيّد المجلس النيابيّ، وبالتالي أمام “الثنائي”، من أجل الوصول إلى هيكل كرسي مهترئ. من خلال سلوكيات هذه “القيادات “وأفعالها ، يمكن القول بكلّ ثقة، أنها مستعدّة للتخلي عن إرث عمره 1600 سنة  وعن حريّتها وقيمها من أجل شيء زائل وبائد.

أمّا بعد، ثمّة من يعتبر أنّه إن لم نعد إلى الميثاق ونطبقه فعليّاً، سوف نذهب إلى الانفكاك. لذلك، يجب على الثورة إعادة الاعتبار للميثاق بمفهومه وفلسفته وغايته الأساسيّة وتفعيله من خلال الطرح التالي. كيف لنا أن نوائم بين حقوق الإنسان اللبنانيّ وواجباته في دولة العدل والمساواة مع المحافظة على خصوصيّة  كلّ مكوّن وثقافته في وطن سيّد حرّ ومستقل؟

عليه، وبمبادرة من الثورة، تشكيل لجنة من المتنوّرين والمتخصصين من أجل شرح الميثاق وتفسيره والاتفاق على رؤية موحّدة ليتبنّاها وينفذها الشعب اللبنانيّ. يجب أن يُبنى التفسير أولاً على القيم والأخلاق اللبنانيّة الموروثة والتي دُمرت خلال الخمسين سنة الماضية؛ وثانياً، على الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان بوصفه المعيار المشترك الذي ينبغي أن تصبو إليه الشعوب والأمم كافة؛ وثالثاً، على “وثيقة الأخوّة الإنسانيّة من أجل السلام العالمي والعيش المشترك” الموقعة في أبو ظبي بين قداسة البابا وشيخ الأزهر. من ثمّ، دعم الميثاق ب “ميثاق شرف” مكتوب و “مدوّنة قواعد السلوك الوطني” للحفاظ على الميثاق والدستور وصيانة الوطن من انجراف أيّ مكوّن للخارج مستجدياً العمالة والخيانة.  تحدد المدوّنة المبادئ الوطنيّة والمعايير والتوقعات الأخلاقية التي يجب أن يلتزم بها من يريد العمل في القطاع العام والأطراف الثالثة أثناء تفاعلهم مع الدولة. ولأنّ لا مجال لإلغائها، الإبقاء على الطائفيّة السياسيّة ضمن أطر الميثاق، والشروع في إعداد قانون إنتخابي وطنيّ وعصريّ بما يتلاءم مع مندرجات الميثاق، على أن يمنع إقامة دويلات ضمن الدولة على أسس طائفيّة ومذهبيّة. وأخيراً إضافة المهل الزمنيّة العمليّة على الدستور ليصبح فعّالاً وليقطع الطريق أمام المعرقلين.

هل يمكن تحقيق هذا الحلم يا أهل الثورة، قبل أن تُحتوى الثورة داخل مؤسسات الحكم لتحييد قوّتها وفعّاليتها؟ أو هل سيتفكّك الوطن؟