الكولونيل شربل بركات/تاريخ عائلة دياب في عين إبل

257

تاريخ عائلة دياب في عين إبل 

الكولونيل شربل بركات/13 شباط/2022

ورد اسم دياب ابن كيروز ابن عبد الأحد من سلالة جمعة بو نار الذي يعود أصلها إلى عين حليا في السلسلة الشرقية لجبال لبنان وقد كانوا استوطنوا بشري وكان منهم مقدمون بحسب كتاب العناحلة لأبو فاضل. ويشير الكاتب بأن دياب المذكور غادر بشري في بداية القرن السابع عشر ليلتحق بولده يوسف الذي كان هاجر إلى حلب واستقر هناك بينما لحق أبنه الصغير جريس بشقيقه حنا الذي كان سكن حدث الجبة قبل ذلك التاريخ. يعتقد بعض المؤرخين بأن هذه الأسرة التي قدمت من عين حليا إلى بشري كانت مثل كثيرين من سكان تلك المناطق بالأصل ممن تركوا بلاد البشارة اثناء حروب بيبرس ضد الصليبيين في سنوات 1266 وما تلاها حيث كانت تدور المعارك التي أدت إلى احتلال المماليك لقلاع صفد وهونين وتبنين وقد تعرض السكان المحليون لكثير من المضايقات في تلك الأيام التي كانت شهدت تحركات كبرى من الكر والفر ما أفرغ أغلب القرى. ويقال بأن المماليك منعوا السكن فيها حتى عمق 40 كليومتر من البحر خوفا من تعاون السكان مع الصليبيين الذين كانوا لا يزالون يجوبون البحر المتوسط من قاعدتهم الرئيسية في قبرص.

جريس دياب إذا انتقل إلى حدث الجبة وسكن فيها. وكانت هذه المنطقة من لبنان قد اكتظت بالسكان المسيحيين الذين حوصروا في جبة بشري وجبة المنيطرة وبعض مناطق البترون، خاصة بعد سنة 1305، بحسب تاريخ الموارنة للأب بطرس ضو وما ورد عند البطريرك الدويهي في تاريخ الأزمنة، والذي شدد على افراغ العديد من المناطق من سكانها زمن المماليك بسبب الاضطهاد الذي تعرض له المسيحيون والخوف من ولائهم للصليبيين كما ورد أعلاه، وما تعرّض له أيضا الشيعة والدروز والاسماعلية وغيرهم بسبب فتاوى ابن تيمية، كما ذكر في تاريخ لبنان لفليب حتي وأيضا في كتاب محمد علي مكي . وقد زاد على ذلك سلسلة الأوبئة التي ضربت المنطقة فخففت عدد السكان، ما جعل مواطن الموارنة، التي انعزلت بسبب سيطرة المماليك، تنجو من هذه الأوبئة والأمراض. وقد كثرت فيها الينابيع والأنهار واضطر سكانها إلى العمل المستمر بالأرض لحثها على العطاء. فكانوا مع بداية سيطرة العثمانيين قد اكتسبوا الكثير من الخبرات الزراعية، وخاصة في مجال تنويع وحفظ هذه المنتجات الزراعية للاستمرار في الدورة السنوية، في منطقة تكسوها الثلوج لأيام كثيرة خلال السنة.

عندما سمح العثمانيون للأمراء العسافيين باعمار كسروان أندفعت أفواج من هؤلاء المزارعين لاعادة الاعمار وشغل الأرض وتجليلها، وزراعة الأشجار واستغلال كل طاقاتها . ما سمح للعسافيين بعائدات مهمة استطاعوا يواسطتها تأمين دفع الضرائب المترتبة عليهم من قبل الدولة العلية بسهولة. ومن الجدير بالذكر بأن ضرائب كسروان كانت اقل بكثير من الضرائب المفروضة على بشري  في تلك الفترة. وهذا ما يفسر نزوح الكثيرين إلى هذه المناطق. وقد حدثت في سنة 1584 سرقة أموال الميري المتجهة من مصر إلى الاستانة في جون عكار. واتهم الأمير المعني قرقماز بالمسؤولية عنها. فقام ابراهيم باشا والي مصر، يومها، بحملته ضد الدروز بمساندة الأسطول العثماني. ويقال بأنه قتل وفدا ضم ستمئة من المشايخ الدروز الذين كانوا حاولوا التوسط لديه. ومن ثم قام بالقضاء على جيش المعنيين، وقتل الأمير قرقماز، والد فخر الدين الثاني نفسه. وكانت محصلة هذه الحملة مقتل حوالي ستين ألف من الدروز. ما أفرغ الشوف من الطاقة الانتاجية ومن القوة التي يحتاجها الأمير الجديد. وكان أولاد الأمير قرقماز قد هربوا إلى كسروان حيث تربوا بين الموارنة هناك. وعندما تسلّم الأمير فخر الدين الحكم، بعد أن كان شبّ واقتنع العثمانيون بعدم مسؤولية والده عن سرقة أموال السلطنة، كان عليه أن يعتمد على الموارنة للانتاج والحماية. ولذا فقد شجّعهم للسكن في الشوف ومساندته بالرجال. من هنا فقد شهدت سنوات حكمه انتشارا مارونيا كبيرا باتجاه الشوف، ومن ثم الجنوب، حيث كانت الضرائب المفروضة قليلة وفرص العمل والتوطن كبيرة.

كان عبدالله الطويل من حدث الجبة قد استوطن خربة عين إبل حوالي 1594 وقد استعمل حجارة الخربة، بدون شك، لبناء بيته وايواء عائلته. وقد كان وجد الكثير من مقومات الحياة في الأراضي المجاروة لهذه الخربة؛ فعدا عن توفر الحجارة المقصبة والصالحة للبناء بكثرة، كان التراب الأبيض الكلسي الذي يصلح لتطيين البيوت ويمنع الماء من التسرب موجود في منطقة المحفرة بشكل كبير، بينما ينمو البلان بشكل واسع صوب المغراقة، وهو يصلح كعازل بين التراب والخشب ويستعمل في سقف البيوت. ويتواجد الكثير من الآبار القديمة المنقورة بالصخر في أنحاء مختلفة من أراضيها عدا عن الينابيع. أما السنديان، الذي يستعمل كأهم أنواع الخشب ويصلح لكل شيء من جسور السقوف إلى حطب الوقود وحتى إلى الواح الشبابيك والأبواب كما تعتبر طرابينه غزاءً مهما للماعز ايام الشتاء، فيشكل أغلب الغابات المحيطة بها حيث يكثر ايضا السويّد والقندول اللذان يصلحان كسياج للحيوانات. وقد وجد تلك الأرض الحمراء الغينة بترابها، والتي تحتاجها أغلب الحبوب لكي تنمو وتغلّ، تكسو كل منحدراتها وتتجمع في الأودية الضيقة. وقد انتشرت في أراضيها المعاصر القديمة والمسطحات الصخرية الملساء التي يمكن استعمالها لتشميس كل شي كما يمكن استعمال الأجران المنقورة بصخورها لهرس أو طحن كل ما يلزم بواسطة الحجارة المستديرة الموجودة في الخربة .

في السنوات التي تلت، خاصة بعد أن التزم الأمير فخر الدين منطقة صور وصفد في 1602، زاد عدد الموارنة المستوطنين في المناطق البعيدة جنوبا، فقام المطران يوسف حليب العاقوري، وهو مطران صيدا الماروني آنذاك، سنة 1630، بزيارة رعوية للموارنة في ابرشيته، وهي تضم الشوف وما يليه جنوبا باتجاه الأراضي المقدسة. وفي زيارته هذه قصد مزرعة عين إبل، فقد كان يرافقه أحد تلامذة المدرسة المارونية في روما ويدعى عبد المسيح الطويل  من حدث الجبة وكان هذا يعرف بأن له أقارب يسكنون فيها. وقد اهتم هؤلاء بزيارة المطران وابدوا الكثير من مظاهر الاحتفاء به، ومن ثم قام جريس ابن عبدالله الطويل بمرافقة المطران ومن معه إلى الناصرة، وهي على مسافة سفر يوم من عين إبل. ففرح المطران كثيرا بهذه الزيارة لأنه تمكن من الوصول إلى الأراضي المقدسة حيث التقى ببعض الرهبان الفرنسيسكان الذين يخدمون هناك، وأخبروه بامكانية الوصول حتى الى القدس إذا أراد ذلك. وعند عودته إلى عين إبل، وقد اعتبرها مهمة جدا كمحطة على طريق الأراضي المقدسة، سأل هؤلاء المزارعين عن حاجتهم فقالوا له بأن علاقاتهم حسنة مع الجيرة، وعندهم مجالات كثيرة للعمل والانتاج، ولكن لا يزال ينقصهم كاهن يقيم لهم الذبيحة ويواكبهم في الامور الدينية. فسأل المطران عبد المسيح عن رغبته في أن يصبح كاهنا كونه يعرف كل الأمور الدينية، فقبل، ولكنه لم يكن يتملك اللغة السريانية كما يجب لأن علومه كانت باللاتينية والأيطالية وبما أن السريانية هي لغة الليتورجية فعليه أن يقرأها ويكتبها بشكل جيد، فقرر المطران تقويته بالقواعد السريانية خلال زيارته لبقية الرعايا حيث أمضيا شهرا كاملا بالتجول في المناطق التابعة له بين الجنوب والشوف . وقد رسمه في نهاية الشهر كاهنا على مزرعة عين إبل. وهكذا عاد عبد المسيح إلى عين إبل وسكن فيها كاهنا يقيم الذبيحة يوميا ويسهم في تعليم الصغار ورعاية كافة أمور الحياة اليومية فيها.

في هذه الفترة ذهب جريس الطويل إلى الحدث وتزوج من هناك. ولا نملك معلومات عن أية عائلة سكنت في هذه الفترة مع بيت الطويل في عين إبل. وفي سنة 1645 حدثت في هذه المزرعة مشكلة كادت أن تقضي على استمرارية السكن فيها؛ فقد كانت الخرب القريبة في الدوير خاصة لا يزال فيها بعض الأشجار المثمرة وبما أنه يوجد حجارة يمكن استعمالها لبناء حيطان الدعم وتجليل الأراضي فقد كان الفلاحون يعملون فيها بينما يهتمون بالزيتون القديم في أودية البخينق بالاضافة إلى الكروم الجديدة القريبة من البيوت، وتسرح النسوة والأولاد مع الحيوانات البطالة وبعض الماعز أو الغنم في المنطقة. وبينما كانت جميلة زوجة جريس ترعى في الموميا وحيدة بين أشجار السنديان، إذا بالعتريسي يفاجئها. وكان العتريسي رجلا طويل القامة قوي البنية اسود اللون من بقايا آل سودون المصريين الذين كانوا حكموا المنطقة في فترة المماليك[[1]](https://www.facebook.com/groups/953593951384589#_ftn1)، ولكن الوائليين كانوا قضوا عليهم ولم يبقَ منهم إلا أفرادا يخدمون في حاشية البيك. وكان العتريسي على ما يبدو يتحدر منهم، وهو مسؤول عن جمع الضرائب في المنطقة، وبالتالي فهو يمثل البيك ويسكن بلدة الطيري. وفي تجواله كان قد رأى بأن هناك فتاة تبدو حسنة المنظر ترعى القطيع وحيدة، فاقترب وتحرش بها. لم تجرؤ جميلة أن تبوح لزوجها بما جرى، ولكنها قامت بالاعتراف للكاهن. لم يقدر الخوري عبد المسيح أن يبوح بالسر لجريس، ولكنه في نفس الوقت أعتبر بأن هذا الحادث سوف يجر الويل على الرعية، فقد يستذوق العتريسي، وربما غيره، مثل هذا التصرف ومن سيردعهم؟ ولمن نشتكي؟ فقرر أن يتشاور مع الختيار، عبدالله، حول الموضوع ومن دون أن يسمي الضحية. لم يسكت عبدالله عن هذا الأمر فالقضية خطيرة وعلينا التصرف بسرعة قبل أن تتطور. فأخبر ابنه جريس أثناء العمل بأن هناك من يتحرش بالنسوة ويجب ردعه. فقام جريس وكان قصير القامة نحيف الجسم فلبس ثياب امرأة وخبأ الشبرية تحت فستانه وذهب يرعى في الموميا. وما كان من العتريسي إلا أن فاجأه وهو منحني قائلا: “خليكي متل ما انتي”. بقي جريس منحني ولكنه أمسك الشبرية بيده وانتظر مهاجمة العتريسي، ولما اقترب هذا منه محاولا لمسه استدار وطعنه عدة طعنات أسقطته أرضا وولّى هو بالفرار. قدّر جريس بأن البيك لن يغفر له قتل زلمته فالتجأ عند عرب الخريسات في بلاد الشعب. أما الخوري الذي كان في اساس القضية فخاف أن يتكلم عبدالله للدفاع عن ابنه فيقرّ بأن الخوري هو من أخبر عن الموضوع، وبما أنه لا يريد أن يفصح بما جاء في سر الاعتراف، هرب هو الآخر إلى شرق صيدا حيث اختبأ في قرية الحمصية، ومن هناك أرسل رسالة إلى سيده المطران العاقوري الذي كان انتخب حديثا ليخلف البطريرك جريس عميرة على كرسي انطاكية وسائر المشرق ويصبح البطريرك[[2]](https://www.facebook.com/groups/953593951384589#_ftn2)رقم 54 في سلسلة بطاركة الموارنة ورقم 116 بعد مار بطرس على كرسي انطاكية. وقد أعلمه فيها بأن جريس الطويل قد هرب من البلدة ولا يوجد من يحمي السكان القليلين المتبقين فيها وقد يهرب الجميع تاركين كل شيء خلفهم.

درس البطريرك الوضع المستجد سريعا، فهو مهتم جدا بألا يغادر السكان البلدة، وبالرغم من أنه يعلم بأن الموضوع محق إلا أن القضية قد تأخذ وقتا طويلا لكي يتمكن من متابعتها على مستوى المسؤولين، ويجب الاسراع بدعم هؤلاء الفلاحين خوفا عليهم من الرحيل أو التعرض للاهانة. من هنا قرر ارسال أحد الرجال الأشداء والذي يتمتع بالحكمة والترّوي، وبنفس الوقت الشجاعة والحنكة. فقيل له بأن جريس دياب من بشري والذي يسكن في حدث الجبة، هو الرجل المطلوب. فأرسل البطريرك ودعى جريس للتشاور معه في الموضوع وعرض عليه أن يسافر إلى مزرعة عين إبل ليشجع السكان على الثبات ويسعى للصلحة ما أمكن. ولم ينتظر جريس دياب هذا لليوم الثاني بل، وفور انتهاء صاحب الغبطة من شرح الوضع، قرر التوجه إلى عين إبل تاركا عائلته في الحدث. ولما وصل إلى البلدة، وهو رجل قوي البنية طويل القامة تظهر قوة شخصيته في لفتته والعصا التي لا تفارقه، أعطى نوعا من الطمأنينة للأهالي، وخاصة أنه مرسل من قبل البطريرك، وقد قام فور وصوله بالتحدث مع عبدالله الطويل لفهم الموضوع، ومن ثم تشاور مع بعض أبناء المنطقة للتوصّل إلى اتفاق ما. وقد كان استعماله لاسم صاحب الغبطة ورغبته في حل الموضوع له وقع خاص عند البيك الذي تفهّم القضية، ولكنه طلب أن تدفع فدية القتيل مقابل السماح لجريس الطويل بالعودة إلى البلدة بعد مرور ستة اشهر على الأقل. وهكذا فقد جمع جريس دياب ما أمكن من المال، وكان البطريرك قد ساهم بقسم منه لحل المشكل، كما تبرّع عرب الخريسات الذين كانوا استقبلوا جريس الطويل واعتبروه أحدهم بجزء من الفدية، ومن يومها حُسب جريس الطويل بأنه واحد من عرب الخريشات وصار يعرّف عن نفسه بجريس خريش[[3]](https://www.facebook.com/groups/953593951384589#_ftn3). أما جريس دياب فقد وجد في اثناء اقامته في البلدة امكانيات كبيرة للعمل فاستقدم عائلته وسكن عين إبل.

كانت عين إبل بالنسبة لجريس دياب فاتحة خير فقد تمكن من الاستقرار بسهولة وعمل بسرعة على بناء بيت له بالقرب من الخربة التي كانت تضم بقايا الكنيسة القديمة. وبدأ أولاده الكبار ابراهيم وعبدالله يسرحون مع القطيع الصغير الذي اشتراه. وقام هو بالعمل بمساعدة زوجته في تجليل الأراضي المواجهة للجنوب الغربي. وقد زرع فيها العنب والأشجار المثمرة الأخرى، كون العنب يحب الشمس. وقد اصبحت هذه مع الوقت ما عرف بكروم الديابيي. وهي تبدأ من الشارع، اليوم، بين بيت نقولا بركات حتى بيت مسعود نقولا بركات تقريبا وصعودا باتجاه الشرق حتى الضهور. وكانت كل هذه الأراضي بور تكسوها بعض جباب السنديان وفيها الكثير من الصخور، ولكن بحسب خبرة جريس فإن وجهها القبلي، ولو كان منحنيا قليلا إلى الغرب، يبقى مهما، كون المقلب المواجه للجنوب كليا كان قد شغله عبدالله الطويل منذ قدومه، وهو جلل ما استطاع من الأرض التي تبدأ فوق بيوت الخربة تقريبا باتجاه الشرق والتي تواجه الجنوب كليا وتكمل صعودا باتجاه الغابة الكثيفة التي عرفت بالضهر العاصي، فالعنب خاصة يلزمه الكثير من نور الشمس لكي يحلو فيصلح للدبس والكحول والزبيب والمربيات عدا عن طعمه وهو أخضر. وقد أنعم الله على جريس بالاضافة لأولاده الثلاثة وابنته الذين كانوا ولدوا في الحدث قبل قدومه إلى عين إبل، بصبيين آخرين وابنتين كان آخرهم أبنه خليل.

كان لجريس إذا خمسة صبيان وثلاث بنات كبيرهم ابراهيم ثم عبدالله ويليه بركات وقد ولدوا ثلاثتهم في الحدث بينما ولد ابنه الرابع شاهين والصغير خليل في عين إبل. وقد حملت أبنته الكبرى، التي ولدت أيضا في الحدث، اسم مريم تيمنا بالسيدة العذرا، ومن ثم رزق بابنتين مرتا وسعدى اللتين ولدتا في عين إبل. وكانت الأمور عادت إلى طبيعتها شيئا فشيئا بعد مقتل الأمير فخر الدين وانتقال الامارة للشهابيين، ولو أن سلطة الشهابيين لم تشمل دائما بلاد البشارة هذه. وقد كبر الأولاد وتعلموا فك الحرف ومن ثم قراءة كتب الصلاة التي كان تركها الخوري عبد المسيح الطويل. وقد قرر جريس أن يرتسم ولده النبيه بركات كاهنا على عين إبل، ولذا فقد ارسله ليكمل تعليمه في جبال لبنان. وقد تزوج بركات من احدى قريباته في الحدث ورسم كاهنا قبل أن يعود إلى عين إبل ليمضي كل ايامه خوري رعية يجمع الكل ويرشد الصغار والكبار ويعمل كما الجميع في تحسين انتاج الأرض. وفي اثناء وجوده بالمدرسة كانت عين إبل بدأت تستقبل بعض العائلات الجديدة فقد قدم بطرس احد أولاد يوسف ضو الذي كان لقّبه المير فخر الدين “ابو عتمه” وقد كان سكن قرية مشموشة بالقرب من بكاسين كونه كان معروفا من قبل الاتراك بأنه من جماعة المير المخلصين ولذا فقد كان عليه الابتعاد ما أمكن عن مركز الامارة في دير القمر بعد اسر الأمير وسوقه إلى الأستانة. أما ابنه بطرس هذا الذي ترك مشموشة ووصل عين إبل فقد عرف ببطرس عتمه واستقر في البلدة حيث رحب به السكان ومن ثم بدأت عائلته تكبر. وقد اختار بطرس العمل في المقلب الجنوبي للأراضي القريبة من القرية بمحازاة كروم الديابيي كونها أيضا تواجه الجنوب وتتقبل أشعة الشمس. فبدأ هو الآخر باستصلاح الأرض وتجليلها ما أمكن لتصبح هي الأخرى كروما تنتج العنب وبقية أنواع الفاكهة. وقد ركز هؤلاء الكادحين على أن تكون الأراضي الواقعة في المنخفضات والمنحدرات حول الوديان مختصة لزراعة الزيتون. أما الزراعات الأخرى من الحبوب فقد استعملت لها الأراضي البعيد عن البلدة وحيث وجدت أية فسحة صالحة لذلك. وبعد سنوات قليلة وفي أيام الخوري بركات اي حوالي العقد الأخير من القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر التحقت عائلات أخرى بالبلدة منها بيت شحادة وبيت صادر الذين قدموا من درب السيم وقد استعملوا قسم من أرض بيت خريش القريب من البلدة ولم يكن سهل التجليل ومن ثم بيت خيرالله الذين قدموا من الجش وكان أصلهم من جبة المنيطرة وبيت عواد الذين قدموا من حصرون وكان لهم اقارب يسكنون في عيتا الشعب التحقوا فيهم فيما بعد.

في هذه الفترة تطورت البلدة وتركزت فيها مطحنة للقمح كانت بالقرب من بيت ديب الصيداوي اليوم يدور عليها حجر رحى كبير نسبيا تجرّه الحيوانات وقد يكون عمل فيها خيرالله أو أحد أقاربه الذي كان يدعى شباط والذي وصل حديثا وبنى بيته لاحقا بالقرب منها. وكانت الحجارة البركانية المستقدمة من حوران أو المناطق القريبة لجبل الشيخ تستعمل كجاروشة لطحن الحبوب ولكن على مستوى ضيق في البيوت وربما لطحن القمح أحيانا ولكن المطحنة الكبيرة أصبحت تقوم بالعمل على نطاق أوسع وأسرع. وقد تكون استعملت في الفترة الأولى معصرة مشابهة لدرس الزيتون على أن يضغط بعد طحنه تحت ثقل من الحجارة لكي يسيل منه الزيت. ولكن بعد فترة استقدم لولب خشبي كان يسرّع اخراج العصير من هذا الخليط بدل عناء استخدام ثقل الحجارة. وكان المحلول السائل يصفى بدوره في البيوت لفصل الزيت عن العكر. وفي هذه الفترة ايضا تنظمت الينابيع والبرك لسقاية الحيوانات من بركة الجاج وشلعبون إلى عين الحرية وعين طربنين وعين حانين والمحفرة التي أصبحت تتجمع فيها مياه الأمطار بعد أن حفرت لاستعمال ترابها في تطيين البيوت وسقفها. ومن ثم قدم أيضا بيت مطر واصلهم من الدامور. ووصلت فيما بعد عائلات جديدة منها بيت صقر الذين قدموا من بلاد جبيل وبيت الديك وهم ينتمون إلى بيت القزي ولهم اقارب في الجية. وقد شهدت هذه المنطقة قبل منتصف القرن الثامن عشر بروز ضاهر العمر الذي أعاد بناء عكا وفتح ميناءها وتحالف مع علي بيك الكبير والي مصر الذي كان على علاقة حسنة مع الأسطول الروسي والذي كان قضى بدوره على الاسطول العثماني سنة 1770 في معركة تشيزميه ما نشط التجارة خاصة بيع المنتجات الزراعية للسفن الأيطالية عبر ميناء عكا وكان مسدودا بحجارة القلعة وبقايا الأسوار منذ حروب بيبرس، فأمر ضاهر العمر بتنظيفه وأعاد استعماله كميناء. وقد شجع زراعة القطن التي كانت من المواد المطلوبة للتجارة مع أوروبا. وقام بمساعدة وزيره ابراهيم الصباغ باحتكار بيع كافة المنتجات الزراعية المرغوبة للتجارة الخارجية ما أعطاه مداخيل كبيرة لخزينته. وحاول ايضا فتح ميناء حيفا حيث اسكن بعض البدو من جماعته فيها. ومن جهة أخرى قد تكون حركة ضاهر العمر هذه شجعت الشيخ ناصيف النصار أحد زعماء جبل عامل لفرض سلطته على المنطقة واعمار تبنين وجعلها مقر حكومته. ومن ثم أعادة بناء صور التي كانت حتى سنة 1750 لا تعدو عن كونها قرية صغيرة فيها ملاحة وبعض الصيادين، فنظف ميناءها وأعاد فتحه ليستقبل سفنا أكبر ما زاد الحركة التجارية في المنطقة ودعا أكثر إلى الاستقرار. وقد حاول ضاهر العمر بعد فرض سيطرته على فلسطين التمدد صوب المناطق اللبنانية إلا أن ناصيف كان له بالمرصاد فحاربه في عدة مواقع ومناوشات منها البصة وطربيخا وميرون حيث رسم حدود سلطته ومن ثم اتفق معه على مساندته في وقف سيطرة المير يوسف على جبل عامل مدفوعا من والي الشام ما أدى إلى تنظيم الأخير حملة لتأديب الشيخ ناصيف الذي حاربه في موقعة الحولة محددا مدى سلطته ايضا من جهة الشرق وكأنه بذلك يرسم حدود لبنان الحالية. هذه التحركات السياسية والعسكرية جعلت من المنطقة أكثر حيوية فزاد التبادل التجاري وكثر القادمون للاستقرار فيها ومن هنا زيادة السكن في عين إبل. وقد حارب ابناء عين إبل في هذه الفترة مع الشيخ ناصيف وهذا ما يبدو واضحا لنا في اسم ناصيف الذي ظهر فجأة في العائلات الثلاث القديمة أي بيت خريش وبيت دياب وبيت عتمه وهم كان لهم علاقات ودية على ما يبدو بالشيخ ناصيف وبالجيرة لوجودهم فيها منذ مدة تزيد عن القرن من الزمن. وكان أبناء عين إبل في هذه الفترة يقومون بقطف القطن في سهول عكا ويأخذون أجرتهم قطنا يحلجونه ويغزلون خيوطه ويصنعون منها انسجتهم ما أعطاهم نوعا من الرفاهية لم تتوفر لبقية اللبنانيين. في هذه الفترة ايضا أي حوالي منتصف القرن الثامن عشر زادت الحاجة إلى معلمي العمار المقيمين في البلدة لزيادة الطلب على بناء البيوت الكبيرة نسبيا لتستوعب أعدادا أكبر وكميات أكثر من الغلال والبضائع. فاستوطن فيها بعض معلمي العمار من طائفة الروم الكاثوليك وكانت حديثة التكوين يومها فعرفوا ببيت العمار نسبة للمهنة التي مارسوها. وكما الحاجة إلى العمارين كانت هناك أيضا حاجة للصنايعية الذين يجيدون التعامل مع المعادن وتصليح آلات الانتاج المتعلقة بالأرض والعمل فيها وخاصة سكك الفلاحة والمعاول والفؤوس وغيرها من العدة. وكان ابناء البلدة مضطرين للذهاب قبل ذلك إلى تبنين لتصليح وصقل آلاتهم عند أحد الحدادين. ثم ما لبس أن قدم إلى عين إبل أحد هؤلاء بشكل موسمي حيث كان يقضي شهرا في أواخر الصيف يعمل فيه على تصليح وصقل كل الآلات التي تحتاج لذلك ومن ثم يعود إلى تبنين. ولكن الأهالي أقنعوه في نهاية الأمر على البقاء في البلدة طالما هناك مجال عمل لصنعته ومن ثم بدأ هو أيضا بالعمل بالأرض بعد أن يفرغ من أعمال الحدادة. وقد اضاف مصلحة مهمة فيها استقطبت الكثير من الفلاحين القادمين من القرى المحيطة. أما بيت الصيداوي وهم ايضا من الروم الكاثوليك فقد قدموا في نفس الفترة أو مطلع القرن التاسع عشر أي بعد موت الجزار واستقرار الأوضاع مع حكم الأمير بشير الشهابي حيث عادت التجارة إلى موانئ الساحل في صيدا وصور، وكانوا ثلاثة اخوة من صيدا يعملون بالتجارة خاصة تجارة الحبوب بين حوران والساحل، وقد سكن أحدهم في عرنا قرب مجدل شمس في المقلب الشرقي لجبل الشيخ وكانت مهمته شراء الحبوب من سهول حوران وتجميعها وتحضيرها لتنقل إلى الساحل بينما سكن شقيقه الثاني في عين إبل التي اعتبرت المحطة الرئيسية لقوافل التجار هؤلاء حيث تستقبل البضائع القادمة من حوران ومن ثم تعيد شحنها إلى الساحل خاصة صور وصيدا حيث بقي الأخ الثالث المسؤول عن بيع هذه البضائع. وقد استوطن البلدة أحد العاملين معهم بقوافل النقل بين عرنا وعين إبل وكان من بيت أبو غنام. ومن ثم جاء بيت فرح الذين سكن أقاربهم في القوزح وعلما وكفر برعم وبيت اسحاق الذين لهم اقارب في دبل وبيت كرم الذين يعود أصلهم إلى منطقة زغرتا وكلهم من الموارنة أما بيت سماحة الذين قدموا من الخنشارة وكانوا سكنوا فترة في زحلة قبل وصولهم إلى عين إبل وعرفوا ببيت الزحلاوي فهم من الروم الكاثوليك.