سليم نصار/انتهى عصر النفط وبدأ عصر القحط

308

انتهى عصر النفط وبدأ عصر القحط!

سليم نصار

  الحياة/20.12.14

في آخر عام 1993 صدر في ألمانيا كتاب بعنوان «قرن من الحروب»، قام بإعداده الباحث وليام انغدال. ومع أن المؤلف لم يكن كاتباً معروفاً، إلا أن اهتمام القراء بمضمون البحث الذي شرحه فرض على دور النشر العالمية ترجمته إلى أكثر من عشرين لغة.

يقول المؤلف في مقدمة الكتاب إن القرن العشرين شهد مجازر حربَيْن عالميتين لم يعرف تاريخ البشرية فظاعات بحجم الفظاعات التي ارتُكِبَت خلالهما. وفي عام 1944 بدأت بشائر السلام تحل على الأرض، مرحّبة بغد أفضل يمكن للشعوب استثماره لبناء عالم أكثر استقراراً وبحبوحة.

وفي 16 كانون الثاني (يناير) 1991 تضاءلت فرص السلام بعد حرب مدمرة في العراق، وسقوط ما يعادل نصف مليون طن من القنابل على بغداد.

وعندما يصل المؤلف في المقدمة إلى هذا التاريخ يزعم أن قرار ضرب العراق لم يكن مرتبطاً بعملية غزو الكويت من قبل قوات صدام حسين… وإنما – بحسب تحليله – كان حصيلة خطط قديمة بدأها الغرب مع اكتشاف حقول النفط.

وهذه الخطط بدأت بحادث منفصل لم يعرهُ المؤرخون أي اهتمام. ولكن المواطنين الإيرانيين يتذكرونه، ويتناقلون حكايات بطله بكثير من الإعجاب والفخر. وكان البطل يعمل مهندساً في شركة بريطانية متخصصة في التنقيب والحفريات. وصودف أن تلقى برقية من الإدارة في لندن تطلب منه وقف العمل في منطقة جبال خوزستان، لأن الشركة أفلست. والثابت أنه دسَّ البرقية في جيبه، وتجاهل الرد عليها، لأن النفط كان قد تفجّر بغزارة، وغيّر مستقبل الشركة… ومستقبل العالم.

وكانت الامبراطورية البريطانية أول مَنْ تأثر بذلك الاكتشاف (ربيع عام 1908) بحيث جعلت من المحافظة على طريق الهند قاعدة أساسية لسياستها الخارجية. وظلت اهتمامات شركات التنقيب محصورة في البحث عن النفط الإيراني عقب اكتشاف بئر مسجد سليمان. ولكن اكتشاف بئر كركوك في شمال العراق بدَّل وجهة نظر الخبراء. وبعد انقضاء ربع قرن تقريباً على اكتشاف نفط العراق، ظهر النفط في البحرين، ثم في الكويت وجنوب العراق.

وبعد اكتشاف متأخر لنفط المملكة العربية السعودية، أصبح الخليج العربي مطمعاً لكل الدول الكبرى الساعية إلى تأمين تقدم صناعي مرموق. ومع ازدياد الحاجة إلى الطائرات والسيارات أصبحت دول «أوبك» قوة اقتصادية قادرة على التحكم بالأسعار.

ومع ولادة «أوبك» ازداد خوف الدول المستهلكة من قدرة هذه المنظمة على ضبط الأسعار بطريقة تخدم مصالحها. خصوصاً أنها أنشئت بهدف ضمان حقوق الدول المنتِجة للنفط، في وقت كانت هذه الصناعة تخضع للاحتكار.

تهدف سياسة المنظمة، كما أعلنت عقب الإعلان عن تأسيسها في بغداد عام 1960، إلى الحفاظ على استقرار أسعار النفط. ولتحقيق ذلك، تتحكم 11 دولة في كمية النفط الخام التي تصدرها، وتتجنب إغراق السوق العالمية أو التضييق عليها.

عام 1965 نقلت هذه المنظمة مقرها إلى فيينا بسبب سهولة الوصول إليها وارتياح كل الأعضاء إلى حيادها. وتشكل صادرات الدول الأعضاء ما يزيد على نصف صادرات العالم من النفط الخام. ويرى الخبراء أن تحديد موازنة سوق النفط ليس بالأمر السهل. والسبب أن مصالح الأعضاء قد تتعارض في معظم الأوقات.

وتضم المنظمة حالياً 12 دولة هي: السعودية والجزائر والإمارات وإندونيسيا وإيران والعراق والكويت وليبيا ونيجيريا وقطر وفنزويلا وأنغولا.

ويُعتَبر تأثير «أوبك» على الأسواق العالمية كبيراً وحاسماً منذ أزمة عام 1973 حين اندلعت حرب أكتوبر بين العرب وإسرائيل. يومها – وبتوجيه من العاهل السعودي الملك فيصل – فرضت المنظمة حظراً على الدول الغربية التي تدعم إسرائيل. وكان من الطبيعي أن ترتفع أسعار النفط أربعة أضعاف خلال أربعة أشهر.

وهذا لا يعني أن أسعار «أوبك» ظلت تخضع لإرادة أعضائها منذ تأسيسها عام 1960. ففي كتابه وعنوانه «فياسكو» – أي إخفاق تام – يشير المؤلف الأميركي جاك أندرسون إلى حادث بالغ الخطورة رواه له هنري كيسنجر. وكان أندرسون في مطلع السبعينات يُعتَبَر أهم محلل تلفزيوني في الولايات المتحدة.

وهو يعترف في كتابه أن وزير الخارجية كيسنجر قرر منح شاه إيران صفة الشرطي المراقب على كل دول منطقة الخليج. والغاية من وراء ذلك تحصينه داخلياً أمام تظاهرات الملالي. وقد رحب الشاه بذلك الدور الذي اعتبره مدخلاً لأحلامه «الطاووسية» في استرجاع أمجاد الامبراطورية الفارسية.

وفي تموز (يوليو) 1972 أصدر كيسنجر مذكرة إلى البنتاغون تقضي بمنح إيران كميات ضخمة من سلاح الجو والبحرية. ولما وصلت الشحنات المطلوبة إلى طهران، اتفق كيسنجر مع الشاه على ضرورة رفع سعر برميل النفط من 5.04 دولار إلى 11.65 دولار. ودعا الشاه منظمة «أوبك» إلى الموافقة على تلك الزيادة بحجة تأمين وفرة اقتصادية لكل بلدانها. واعتُبِرت تلك الزيادة أخطر قرار اتخذ في تاريخ «أوبك.» كل ذلك من أجل تأمين المدفوعات لوزارة الدفاع الأميركية من جيوب المستهلكين المحتجين. وكان أول المحتجين على الزيادة وزير النفط السعودي في حينه أحمد زكي يماني.

وخوفاً من إفشال الصفقة، أرسلت الإدارة الأميركية وزير المالية وليام سايمون الذي زار الرياض في صيف 1974. وأبلغه الوزير يماني أن هذا القرار العشوائي سينعكس في شكل سلبي على المستهلك الأوروبي، على اعتبار أن الحكومات سترفع الضرائب على الشعب، خصوصاً بعدما اعتادت على أسعار نفط رخيصة. واقترح يماني الاتفاق على تحديد سعر وسط لا يزيد على سبع دولارات للبرميل الواحد. وتظاهر سايمون بالقبول، ولكنه غادر إلى واشنطن ولم يعد. وهكذا استمر سعر النفط في الصعود.

بالعودة إلى كتاب الألماني وليم انغدال، نكتشف أن هزيمة هتلر في الحرب العالمية الثانية ترجع في أهم أسبابها إلى الحاجة الملحّة إلى النفط. وهو يذكر أن البرقيات التي أرسلها رومل، من جبهة العلمين، كانت تتضمن إشارات واضحة إلى الشلل اللوجستي بسبب فقدان النفط. وهذا ما حدث على الجبهة الروسية. علماً أن الفوهرر كان يطمح للوصول إلى العراق وإيران على أمل سدّ هذه الثغرة القاتلة.

ويختم انغدال كتابه بالتأكيد أن هذه المادة الحيوية ستظل المحرك الأساسي للحروب الكبيرة والصغيرة في العالم. وبحسب تصوره فان هذه النعمة تحولت إلى لعنة… وأن الاستقرار العالمي لن يُبصر النور إلا إذا توافرت البدائل. ويبدو أن البدائل الممثلة باستخدام النفط الصخري هي أيضاً عاجزة عن تأمين عصر بعيد عن الأزمات والانهيارات. خصوصاً أن شركات النفط الصخري الأميركي توقفت عن حفر آبار جديدة، بسبب هبوط أسعار النفط في غرب تكساس إلى ما دون 55 دولاراً للبرميل. وهذا يعني أن إنتاج النفط الصخري الأميركي سينخفض في النصف الثاني من عام 2015.

ويُجمع الخبراء على القول إن تأثير إنتاج النفط الصخري على الأسواق العالمية لن يظهر قبل نهاية العام المقبل. ويقدَّر عدد الشركات المرشحة للإفلاس بأكثر من 80 شركة من أصل 170 شركة أميركية. والسبب أنها عاجزة عن خدمة ديونها المرتفعة، وسط ضمور مصادر السيولة، والانهيار المتواصل في أسعار أسهمها.

وفي هذا السياق، تطالب غالبية أعضاء الكونغرس الأميركي بضرورة تشديد العقوبات المفروضة على روسيا وإيران. ويلاحظ المصرفيون أن الروبل الروسي كان الأكثر تأثراً بالأزمة الحالية، لأنه فقد ثلث قيمته أمام العملة الأميركية.

ويعاني الاقتصاد الروسي، الذي يعتمد بقوة على صادرات الطاقة، من ضغوط قوية نتيجة انخفاض أسعار النفط العالمية والعقوبات الغربية على موسكو بسبب أزمة أوكرانيا.

ومنعاً لازدياد مخاوف المواطنين القلقين، قام الرئيس فلاديمير بوتين بزيارة مفاجئة لتركيا حيث اجتمع بنظيره رجب طيب أردوغان ورئيس الحكومة أحمد داود أوغلو. وصدر عن اللقاء بيان مشترك يؤكد تعزيز نشاط موسكو في السوق التركية. وكان من نتيجة انخفاض أسعار النفط أن ازدادت حدة التوتر داخل الدول التي تعتمد على العائدات النفطية، مثل العراق وفنزويلا وروسيا وإيران.

ومن المتوقع أن تبقى أسعار النفط ضعيفة عام 2015، بسبب استمرار الفائض في العرض العالمي، الأمر الذي ينعكس في شكل سلبي على دول «أوبك» أيضاً.

ويعزو الخبراء أسباب تراجع الأسعار إلى عدة عوامل، بينها: ثورة النفط الصخري في الولايات المتحدة حيث تسجل فورة في الإنتاج… ورجوع عدد من الدول المنتجة إلى الأسواق مثل ليبيا… وضعف الاستهلاك على خلفية نمو اقتصاد بطيء ومتعثر في الصين أولاً، وفي الدول الأوروبية ثانياً.

على صعيد آخر، يحذر الرئيس بوتين الغرب من مضاعفة الضغوط الاقتصادية ضد نظامه، بحيث يضطر إلى توسيع حرب أوكرانيا بهدف امتصاص السخط العام، وتحويل انتباه المواطنين عن المتاعب الاقتصادية.

أما بالنسبة إلى رد فعل إيران، فان مقاومتها للضغوط الاقتصادية ستكون موزعة على ساحتَيْن مؤثرتين: الساحة اللبنانية حيث يرفع «حزب الله» تحديات المواجهة ضد إسرائيل… والساحة اليمنية، حيث يزداد طوق الحوثيين على الحدود المتاخمة للسعودية، وعبر مضيق باب المندب.

وفي الخلاصة، أعلنت «أوبك» أن الطلب العالمي على النفط سيكون أقل من المتوقع، وأقل بكثير من مستويات الإنتاج الحالية في ظل طفرة النفط الصخري. وهي تتخوف من عواقب إقحام دورها في مسألة مفتَعَلة بهدف تفكيكها وشرذمتها، مثلما تتفكك وحدة العالم العربي، وتتشرذم شعوبه الغافلة.