بول ناصيف عكاري: الرئيس…والمرفأ

101

 الرئيس…والمرفأ
بول ناصيف عكاري/الكلمة أولاين/27 كانون الأول/2021

في ثمانينات القرن المنصرم وبشكل فجائي تم “قبع” القاضي كارلو باليرمو في إيطاليا. اشتهر هذا القاضٍي بتحقيقه الجنائي، الضخم والمتشعب والعابر للدول، في شبكة دولية لتهريب المخدرات والأسلحة حتى أنه تجرأ واتهم رئيس الوزراء آنذاك بيتينو كراكسي في الاتجارغير المشروع بالأسلحة. لقد واجه بادعاءاته عددًا كبيراً جداً من أجهزة المخابرات، والسياسيين الأقوياء وممولي الأحزاب، وموظفي الدولة الفاسدين ، والمصرفيين الملتويين ، والدبلوماسيين المتواطئين فيما بينهم بالرغم من انتمائهم إلى معسكرين عدوين. وب”قبعه” وضعت أكثر الأدلة القاطعة تحت الختم القضائي لمدة أربعة عقود.

في ذروة العنف الطرابلسي عام 1984، تركز الصراع على السيطرة على ميناء المدينة والتجارة المربحة من الحشيش والتهريب. كما يعتبر معظم المحللين أنّ اشتباكات طرابلس كانت حرب عصابات وليست صراعات طائفية. وما أدراك ماذا فرخ هذا المرفأ من سياسيين وشبيحة وأغنياء جدد! وفي أوائل آذار من عام 1989 شن العماد عون حصارًا جوياً وبحرياً على طول الساحل لطرد الميليشيات من جميع المواني الشرعية وغير الشرعية واصفاً إيّاها بـ “أوكار الإرهاب وتهريب المخدرات”. بالنسبة إليه، عند إغلاق تلك المواني ، فإن “قادة الميليشيات سيعلقون بين المطرقة والسندان وسوف يضحون بلا المال لدفع رواتب مقاتليهم” وبالتالي “سوف يتفككون تدريجياً”. مناورة الجنرال جاءت بلا جدوى لأن الدنيا قامت حينها ولم تقعد لغاية اليوم. من المفترض أنه لو نجحت هذه المعركة لسلم لبنان وأهله…

اقتصاديا،ً دخل لبنان الكبير المعترك الدولي خاوي اليدين بعد انهيار صناعة الحرير وتأثير المجاعة وهجرة بنيه على بنيتيه الاقتصادية والاجتماعية. مع ميشال شيحا اعتنق لبنان الجديد مفهوم “جمهورية التجار” لينتقل بعدها إلى “جمهورية المخدرات” ومن ثم ومع الحرب الأهلية غير الأهلية، إلى “جمهورية الميليشيات” لينتقل مع الطائف إلى “جمهورية المافيا” والتي تتحول حالياً إلى “الجمهورية الفاشلة”.

القاسم المشترك لجميع تلك المراحل هو وهن الدولة ومؤسساتها، مما سمح لأمراء الحرب ورجال الأعمال والسياسيين والأمنيين الجشعين من الاستفادة من انهيار سلطة الدولة وانعدام الأمن الاجتماعي من أجل النهب والقتل وسرقة الأموال بقوة سلاحهم غير الشرعي. أنشطة الحرب الأساسية والتي ما زالت مستمرة تتمحور حول الاتجار بالمخدرات مقابل السلاح والمال ، الاتجار بالمحروقات وتهريبها، الاتجار بالممنوعات، التسلط على ونهب الأراضي والمشاعات، واستغلال أموال المهاجرين الشرعية وغير الشرعية. يتبيّن أن كلّ عامل من تلك الأنشطة وبالتكافل والتضامن مع العوامل الأخرى كان له الدور في صناعة واستمرار وإطالة أمد الحرب. هل يعقل أن الحرب في لبنان هي عملية طبيعية مستمرة ومستدامة وبرضى جميع الأطراف الذين يتنافسون على كمية الأموال المكدسة؟

عليه، يمكن تشريح ما يعرف بالدولة اللبنانية إلى عضوين: الدولة السفلى والدولة العليا. بكلّ بساطة، الأولى هي المنظومة التي ترعى أنشطة الجريمة المنظمة بكلّ تجلياتها. أمّا الثانية فتشتمل على “منظومة الدولة الفاسدة” عمادها الفساد والارتهان ونهب مقدرات الدولة والتهرب الضريبي وعلى نقيضتها “الدولة الشرعية الوطنية”.

الأمم المتحدة تعرّف الجريمة المنظمة بأنّها عمل إجرامي مستمر يسعى عن قصد إلى الربح من الأنشطة غير المشروعة التي غالبا ما يشتد الطلب عليها. تحافظ على استمرار وجودها من خلال إفساد الموظفين العموميين واستخدام الترهيب أو التهديدات أو القوة لحماية عملياتها. وبحسب الإنتربول تنخرط شبكات الجريمة المنظمة عموماً في أنواع كثيرة من الأنشطة الإجرامية في بلدان عدة، ومنها مثلاً الاتجار بالبشر والمخدرات والسلع والأسلحة غير المشروعة، والسطو المسلح، والتزوير، وغسل الأموال، والإرهاب.

مما لا ريب فيه أن وزارتي المالية والأشغال هما الدعامتان الأساسيّتان لعمليات الدولة السفلى ومما لا شكّ فيه أن القضاء الفاسد والأمن المتورط هما صمام الأمان لتلك التركيبة العضوية. أما من هو ملتوٍ من القطاع المصرفي فمهمته الأساسية عمليات الحفّ والتنظيف والغسيل وإعادة التدوير. أضف إليهم المنظومة الدينية التي تحمي كلّ من هو خارج على تعاليم الأديان. من يسيطر على المالية يسيطر على الجمارك وعلى مصرف لبنان وبالتالي على المصارف وعلى العقارية ومشاعاتها والكازينو وما شابه ويتسلبط على الموردين ومقدمي الخدمات. من يسيطر على الأشغال يسيطر على جميع المرافئ التجارية والسياحية والمطارات والمعابر البرية ويعطل جميع أجهزة السكانر والمعلوماتية. كما يسيطر على طيران الشرق الأوسط وخدمات المطار وعلى لجان المرافئ. ومن يسيطر، بنفس الوقت، على المالية والأشغال يسيطر على الدولة السفلى…وفهمكم كفاية! من أجل استمرارية مبدأ ال 6و6 مكرر أو القسمة الأخوية، نلاحظ أنه تم اخضاع وزارتي الخارجية التي تسيطر على الحقيبة الدبلوماسية والطاقة التي تسيطر على قطاع المحروقات ومشتقاتها للفريق الحليف. وفهمكم كفاية لماذا وصلت الامور إلى ما نحن عليه…

من المرجح أن عملية “قبع” البيطار هي مشابهة لعملية “قبع” باليرمو ومن أجل منع فضح ما كان يجري في مرفأ بيروت واستطراداً في باقي المرافئ البحرية والجوية والبرية. القضاء على العالم السفلي سيقضي تلقائياً على شرور العالم العلوي، والقضاء عليهما كفيل بإنهاء الحرب اللبنانية. معركة “القبع” إذاً، هي بين العالم السفلي والشعب اللبناني الشريف المنهوب والمكسور الخاطر المتمثل بالقاضي بيطار والقضاة الشرفاء.

رئيس الجمهورية يُريد أن ينهي عهده بإنجازات والمطلوب منه ثلاثة. أولاً إنهاء ما بدأه كرئيس وزراء بالطلب من الأمم المتحدة وضع يدها على جميع المرافئ البحرية والجوية والبرية وإدارتها وتطويرها وتحصيل الأموال من عملياتها لصالح العدالة الاجتماعية. الثاني، الطلب أيضاً من الأمم المتحدة وضع يدها على قطاع النفط والغاز بإدارة دولة النرويج وتوضع الأموال في صندوق سياديّ استثماري خاص لا يمكن مسه طالما الحرامية على قيد الحياة. والأخير يتناول البدء الفوري في مناقصة شفافة وفعالة لبناء محطات لإنتاج الكهرباء.

عليه، على الباحثين والمؤرخين الأخذ بعين الاعتبار ما تقدم لفهم حقيقة الحرب اللبنانية وأسبابها ووقودها ولماذا هي مشتعلة دوماً ومستمرة منذ القرن السابع عشر. والسؤال الذي يطرح نفسه: الحرب الأخيرة، هل هي فعلاً أهلية أم حرب مصالح بأعذار اجتماعية وبغطاء مذهبي بحيث جُرّ الأهالي إلى هذا الفخّ؟ وهل من الممكن إعادة تسميتها بما يتناسب مع واقعها الفعلي؟ المؤكد أن الحرب لم تحلّ المسائل التي من أجلها خيضت…