د. منى فياض: هل تحتلّ إيران لبنان؟…لرافضي كلمة احتلال، خذونا بحلمكم، مشكلتكم في التمسّك بمفاهيم لم تعد تتلاءم مع الواقع المستجدّ

198

هل تحتلّ إيران لبنان؟…لرافضي كلمة احتلال، خذونا بحلمكم، مشكلتكم في التمسّك بمفاهيم لم تعد تتلاءم مع الواقع المستجدّ.

د. منى فياض/الحرة/19 كانون الأول/2021

هذه الطُّرفة تفسّر الوضع في لبنان: “واحد حمل التاني عكتافو وفاتوا سرقوا الكرم، الحامل حلف أنّه لم يمدّ يده على شيء والمحمول حلف أنّه لم يدعس بالكرم”.

تستفزّ الحزب وجمهوره كلمة احتلال. يعلنون تبعيّتهم المطلقة حدّ الولاء ل#إيران، ثمّ يعترضون على التسمية. لماذا؟ لأنّهم يحملون الجنسية اللبنانية! لكنّهم حينئذ يتناسون أمرين:

 1- أنّ الجنسية توجب الولاء المطلق ممن يحملها.

 2- أنّ جميع الاحتلالات لجأت إلى خدمات مواطنين من الدولة المحتلة، لأسباب متنوّعة. ولهذا الموقف تسمية وحيدة: خيانة وطنية. أمّا هم فيفتخرون بذلك، تارة لأنّ مذهبهم على مذهب إيران، وطوراً للهدف الذي يجمعهم: تحرير القدس.

لقد غطّت إيران عداءها بخبث، باستغلالها قضية فلسطين. سلّحت مجموعة لبنانية أعدّتها منذ قيام الثورة الإسلامية وأسمتها “#حزب الله”، الذي سرعان ما احتكر “المقاومة”، بعد اغتيال رموز فكرية شيعية وقيادات من المقاومة الوطنية. احتكروا تحرير الجنوب وفلسطين كمهنة لهم. وهذا كان أوّل مسمار في نعش نزاهتهم. المقاومة لا تُحتكر.

حتى عندما هبّوا للدفاع عن النظام السوري الذي حمى الحدود الإسرائيلية لمدة 40 عاماً، رفعوا شعار فلسطين، وقرّر السيد #حسن نصرالله أنّ طريق القدس تمرّ من القصير وحلب وحمص وغيرها. سبق كلّ ذلك إعادة توجيه “السلاح المقاوم” من إسرائيل إلى صدور اللبنانيين منذ 2008، وصولاً إلى قمع ثورة #17 تشرين وتحت شعارات مذهبية: شيعة شيعة. وآخِر تمرين لهتّافي الفتنة الطائفية كان في عين الرمانة.

الملفت أنّهم بعد أن استنكروا طويلاً ربطهم بإيران، اعترف السيد نصرالله، في معرض المزايدة على الشعب اللبناني ومناكدته، أنّ ماله وأكله وشربه وصواريخه، التي تتكاثر تحت أنف الشرعية الوطنية والدولية وقراراتها، من إيران التي يخدمها، وأنّه سيكون بخير طالما إيران بخير. لقد استخدم لبنان كقاعدة انطلاق ليحارب عنها ويوسّع نفوذها؛ ولم يُخْفِ يوماً أنّه يخطّط لتغيير هوية لبنان وجعله دولة إسلامية خاضعة لنفوذ إيران.

هذا الحزب، بهذه المواصفات ينفي هيمنته على القرار السياسيّ. هو فقط يعطّل الحكومة وقراراتها، ولطالما عطّلها. أمّا التداعيات الكارثية الناتجة، فليست مشكلته.

وللدقّة، إنّ أوّل من استخدم كلمة “احتلال” لوصف واقع الحال، هم المسؤولون الإيرانيون أنفسهم، في تصريحاتهم المشهودة بأنّهم “يحتلّون” أربع عواصم عربية! لم نسمع من الحزب وممن يرفض كلمة “احتلال إيرانيّ” أيّ اعتراض حينها! بل ورحّبوا بتصريح قاسم سليماني قبل مقتله بأنّ له 74 نائباً في البرلمان اللبناني!

فهل تحتل إيران لبنان؟ البعض ينفي ويحلف أنّها لم تدعس الكرم.

نقل طاهر أميري قبل أسبوع عن صحيفة إيرانية اعتبار دوائر السلطة هناك أنّ قرار إنشاء جبهة المقاومة كان أفضل استثمار حققته إيران. وينقل أنّهم يدرّبون أعداداً من مقاتلي “حزب الله” اللبنانيّ على التحدّث بالفارسية بُغية الانتشار الداخلي المحتمل، عند الحاجة، لحماية النظام من الثورات داخل إيران. ويرى الباحث رضا محمدي أنّ خامنئي يعدّ “حزب الله” كالحرس الإمبراطوري المستعدّ للقتل والموت من أجله، حتى لو تخلى عنه الحرس الثوري و”الباسيج”.

قد تكون هذه مبالغات، لكن طالما جاء على لسان المسؤولين الإيرانيين، أنّهم دون “جبهة المقاومة”، لن تكون هناك إيران!

السؤال يوجّه لمن يرفض أنّ إيران تحتلّ لبنان، بحجّة عدم وجود جيش إيرانيّ: لو إنّ إيران قرنت القول بالفعل وأرسلت جيشها لتحتلّ لبنان هل سيقاومها “حزب الله”؟

ثمّ ما الدافع كي تتكبّد إرسال جيشها ليحتلّ لبنان بوجود من يقوم عنها بذلك؟ لقد أرسلت خبراء ومستشارين داخل حدودنا الفالتة لتدريب مقاتلين تابعين لها يأتمرون بأوامرها! ما يعفيها من تحمّل أيّ كلفة لتبعات الاحتلال، وأيّ مسؤولية عن إفلاس الدولة وانهيارها.

بماذا تختلف مفاعيل أعمال “حزب الله” عن الاحتلال؟ وهل كون القائمين به شيعة لبنانيين يمنعنا من تسمية الفعل باسمه؟ لماذا؟ لأنّ التخلّص من الاحتلال سيعني التخلّص منهم أيضاً كأفراد؟ أي طردهم؟ فهل طُرِدَ الفرنسيون الذين تعاونوا مع الاحتلال الألمانيّ بعد دحره؟

يقترح علينا البعض أنّ لبنان بلد مخطوف! فليشرح لنا أحد معنى دولة مخطوفة؟ وهل الخطف أقلّ جرمية من الاحتلال؟ وماذا يترتّب قانونياً وتشريعياً على فعل الخطف غير المسبوق بين الدول؟ أيّ عقاب سنطبّق على الخاطف، دولة أو حزب، ذلك المتّبع في حقّ الأفراد؟ وهل جرم الخطف أخفّ وطأة من جرم الاحتلال؟ ألا يمكن للخاطف أن يقتل رهينته؟ أليس ما يحصل للشعب اللبناني نوعاً من القتل الجماعي؟

وكيف يقرأ المعترضون على كلمة احتلال تصريح الشيخ نعيم قاسم الفخور بلبنان الذي نعيشه إنّ المقاومة في لبنان “ثابتة” (عكس متحوّلة)، مهدّداً الشعب اللبناني “من أراد التحق بنا ‏ومن لم يرد فليبحث عن حلّ آخر”. هل يعني ارحلوا عن البلد! وللصدفة عنونت جريدة “الشرق الأوسط” في اليوم نفسه أنّ “ميليشيات إيران تقول للسوريين: الولاء… أو الرحيل”!

وأخيراً فليخبرنا رافضوا الاحتلال من وضعه أفضل، الفلسطينيّ الذي تحتله إسرائيل أم اللبناني الحر في بلد “المقاومة”؟ هل يتنعّم السوريّ بـ”حماية” حكوماته؟ أليس النظام من جلب الاحتلالات وجيوشها إلى سوريا للاحتفاظ بالسلطة؟ هل نضيف لقاموسنا: احتلال بالواسطة؟

إنّ الحريصين على استخدام المفاهيم والتعابير الدقيقة، الذين يستشهدون بأنظمة لاهاي لعام 1907 واتفاقية جنيف الرابعة التي تحدّد معنى احتلال، وكلّها صيغت في مطلع القرن الماضي وفي سياق الحروب الكلاسيكية بجيوشها ومعاركها واجتياحاتها واحتلالاتها، ربما عليهم، وعلى الأمم المتّحدة، إعادة التفكير بالمصطلحات الجامدة التي لم تعد ملائمة: ففي مرحلة الثورة الرقميّة وحقبة الذكاء الاصطناعيّ والحروب السيبرانية في عالم افتراضيّ، فقدت تلك التعريفات والتشريعات قدرتها على الاستجابة للتحديات المستجدة في عالم متغيّر بسرعات غير مسبوقة، بسبب الثورة المعرفية والقفزات التي تحملها التقنيات الحديثة مع ثورة المعلومات التي لا تنتهي مع النانو ولا مع ما ينتظرنا من اختراعات وادي السيليكون فالي…

لقد تغيّرت النشاطات الحربية والعسكرية وتغيّرت وظيفة الجيوش وصارت تعتمد تقنيات الذكاء الاصطناعي الرقمية. الحرب تمارس عن بعد، لن تضطرّ الجيوش بعد الآن إلى احتلال واجتياح البلدان بجيوشها الجرارة ولو أنّها تمتلكها. يكفي تعطيل قدرات العدو باستخدام لوغاريتمات وبرمجيات ودرونز لتفجير منشآت أو لتفجير البشر المقصودين. وما زلنا نسمّي الحرب، حرباً!

نصحنا فوكو في كتابه “الكلمات والأشياء” ألّا نثق بالكلمات لأنّها تخدعنا، فهي لا تصف الأشياء دائماً، فاللغة في زمن آخر، لا تعود مبنية على الكلمة الأولى التي تمّ تأسيسها من خلالها. لنأخذ كلمة دولة نفسها، أيّ علاقة للدولة الوطنية الحديثة بالدولة العباسية؟ أو البويهية؟ أو دولة القرامطة؟

لماذا لا تقبلون إذن بتغيّر شكل الاحتلال؟

فلرافضي كلمة احتلال، خذونا بحلمكم، مشكلتكم في التمسّك بمفاهيم لم تعد تتلاءم مع الواقع المستجدّ.

الجمود الفكريّ هو أحد أسباب الانحطاط، وأحد نتائجه.