جورج سمعان/التعاون بعد قمة الدوحة وخريطة قطر

286

«التعاون» بعد قمة الدوحة… و«خريطة» قطر

جورج سمعان/الحياة/15.12.14

البيان الختامي للقمة الخليجية في الدوحة واضح. وكلمات القادة واضحة أيضاً، خصوصاً كلمة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. طوى مجلس التعاون صفحة الاضطراب التي كادت أن تهدد وحدته. لم يعد خروج دولة قطر أو إخراجها من المجلس وارداً. جدد القادة إيمانهم بأهمية بقاء هذه المنظومة ووحدتها. لكن ثمة قراءة أخرى ليس لما تضمنته كلمة المُضيف، أو لما حمله البيان الختامي، أو لما أوجبته «المصالحة» من التزامات فحسب، بل لواقع السياسة التي تعتمدها دول هذا التكتل على طول الخريطة العربية. ستظل هناك تباينات واختلافات في الرأي والموقف من قضايا كثيرة كانت موضع شد وجذب طوال الأشهر، بل السنوات الماضية.

رسخت قمة الدوحة حتمية بقاء هذه المنظومة الإقليمية. لكن التغني بإعادة بث الروح فيها بعدما كانت مهددة بالتفكك والتشرذم ليس كافياً. التحديات التي تعيشها المنطقة لا تسمح بفترات اختبار لما التزمت به الدوحة في لقاء الرياض، أو لمدى التزام الدول الست بما حمل البيان من مقررات ومواقف، خصوصاً في القضايا السياسية الدولية والإقليمية. ربما المطلوب، في المدى المنظور، التعايش مع هذه التباينات والسعي إلى توظيفها في مواجهة هذه التحديات. تعيش المنطقة اليوم على وقع تطورات كثيرة أبرزها ثلاثة: الأول بدء عودة الحرارة إلى العلاقات بين إيران والولايات المتحدة. وهو تحول استراتيجي يرجح أن يطوي ثلاثة عقود من الصراع بين الدولتين. والثاني قيام «الدولة الإسلامية» وما تطرحه من تحديات لمعظم دول المنطقة. والثالث تفكك النظام العربي السياسي والأمني بفعل العواصف التي تضرب دولاً محورية في المشرق وشمال أفريقيا.

الهاجس الكبير الذي يقلق أهل الخليج هو هذه الهجمة الإيرانية على المنطقة، والتي لم تتوقف منذ قيام «الثورة الإسلامية». والخشية أن تواصل إيران سيرتها الحالية، أو الأولى أيام الشاه، على رغم التفاهم المتوقع مع أميركا والغرب عموماً. فقد استغل الإمبراطور انسحاب الحماة البريطانيين من المنطقة ليقدم نفسه «شرطي الخليج» عبر سلسلة من الإجراءات والتحركات. سعى إلى ملء الفراغ الذي خلفه خروج المملكة المتحدة. لكن الولايات المتحدة لم تتأخر في الحلول محلها. وشكلت «قوة التدخل السريع»، على غرار «قوة الشرق الأوسط» البريطانية. وعززت انتشارها وقواعدها بعد قيام الجمهورية الإسلامية واندلاع الحرب بينها وبين العراق. وبالطبع قدمت مغامرة صدام حسين بغزو الكويت فرصة ثمينة لأميركا التي كانت تستعد، مع سقوط جدار برلين، لإعلان نظام دولي أحادي القطبية. هكذا، هيمنت على الشرق الأوسط وحاصرت العراق إلى أن أطاحت النظام البعثي… والتحول اليوم أنها تستعد لنقل الاهتمام إلى أقاليم أخرى. اما عودة بريطانيا الى البحرين فتكاد تكون رسالة من هذا البلد الى الولايات المتحدة التي بالغت قي انتقاد المنامة بسبب الاحداث اكثر منها خطة للندن من اجل احياء تاريخها القديم في الخليج.

قمة الدوحة أكدت «أهمية علاقات التعاون» بين دول المجلس وإيران الإسلامية. وثمنت الجهود التي تبذلها سلطنة عمان لتسهيل التوصل إلى اتفاق على البرنامج النووي. لكن هذا الموقف لا يلغي المخاوف التي تنتاب أهل الخليج من الهجمة الإيرانية في كل من اليمن والعراق وسورية ولبنان، أو ما سماه البيان الختامي «التدخل». ويمكن القول إن ثمة شبه إجماع في المجلس على الموقف مما يحدث في اليمن. وكان المجلس بادر فور اندلاع الأحداث مطلع 2011، إلى طرح «المبادرة الخليجية» لمنع اندلاع الحريق على حدوده. لكن قطر سرعان ما خرجت من هذه المبادرة، واتهمت بأنها تعاطفت مع الحركة الحوثية التي كان السلاح يصلها عبر بعض الأراضي العربية. ومثلها السلطنة التي غضت الطرف عما كان يجري على حدودها الغربية لبقاء الخطوط مفتوحة مع طهران. لكنها فوجئت، على رغم أنها لا تخفي انتقادها للوسائل التي اعتُمدت في التعامل مع الحركة الحوثية، وساهمت في «تشيعها» تماماً وإلقائها بأحضان إيران. ومعروف بالطبع موقف مسقط من العلاقة مع طهران ماضياً وحاضراً، بخلاف موقف الدوحة الذي ترجح صعوداً وهبوطاً تبعاً لمصالحها في كل مرحلة.

وبات واضحاً اليوم أن المبادرة الخليجية لم تعد قائمة. لقد هاجمها الحوثيون منذ البداية. وهاجموا قبل أيام بيان قمة الدوحة. ويشعر بعض أهل الخليج، خصوصاً الإمارات، بأن الرئيس السابق علي عبدالله صالح خدعهم. زين لهم التغاضي عن «الهجمة الحوثية» التي ستقضي على الحركات المرتبطة بجماعة «الإخوان» والفصائل الإسلامية المتشددة. ولعل صالح نفسه خُدع أو توهم القدرة على أن يكون اللاعب الأقوى في تحالف تشرف عليه دولة كبرى هي إيران! لم تكن المبادرة، أو «المرحلة الانتقالية» بالأحرى، وحدها ضحية الهجمة الإيرانية. الحرب على «القاعدة» في جنوب شبه الجزيرة دخلتها عناصر جديدة. ولن تكتفي دول المجلس اليوم بعدم الاعتراف بالواقع القائم في اليمن، وبعضها وضع الحوثيين على «لائحة الإرهاب». لا مفر من لجوئها إلى سياسة حصار مالي واقتصادي ستدفع الأمم المتحدة إلى التحرك من أجل إطلاق عملية سياسية جديدة.

ويمكن هنا المبعوث الدولي جمال بن عمر الذي يتحمل شيئاً من المسؤولية عما حدث عشية «الهجوم الحوثي» على صنعاء وما تلاه، أن يؤدي دوراً مساعداً للرئيس عبد ربه منصور هادي، إذ يأخذ بعضهم على الرئيس أنه لم يمارس الحزم المطلوب من موقعه الأول على رأس الدولة والنظام في مواجهة ما آلت إليه البلاد. المهم أن مجلس التعاون يمكنه الرهان على موقف جامع وواحد إذا تفاقم الوضع اليمني وبات يشكل تهديداً لأمن شبه الجزيرة برمته. ولا يغيب عن بال دوله أن الولايات المتحدة لم تقل بعد «كلمة» حاسمة أو واضحة في شأن التمدد الإيراني في جنوب شبه الجزيرة، حتى بات السؤال مشروعاً: هل يمكن أن تتعايش الولايات المتحدة مع الحركة الحوثية وتداعيات تقاسمها اليمن مع «الحراك الجنوبي»؟

الموقف من العراق ليس مدعاة خلافات بين دول المجلس. التغيير الذي شهدته بغداد إثر قيام «الدولة الإسلامية» شجع عواصم الخليج على إعادة فتح الأبواب مع الحكومة الجديدة لحيدر العبادي. لكن الشكوك في نيات إيران لا تزال قائمة. هم يرغبون في رؤية حكم تشارك فيه جميع المكونات. وفي إعادة بناء مؤسسات عسكرية وأمنية تحكمها عقيدة وطنية لا مذهبية إقصائية، كما كانت الحال في العقد الأخير. وبالطبع تعزز السياسة الإيرانية في العراق شكوكهم ومخاوفهم. وما يجري على الأرض ترجمة واضحة لهذه السياسة. وهو ما يؤخر فعلياً انخراط جميع المكونات في الحرب على «داعش».

حمل البيان الختامي للقمة دعماً ومساندة لمصر و «خريطة الطريق» للرئيس عبدالفتاح السيسي. والواضح أن الإعلام القطري بدل قليلاً في حملته على النظام إثر القمة الطارئة في الرياض. لكنها لا تزال قائمة. ويستبعد أن تنخرط الدوحة في برنامج المساعدات المالية والاقتصادية الذي تعتمده السعودية وأبو ظبي والكويت. لن تعود المياه إلى مجاريها ببساطة. ينتظر القطريون خطوة مقابلة من الحكومة المصرية وأولها إطلاق صحافيي قناة «الجزيرة» الذين يمضون حكماً بالسجن. وعلى رغم أنهم قيدوا بعض تحركات «الإخوان» في أراضيهم، إلا أنهم لن يديروا لهم الظهر. وكان الشيخ تميم واضحاً في رسم سياسة بلاده في هذا الإطار. أعرب عن أمله بأن «تتوافق الحكومات والقوى السياسية» في عدد من الدول العربية على «مصالحات وطنية تضع حداً لأعمال العنف وتلبي تطلعات الشعوب في الأمن والاستقرار». ورأى وجوب اعتماد هذه المصالحات «منهجاً واقعياً وعقلانياً يقدم المصلحة الوطنية على المصالح الجزئية، ولا يقصي أياً من المكونات الاجتماعية أو السياسية، ويرفض العصبيات على أنواعها لأنها تفتت الكيانات السياسية».

ينطبق هذا الموقف على مصر والعراق وسورية. لكنه يبدو أكثر إلحاحاً في ليبيا. قطر التي كانت ولا تزال تدعم خصوم البرلمان المنتخب وحكومة عبد الله الثني المنبثقة عنه تواجه سياستها في هذا البلد تعقيدات وصعوبات. صحيح أن هؤلاء لا يزالون يسيطرون على العاصمة وبنغازي ومدن أخرى، ولكن لم يعد بمقدورهم مواصلة مشوارهم. فلا أوروبا ولا الولايات المتحدة ترغب في قيام «دولة إسلامية» في المقلب الثاني من المتوسط. ولا إمكان لمد الفصائل الإسلامية و «الإخوان» بالسلاح الذي يحتاجون إليه. في حين يتلقى الجيش الوطني وخليفة حفتر كل ما يحتاجان إليه من دول عدة وخليجية خصوصاً وعلى رأسها الإمارات. ولا يسع الدوحة هنا سوى التمسك بمنطوق البيان الختامي وما نص عليه من وجوب قيام حوار و «مصالحة وطنية» وتبني «مجلس النواب والحكومة الليبية الموقتة سياسات تراعي مصالح جميع الليبيين وتلبي تطلعاتهم وتحقق الأمن والرخاء»… وبانتظار ذلك لا يبدو أنها ستدير ظهرها لمن كانوا يتلقون دعمها. وسيكون تعاملها مع حكومة الثني رهن الحوار والمصالحة.

ولا تشكل الأزمة السورية بند خلاف بين دول مجلس التعاون. علماً أن الصراعات التي تدور في صفوف «الائتلاف الوطني» المعارض بعض أسبابها انعكاس لخلافات وتنافس بين بعض دول المجلس. يبقى أن ثمة إجماعاً على وجوب التسوية السياسية و «التغيير». ولا يخفى أن ثمة غموضاً يكتنف الموقف الخليجي من أفكار المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. قد لا تكون ثمة ممانعة لسعيه إلى «تجميد» القتال. ولكنْ، ثمة شكوك في نيات النظام، والمهم ألا تنتهي هذه الأفكار بتعزيز مواقعه. وقد لا تمانع دول المجلس مساعي روسيا إذا كانت ستؤدي إلى قيام حكومة مشتركة تحد من رأس النظام وتمهد لحل شامل يحمل التغيير الذي يصارع من أجله السوريون. ولا تخفى هنا أهمية الدور الذي قد تلعبه الدوحة عبر بعض القوى الإسلامية التي تتلقى منها الدعم والمؤازرة. وتسمح لها علاقاتها مع تركيا بممارسة الضغوط الضرورية للحد من «تغول» الفصائل المتشددة، خصوصاً «جبهة النصرة» على حساب «الجيش الحر» والفصائل المعتدلة الأخرى.