فارس خشان/لبنان المنكوب بين “إنسانية” غانتس و”قداسة” نصرالله

86

لبنان المنكوب بين “إنسانية” غانتس و”قداسة” نصرالله
فارس خشان/النهار العربي/06 تموز/2021

يصبح الاهتمام بما قاله وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس عن لبنان ومأساة شعبه محفوفاً بالخطر، بمجرّد أن يجتمع مئات الإعلاميين تحت راية الأمين العام لـ”حزب الله” الذي أطلق عليه “الناطق باسمهم” لقب “مار حسن نصرالله”، في منهجية تقديسية ستّرت نفسها، استدراكاً، بتبرير أنّ الترجمة السريانية لكلمة “السيّد” هي كلمة “مار” التي لا يستعملها المسيحيون العرب إلّا للإشارة الى رأس كنيستهم وقدّيسيهم، حصراً.

إنّ التوقف عند كلام غانتس لوضعه على مشرحة التحليل، بعد هذه الأجواء التقديسية، إذا لم يكن لشتمه ولإدانته، هو “حمّال” إدانات بالعمالة والخيانة، لأنّ النقاش بين أمثالنا من أهل الأرض وأمثالهم من “أهل السماء”، يشحذ سكاكين “فرقة الحشّاشين” ويوقد محارق “محاكم التفتيش”، في الساحات العامة.

ولكنّ هَوْل كلام وزير الدفاع الإسرائيلي يستحق المجازفة، لأنّه لم يأتِ من خارج سياق يعنى به لبنان، فهو كان يتحدّث أمام لبنانيين سبق أن تعاونوا مع إسرائيل ولجأوا اليها ولم يتمكّنوا، على الرغم من كل الوعود التي تضمنتها الصفقات السياسية التي تقايض السلطة بالسيادة – وأبرزها ورقة تفاهم 6 شباط (فبراير) 2006 بين “التيار الوطني الحر” و”حزب الله” ـ من العودة الى بلادهم.

ولا يمكن أن يمرّ اللبنانيون مرور الكرام أمام وجود جالية لبنانية في إسرائيل، كوّنها ومن ثم عزّزها إهمال “بيّاعي الأوهام” لجزء من شعبهم.
وأمام هذه الجالية، أطلق غانتس، بغض النظر عمّا إذا كان جاداً أو خبيثاً، مواقف يندى لها الجبين الوطني اللبناني.

وليس ثمّة احتقار لبلد ولشعب مثل أن يظهر من هو مصنّف في خانة العدو، ليبدي حسرة ويظهر شفقة، فيما القاصي والداني ينسب أسباب المأساة التي “تعصر قلب” غانتس، ويرزح تحت ثقلها اللبنانيون، الى الطبقة الحاكمة في لبنان التي يتحكّم بها “حزب الله”.

ثمة من يعتقد، وعن حق، أن غانتس يستغل هذه الحالة اللبنانية الكارثية ليحرّض ضد “حزب الله” وإيران، من دون أن يتكبّد قرشاً واحداً.
هذا صحيح، ولكن غانتس ذهب أبعد من ذلك بكثير، اذ عرض أن يضع علاقات إسرائيل في خدمة لبنان، بقوله: “مستعدون حالياً أيضاً للعمل لدى دول وجهات دولية لكي تساعد لبنان في الخروج من الأزمة الحالية نحو النمو والازدهار”.

وهذه إهانة ثانية لـ”لبنان الكرامة والشعب العظيم”، إذ إنّه في وقت لا يحصد مسؤولوه السياسيون سوى الإهانات والتهديد بالعقوبات من كل حدب وصوب، بسبب سلوكهم وارتكاباتهم وأنانياتهم وتبعيتهم، يُظهر عدوّهم اللدود ثقته بقدرته على تحريك المجتمع الدولي لمصلحة ازدهار لبنان ورفاهية شعبه.
ليس مهمّاً النقاش في الثمن الذي يمكن أن يطلبه العدو لقاء هذا العرض، لأنّ الأهم أنّه فيما يفقد لبنان سمعته الخارجية وفاعليته الدولية، يظهر عدوه قدراته في هذا المجال.

وكان لبنان بمنأى عن هذه الإهانة الإسرائيلية لو أنّ فيه قيادات تعرف ماذا تعني المواجهة الفعلية والجوهرية مع العدو.
إنّ المواجهة بالمعطى العسكري هي واحدة من المقوّمات، ولكنها لا تكفي أبداً.
المواجهة مع العدو لها وجوه كثيرة، فهي مؤسساتية ومالية واقتصادية ودولية وثقافية وإبداعية.

وهذا ما تعرفه إسرائيل، ولهذا، على الرغم من تعدد جبهاتها العدائية، تقدّم تفوّقها، في كل الميادين الأخرى، إلى مرتبة الأولوية، وهذا ما كان يعرفه قادة لبنانيون، ولكن جرى حذفهم من المعادلة، بالاغتيال والتهميش، أو جرى احتواؤهم بالترهيب والترغيب.

إنّ “منطق البندقية” الذي استحكم بالبلاد خسّر لبنان كلّ أوجه المواجهة الأخرى، وهي أصعب وأدق وأهم من الوجه العسكري الذي لا يقوم على معادلة “التفوّق” بل على قاعدة “الإزعاج”، إذ إنّ “منطق البندقية” يستند إلى تهديد العدو بالتخريب عليه وأذيته، فيما مقولة “محوه من الوجود” ليست أكثر من شعار يتم توسّله لتزيين الخطابات النارية، بين حين “إيراني” وآخر.

ولقد أدّى وضع كلّ مقومات الدولة في خدمة “منطق البندقية” إلى تسخير لبنان واللبنانيين لمصالح واهب هذه البندقية، أي الجمهورية الإسلامية في إيران وطموحات “حرسها الثوري”.

وفي وقت كان وزير دفاع الدولة العدوّة يعرض على لبنان مساعدته، كان مئات الإعلاميين يطوّبون الأمين العام لـ”حزب الله” قديساً، غير آبهين على أنّ شعبهم يموت أمام أبواب المستشفيات ويرجو على عتبات السفارات، ويتقاتل في محطات الوقود، ويرتجف أمام الأفران، وينهار أمام مصائب انقطاع الكهرباء، ويبكي قرشه الأبيض الذي صادرته المصارف.

وفيما كان “المطوَّب قديساً” يعلّم الإعلاميين الإعلام، والمحقق في ملف انفجار مرفأ بيروت طارق بيطار العدالة، والاقتصاديين الاستثمار، ويفرش للجائعين وليمة مملوءة بصحون الصبر، ويرشد اللبنانيين الى “العدو الأميركي”، كان لبنان يواصل انهياره، والشعب اللبناني هجرته، وخط الفقر طوفانه، والذل حرائقه، والمجتمع الدولي تحسّراته، والعدو الغاشم إنسانياته.

إنّ “منطق البندقية”، وفق مفهوم “الحرس الثوري الإيراني” لا يرتبط بمرحلة استثنائية، بل هو يستخدم الاستثناء من أجل تأبيد وجوده.

ولهذا حيث وُجِد أوجد الويلات.
لو أنّ في لبنان دولة، وفق المقاييس التي قامت عليها الدول، لما كان فقد عناصر قوّته، ولما كان شعبه مأخوذاً بسيمفونية “البطون الجائعة”.

إنّ المبادرات الدولية التي نشأت على معادلة ضرب الحلف القائم بين السلاح الميليشيوي، من جهة والفساد المستشري، من جهة أخرى كان يمكنها أن تعين لبنان على العودة الى سكّة الحياة.

وبيّنت هذه المبادرات أنّ الحصار الوحيد المفروض على الشعب اللبناني هو نتاج هذا “الحلف الجهنّمي”، إذ كان، حتى الأمس القريب، للبنان أصدقاء كثر من “الغرب والشرق”، وكانوا مستعدّين لنصرة لبنان، إذا ما جرى حلّ هذا “الحلف”، لمصلحة قيام دولة تستحق هذه التسمية.

وحده هذا “الحلف الجهنّمي” يتيح لغانتس وأمثاله أن يبدوا شفقة على لبنان ويعرضوا عليه مساعدته، ويشجّع جزءاً من إعلامييه على تحويل أنفسهم الى “مجمع دعاوى القديسين” لتطويب من تحفل ملفاتهم بكل شيء إلّا بعبق الطهارة.