عبدو شامي/جبران تويني عندما يهاب السلاحُ القلمَ

463

جبران تويني..عندما يهاب السلاحُ القلمَ
عبدو شامي

عند كل غطرسة ميليشوية تنال من هيبة الدولة (إن كان لتلك الهيبة المزعومة من  بقيّة)، ومع كل عربدة إرهابية تحصد قائد رأي أو رجل أمن أو سياسة، يبدأ بعضنا بالتساؤل: كيف تواجهون السلاح بالكلمة؟ وهل تنتظرون أن تتغلّب الكلمة على الصاروخ؟ سؤالان يُعبّران بلا شك عن “طفَحَان الكَيل” من غلبة السلاح الميليشيوي الإرهابي التخويني والتكفيري، والجواب عليهما ليس بالسهل إذ يجب أن يحمل من العقل والمنطق ما يقنع السائلِين ويضبط حماستهم وعاطفتهم؛ وسنختصره بحقيقتَين:

الحقيقة الأولى: أنه لو لم يكن للكلمة الحرّة تأثير أمضى من الرصاص وأقوى من الصاروخ لما أخافت الإرهابيين من حمَلة أعتى أنواع الأسلحة وأشدها فتكًا على الإطلاق ولما ألجأتهم الى استخدام عقلهم الإجرامي الدموي لإسكات تلك الكلمة أو ترهيبها لإخضاعها، وحينئذ لا تعود الكلمة كلمة إنما صحافة صفراء ودجل وخداع وبروباغاندا. هذا هو دأب كل الطغاة على وجه الأرض حيث الكلمة الحرة والصادقة هي دائمًا عدوّهم الأول، ومن كان لديه أدنى شك في هذه الحقيقة فشهادة الصحافي الحر “جبران تويني” تُجيبهم وكفى بها إجابة. أما من أحب الاستطراد والتوسّع فشهادة الأحرار من أبناء الشعب السوري خير مثال يمكن التوسّع فيه، فمِن خَلْع أظفار أطفال درعا الذين كتبوا على الجدران ما أرعب طاغيتهم، الى استئصال حنجرة منشد الثورة الشهيد “ابراهيم القاشوش”، الى تكسير أصابع مَن رسم كلمة الحق كريكاتوريًا “علي فرزات”، الى أهالي الغوطتين الشرقية والغربية الذين أبيدوا بالكيماوي لإيمانهم أن قيمة الإنسان هي بما يتمتع به من حرية وكرامة.

لعلنا بما تقدّم قدمنا جزءًا من الإجابة، بيد أنها تبقى ناقصة ما لم نُتبعها بالحقيقة الثانية، فتسليمنا بحقيقة أن السلاح يهاب القلم لا يجب أن ينفي حقيقة أخرى هي أنه في الدفاع عن الحق السلاح والقلم يتكاملان (وفي النشيد الوطني اللبناني “ملء عين الزمن سيفنا والقلم”)، فلا بد من سلاح يحمي الكلمة يضمن سلامتها ويصون لها حريّتها كي تؤدّي مهمتها على أكمل وجه بصدقية ومهنية ودون أي ضغط أو ترهيب؛ ومع قناعتنا التامّة بأن سلاح الشرعية الذي يحمي دولة القانون هو وحده المناطة به تلك المهمة، إلا أنه عندما يُثبت هذا السلاح عجزه عن حماية الكلمة أمام سطوة سلاح الإرهاب وعندما يتخطى الإرهاب الدولة بقوة سلاحه ليعتدي على الكلمة وعلى الدولة العاجزة عن حماية شعبها، عندها يصبح من الانهزامية والانبطاح بل من الانتحار والجنون أن يبقى القلم سلاحنا الوحيد في مواجهة آلة القتل الإرهابية داخلية كانت أم خارجية وهنا يأتي قول حكيم “ثورة الأرز” الدكتور سمير جعجع: “إذا دعا داعٍ أو داعش فنحن للمقاومة جاهزون ولن نموت إلا واقفين”.

لقد قدّم بطلنا “جبران تويني” بشهادته الدليل الساطع على أن السلاح يخاف القلم، يخافه لأنه يدرك تمامًا أن الكلمة الحرّة هي المحرّك الأول للتخلّص من غلبة السلاح وسطوته وأنظمة استبداده، كيف لا و”الفرق بين الظُلمة والنور كلمة” كما قال شهيدنا في آخر كلماته، كلمات جعلت من الحرية والسيادة والاستقلال محورها، فصنعت انتفاضة الاستقلال و”ثورة الأرز” وساهمت في استيلاد ثورة الشعب السوري على النظام الأكثر إجرامًا في العالم.

المميّز هذا العام تزامُن الذكرى التاسعة لاغتيال “جبران” مع إدلاء الخال أولاً ثم النائب والشهيد الحي “مروان حمادة” بشهادته أمام المحكمة الدولية وسرده تفاصيل التآمر البعثي الأسدي على “جريدة النهار” لإسكاتها من طريق إجبار الرئيس الشهيد “رفيق الحريري” على بيع أسهمه في الصحيفة في محاولة لتفليسها، وهي محاولة من جملة محاولات أراد بها الأسد دفع الجريدة نحو خيارَين: إما دخول بيت الطاعة وإما الإقفال؛ محاولات تدرّجت وصولاً الى اغتيال سمير قصير، وبلغت أقصاها باغتيال رئيس مجلس إدارة “النهار” المدير العام جبران تويني؛ وجاء الرد الشجاع من الأب المفجوع ليتصدّر الصفحة الأولى “جبران تويني لم يمت والنهار مستمرة”.

كلمة الحق في وجه السلطان الجائر، الشهادة للحق والحقيقة، تسمية الأشياء بأسمائها دون تورية ولا استدارة ولا مداهنة ولا مسايرة ولا خنوع، رفض ثقافة الغنمية وسياسة القطعان واستغباء العقول، تنمية حس النقد الذاتي قبل انتقاد الآخرين، احترام عقل القارئ والتحدث بمنطق وحجة وبرهان ودليل… هذا ما تعلمناه من مدرسة “جبران تويني” وهو بحد ذاته من صميم تعاليم الإسلام والمسيحية، فالأبيض أبيض ولو ألبسوه السواد، والأسود أسود ولو صبغوه بالبياض، والشريف شريف ولو رموه بالخيانة والخائن خائن ولو ادعى المقاومة؛ أما عن قسَمه في ساحة الحرية والذي ردّده من قلبه مع مليون ونصف المليون من أبناء “ثورة الأرز” فأقول ختامًا لجبران: لو لم يكن من إنجازات حياتك إلا قسَمك الشهير لكفاك كي تكون بطلاً من بلادي.