داود البصري/1983/12/12 يوم اهتزت الكويت بإرهاب حزب الدعوة

405

1983/12/12  يوم اهتزت الكويت بإرهاب حزب “الدعوة”

داود البصري/السياسة/12 كانون الأول/14

في صفحات التاريخ الكويتي المعاصر, وضمن إطار الحرب والصراع ضد الإرهاب الدولي التي كانت الكويت في طليعة ضحاياه المباشرين, ثمة صفحات مثيرة بأحداثها وتجلياتها, وحتى شخوصها, مثلت عصرا ومرحلة مهمة من مراحل وحلقات التحدي الكبير التي جابهت الأمن الوطني الكويتي خلال العقود الأربعة الأخيرة من عمر التجربة السياسية والحياتية في الكويت, وهي تجربة كانت تحمل معاني التحدي الكامل والإصرار التام على خوض معترك تحولات الحرب والديبلوماسية في منطقة الخليج العربي التي دخلت منذ عام 1980 تحديدا في خضم أقوى ملفات الصراع الدولي والإقليمي بعد أحداث الثورة الإيرانية والتطورات الناجمة عنها, وما حدث من أحداث داخلية وإنقلاب سياسي عنيف في العراق وبشكل رتب المواقع والملفات لأحداث جسام ستشعل المنطقة لاحقا, وتؤسس لأكبر مجزرة إقليمية في العصر الحديث بعد تسارع الشد والجذب بين القوى الإقليمية المتصارعة والمتناطحة.

فقد كانت هنالك ثورة شعبية ضخمة نجحت في إسقاط عرش الطاووس وأدخلت إيران في حومة صراع داخلي شرس ومحتدم بين التيارات الشعبية والفكرية, وحتى الدينية, المتصارعة والمتلاطمة في بحور فرض الإرادة وبناء عهد ما بعد إسقاط الحصون المنيعة لنظام إمبراطوري كان يمتلك مفاتيح وأدوات وملفات صراع إقليمي مهمة, وبين نظام إيراني جديد ما زال يتلمس طريقه ويحاول إيجاد صيغة معينة لبناء نظام كانت آيديولوجيته حائرة بين ما يكون وما يجب أن يكون, وفي ظل صراع إيراني داخلي شرس بين إتجاهات فكرية متباينة تتراوح بين أقصى اليمين الديني المحافظ وأقصى اليسار المتطرف, وبين بقايا الجبهة الوطنية القديمة وقوى الإسلام المخلوطة بالرؤى الإشتراكية والماركسية, وهي جميعها قوى ساهمت في إسقاط نظام الشاه, لكن كان لا بد لتلك المشاريع والأفكار والأحلام المتضاربة أن تدخل في مرحلة كسر العظم للإنفراد بالسلطة بعد أن تعذر التفاهم المشترك وفشلت صيغة الجبهة السياسية المتحالفة, وهو ما أخرج كل العفاريت من قماقمها وحول الصراع الدولي وجهة الخليج العربي, خصوصا بعد أن دخل الدب السوفياتي الراحل في عقد أفغانستان الجبلية المهلكة أواخر عام 1978 .

في العراق تشكل مشروع سلطوي كان يتم الإعداد له منذ منتصف سبعينات القرن الماضي وأنفرد في السلطة البعثية التي كانت تعاني من صراعات داخلية محتدمة النائب الأقوى صدام حسين بعد أن أطاح جنرالات حزب البعث وقيادييه وكان آخر الجنرالات الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر الذي أبعد بإنقلاب قصر داخلي, وطارت معه رؤوس العشرات من الكادر المتقدم في الحزب, ومن أعضاء القيادة القطرية والقومية ومجلس قيادة الثورة ليكون صدام حسين وجماعته من العشيرة الذهبية الرقم الأول والأخير في السلطة العراقية, وليباشروا في تنفيذ صفحات عمل إقليمية جديدة كان عمادها ومحورها, بعد أن توتر الموقف الإقليمي بفعل تحديات الثورة الإيرانية وشعار “تصدير الثورة” هو العمل العسكري المباشر وبموجب مخطط دولي كانت ملامحه وخطوطه العامة مرسومة بدقة منذ نهاية حرب أكتوبر عام 1973 , وحتى إندلاع الحرب العراقية- الإيرانية في 22 سبتمبر1980, ولن نتوغل بعيدا في رسم وتصنيف المشهد السياسي والعسكري لتلك المرحلة, بل سنقفز لتأثير تلك الحرب على الخليج العربي وعلى الأمن الإقليمي وحيث إشتعلت أشد مناطق العالم حساسية على صعيد الطاقة الدولية.

كان الخطاب السياسي والآيديولوجي الإيراني واضحا في المناداة بإسقاط أنظمة المنطقة المحافظة, وتأسيس الدولة الإسلامية على النموذج الإيراني, وكانت البداية مع التصعيد الإيراني في العراق عبر دعم ومساندة الأحزاب الدينية الطائفية التي كانت تعمل بصمت, لكن بفاعلية شديدة خصوصا, أنها كانت تؤسس مواقعها الشعبية مستغلة الهجمة السلطوية العراقية ضد جميع القوى السياسية التي كان آخرهم قوى اليسار, والحزب الشيوعي الذي إنفصمت جبهته الوطنية الموقعة منذ عام 1973 مع حزب البعث أواخر عام 1978, وإضطرار الشيوعيين للهروب من العراق والإنسحاب شمالا الى كردستان, أو التسلل للخارج.

أعطى النظام الإيراني إنطلاقة البدء للأحزاب الدينية وفي طليعتها حزب “الدعوة” ومنظمة العمل الإسلامي والمجاهدين العراقيين لما أسموه “الثورة الإسلامية في العراق” المترافق مع تصعيد عسكري ساخن على الحدود الدولية المشتركة مع تصاعد لهجة التهديدات المنطلقة من إيران تحديدا التي كانت تعيش وقتها صراع مراكز القوى وحيث كان الرئيس الإيراني الأول أبو الحسن بني صدر يصرح ببلاهة منقطعة النظير بأنه لن يستطيع منع جيشه من الزحف على بغداد.

لقد كانت صفحات مريرة حفلت بتداخلات وأدوار سرية وملفات غامضة لم يتح للرأي العام الإطلاع عليها بعد بصورة كاملة رغم مرور ثلاثة عقود!

المهم إن النظام العراقي كان يعد العدة لضربته الوقائية التي يهدف منها أيضا للتخلص من ذل وعار إتفاق الجزائر الحدودي لعام 1975, حين سلم السيادة على نصف شط العرب لإيران مقابل إيقاف نظام الشاه الدعم المقدم للحركة الكردية المسلحة في الشمال التي إنهارت بالكامل بعد سحب نظام الشاه الراحل يده عنها!

في عام 1980 كان واضحا أن المشروع السلطوي العراقي الطموح كان سيقدم على خطوة ما كما زاد من وتيرة القمع وحملات الإعدام وممارسة التهجير على أسس طائفية محض, وبموجب برنامج وقائي كان يهدف لمنع أصحاب رؤوس الأموال والتجار من تمويل المعارضة المسلحة, وأرتكبت فظائع كثيرة وهذا الموضوع ليس محور مقالتنا هذا, في المقابل كان الإيرانيون يدعمون المعارضة الدينية التي تخلت عن سريتها السابقة وأظهرت أنيابها, وأعلنت الثورة المسلحة رغم عدم تكافؤ القوى, فنظام صدام كان في أقوى حالاته, عسكريا وأمنيا وإقتصاديا وحتى شعبيا, إضافة الى تحالفاته الدولية وعلاقاته العربية وإعلامه المهيمن, فخسرت تلك الأحزاب المواجهة التي كانت متعجلة وغير مدروسة, بل كانت نتيجة لرغبة إيرانية ملحة.

المهم هرب المعارضون الدينيون الطائفيون لحاضنتهم طهران وهناك برزت التناقضات والخلافات بعد إندلاع الصراعات والفشل في مهمة زعزعة وإسقاط النظام الذي أعلن الحرب رسميا على إيران بعد أن مزق إتفاق الجزائر الحدودي وغزت قواته عربستان معلنا قيام ما أسماه “قادسية صدام” التي كان مخططا لها أن تكون شبيهة بحرب الأيام الستة بين العرب وإسرائيل عام 1967 تذعن بعدها إيران ويفرض العراق شروطه, لكن ذلك كان وهما لم يحسب المخطط العراقي له حساباً! إذ أن النظام الإيراني كان بحاجة ماسة لتلك الحرب لتوحيد الصفوف الداخلية ولتصفية الحسابات مع المعارضة اليسارية المتصاعدة, ولتجييش الشعب من أجل تحقيق تلك الغاية, لذلك كان تعليق الخميني الأول على الحرب حين سماعه لأنبائها تلك العبارة المعبرة : “الخير في ما وقع”!

فبدأت الدراما الإقليمية الدموية المروعة التي إستمرت لثمانية أعوام دموية كئيبة وثقيلة إلتهمت أرواح وأعضاء وأرزاق مئات الآلاف من الشباب العراقي والإيراني و حفلت صفحاتها بملفات مخابراتية, كان أهمها ملف تصعيد الإرهاب الإقليمي والدولي ومحاولة توريط أطراف أخرى في النزاع الطويل.

وكان اللجوء للعمليات السرية ولبناء الخلايا السرية العاملة لمصلحة النظام الإيراني في المنطقة أحد أهم الأهداف ستراتيجية, وتشتت المعارضة العراقية أدى في النهاية لإنشقاقات كبيرة وواسعة في بنيتها التنظيمية وإنخراط بعضها في الجهد العسكري والإستخباري الإيراني ضمن صفوف الحرس الثوري, وإمتداد ذلك النشاط الى العمق السوري بعد التحالف الستراتيجي بين نظامي الأسد والخميني, فأستطاع الإيرانيون تشكيل خلايا سرية من أتباع حزب “الدعوة” الذين إنشقوا عن الحزب, وتم التخطيط لسلسلة من العمليات الإرهابية كان لبنان ساحتها الرئيسة حين كان يعيش وضعا تقسيميا شاذا مع سيطرة إستخبارية سورية شبه مطلقة, وتم تفجير السفارة العراقية في بيروت في خريف 1981 بتخطيط وتدبير مشترك من مخابرات الحرس الثوري الإيراني والمخابرات السورية, وبإشتراك من عناصر قيادية حالية في العراق, وأمتدت العمليات لتشمل دولة الكويت التي كانت المعارضة العراقية, وقتها, متواجدة عناصرها فيها بعد حملة الهروب الجماعية من العراق, ومع تصاعد الإرهاب الدولي الموجه, خصوصا ضد الولايات المتحدة في المنطقة وإنفجار السفارة الأميركية ثم العمليات الإنتحارية ضد قوات المارينز الأميركية والقوات الفرنسية في لبنان عام 1983, اتخذ قرار إيراني بتوسيع مدى العمليات ليشمل الخليج العربي, وتحديدا الكويت, فتم تجنيد أحد أعضاء حزب “الدعوة” وهو العراقي المدعو رعد مفتن عجيل البالغ من العمر وقتها 23 عاما, الطالب في جامعة حلب لتفجير مقر السفارة الأميركية القديم في بنيد القار وتم إختيار يوم الإثنين 12/12/1983 كموعد لذلك الفعل الإرهابي الذي سوف تحدث معه أيضا سلسلة من الأعمال الإرهابية ضد السفارة الفرنسية ومنشآت وطنية كويتية, كمحطة الكهرباء وجوازات حولي وأماكن أخرى.

تم إقتحام السفارة الأميركية وعاشت الكويت أيام توتر مرعبة, وكانت البداية الساخنة لسلسلة طويلة ومتداخلة من عمليات الإرهاب والإبتزاز, كانت ذروتها في يوم 25 مايو 1985 حين حدثت محاولة إغتيال المغفور له أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد بسيارة مفخخة في شارع الخليج العربي بالقرب من المستشفى الأميري, التي وقف خلفها أيضا حزب “الدعوة” وتنظيماته المنشقة وخلفهم جميعا مخابرات الحرس الثوري الإيراني التي إستعملت فيما بعد أدوات عديدة في الإبتزاز الإرهابي, ومنهم اللبناني عماد مغنية ودوره في خطف الطائرة الكويتية “الجابرية” من بانكوك وقبلها طائرة “كاظمة”, إضافة الى عمليات دعم الجماعات المسلحة التي إشتبكت في معارك محدودة مع قوات الأمن الكويتية.

سيظل يوم 12/12/1983 مشهودا ومحفوظا في تاريخ وأرشيف عمليات الإرهاب الإقليمي الكبرى, وستبقى مؤثرات وتأثيرات ذلك اليوم في الكويت, والخليج العربي, من الملفات التاريخية الحساسة.

اليوم يبدو المشهد الإقليمي في غاية الغرابة فإرادة الدول الكواسر جعلت من حزب “الدعوة” الإرهابي قائدا وحاكما للعراق في واحد من أبشع مشاهد التاريخ غرابة! كما أن العراق تحول اليوم ملعبا إيرانيا خالصا بعد اجتياح قطعان الحرس الثوري له! فالإرهابي القديم تحول حاكما على واحد من أهم دول الشرق القديم, ولكم أن تتصوروا الموقف واحتمالات المستقبل!