التيار الوطني الحر: رجال الأعمال يربحون
حسان الزين/المدن/السبت 11/06/2016
“لا يمكن أن تهاجم الفساد وتسمح به، وتدعي الديموقراطية وتمارس الحكم الفردي. ولا يمكن أن تنادي بالسيادة وتكون تابعاً، وتبشر بدولة المؤسسات وتمارس العائلية، أو أن تنادي بالعلمانية وتكون مذهبياً”.
“لأن جوان حبيش إلى جانبنا في انتخابات 2016 يصبح ابن عائلة من صفّ الفلاحين، ولمّا كان ضدّنا في انتخابات 2010 كان إقطاعيّاً. كيف تختلف التسميات؟”.
هاتان الشهادتان لعضوين في “التيار الوطني الحر”، الأول عصام أبو جمرا والثاني باتريك رزق الله. وأكثر ما تقولانه هو الإزدواجيّة في شخصيّة التيّار الذي أخذ مساراً حزبيّاً بعد عودة العماد ميشال عون من منفاه الباريسي في 7 أيار 2005. وقد تشكّل في رحم الحالة العونيّة التي كانت محطتها الأولى البارزة في 14 آذار 1989 يوم أطلق رئيس الحكومة العسكرية ميشال عون من مقر إقامته في بعبدا حرب التحرير ضد الجيش السوري.
مثل حليفه “حزب الله”، كانت سنة 2005 سنة تحوّل تاريخيّة للتيار. والسبب لهما، كلٌّ من موقعه، هو الإنسحاب السوري من لبنان، ووطأتهما أرض واقع السياسة. وكما وَفَدَ “حزب الله” إلى السياسة اللبنانية من “مقاومة الإحتلال الإسرائيلي”، كذلك وَفَدَ التيّار من “مقاومة الإحتلال السوري”. الفارق بينهما، آنذاك، إضافة إلى بوصلة العداء والمقاومة والتكوين المذهبي والعقيدة، هو أن “حزب الله” واصل العداء لإسرائيل، فيما طوى التيار صفحة عدائه لسوريا لحظة إنسحاب جيشها.
وجود المؤسس
اليوم، 2016، “التيار الوطني الحر” غير التيار 2005 وليد الحالة العونيّة. صار أقوى وأوسع انتشاراً ولا يمكن تجاوزه في السياسة، كما تقول قيادته بغرور يذكّر بحالات مشابهة قبل الحرب. لكنَّ الأهم من هذا الخطاب الرسمي، هو ما يجري داخله. وتعدد الأصوات فيه، والاعتراضات المتوالية هنا وهناك، خلال الانتخابات البلدية وقبلها وبعدها، والتي تصل إلى حد الإحالة إلى اللجنة التحكيميّة أو الطرد والفصل أو الإستقالة، هي صدى لصراع بات يتحكّم في جسم التيّار وشخصيّته، وما يضبطه حتّى اللحظة هو وجود المؤسس وشخصه والهالة المحيطة به وبصورته الرمزية.
إذا كان توزير عون أو التيّار شربل نحاس (2009) من خارج التيار والحالة العونية، هو الشعرة التي قسمت الظهر، بالنسبة إلى “الرجل الثاني” في التيار آنذاك عصام أبو جمرا، فإن هناك حملاً ثقيلاً عبّر عنه الرجل وآخرون. فرفيق السلاح مع عون، في الجيش ثم الحكومة العسكرية والمنفى والسنوات الأولى بعد العودة، شعر بأن التيار يتغيّر وأنَّه وأمثاله ورفاقه ما عادوا الفئة الوحيدة أو القويّة فيه. وتأكّد له أنه شخصيّاً يتحوّل صورة تذوي وتُحال إلى التقاعد بل إلى الهامش. والأمر يتجاوز البعد الشخصي الفردي، رغم دراميّته. فأبو جمرا هو القسم الأعلى في مرآة هرم التيّار. وتهميشه وتقليص مساحته امتداد لما يجري في الأجزاء الأخرى من الهرم.
أدرك أبو جمرا وكثيرون أن المسألة أبعد من تقدّم الشاب جبران باسيل، صهر عون، في سلّم القيادة حتى بات يوازيه ويغطّي عليه ويشارك في دائرة القرار التي أُبعد منها أبو جمرا من دون أن يُقال له ذلك. وأدرك أبو جمرا وكثيرون أن المسألة أعمق من إحكام أسرة ميشال عون- جبران باسيل السيطرة على مركز القرار والانتفاع بالمكاسب والامتيازات. وأدرك أنّه من السذاجة الدعوة إلى الالتزام بنظام الحزب واستكمال تشكيل هيئاته القيادية، والحفاظ على عقيدته الثالوثيّة: السيادة والديموقراطية وبناء دولة المؤسسات.
حزب السلطة
ما هو أبعد من تقدّم باسيل، وإن كان يحصل بتدبيره وإرادته، هو دخول “رجال الأعمال” التيّار وتغلغلهم فيه ووصولهم بريموت كونترول باسيل مدعوماً من عمّه عون، إلى حقائب التيّار الوزارية والكراسي النيابيّة، وأخيراً إلى المقاعد البلدية. هكذا، وجد “مناضلو” الحالة العونية ضد الوجود السوري، أن ثمة شريكاً مضارباً يزاحمهم ويتسلّقهم ويتسلّق التيّار للوصول قبلهم إلى ما يعتبرون أنّهم ناضلوا كي يصلوا إليه، وكي يناضلوا فيه.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، وجد المناضلون أو “العونيّون القدامى والأصليّون”، كما يحلو لبعضهم القول، أنفسهم في تيّار يمارس سياسة تختلف عن خطابهم. “فدخول رجال الأعمال التيّار لا يهدف إلى ركوب المصعد الاجتماعي لوصول هذا الشخص أو ذاك إلى مقعد بلدي أو كرسي نيابي أو حقيبة وزارية”، يقول “مناضل عوني”. “القضية أعقد من ذلك. لقد تحول التيار إلى حزب السلطة الذي يمتطيه رجال الأعمال من أجل مشاريعهم التجارية، بينما يكرر هؤلاء والقيادة من فوقهم خطاباً شعبويّاً لشد العصب الحزبي والطائفي، لتمرير مصالح هؤلاء وأعمالهم”.
كأنَّ المشهد في التيّار الآن هو وجود خطّين:
– فئة الذين ارتبطوا، خصوصاً في الحقبة السورية، بعون وشعاراته، وهم في غالبيّتهم من الطبقات الوسطى وما دون.
– وفئة من الأغنياء وفّر لها جبران باسيل بيئة داخل التيّار وفي مساحات المصالح المحيطة بالدولة ومؤسساتها وبالسياسة وعلاقاتها.
يلاحظ المناضل “أمراً خطيراً”: “لأسباب طائفية أو حزبية وحبّاً بالتيّار، تسكت القواعد أو تتواطأ مع لعب رجال أعمال التيار مع الدولة تجاريّاً واستثماريّاً، تحت مسمّى الخصخصة أو التعهّدات، حتى ولو كانت القواعد لا تستفيد كلّها من ذلك. فأيديولوجيا التيار ليست إشتراكيّة كي ترفض القواعد البزنس ووجود رجال أعمال معها ضمن الحزب. وللأسباب نفسها تقبل قواعد التيار ميل سياسته نحو رعاية مصالح رجال الأعمال. لكن ما يحصل، وهنا المشكل وشرارة الصراع، هو أن يُدَلَل رجال الأعمال على حساب المناضلين والقواعد، وأن يُدعم رجال الأعمال ليحتكروا الامتيازات التي يخوض التيار المعارك للفوز بها، انتخابيّاً وسياسيّاً. وانفجار الأزمات داخل التيّار خلال الانتخابات البلدية والنيابيّة الاستثنائية في جزين هو تعبير عن صدام بين إرادة باسيل وبين جبهة واسعة في التيّار ترفض تسخيرها والتيار في خدمة رجال الأعمال، بل تأبى التنازل لرجال الأعمال والعمل من أجل وصولهم. وآخر هؤلاء أمل أبو زيد في جزين”.
والأزمة، هي أن التيار، مثل قوى السلطة عموماً الآن، عاجز عن توفير عطاءات ووظائف لقواعده وجمهوره وبيئته من الدولة، بينما يبدو ساعياً نشيطاً لتوفير مصالح رجال الأعمال واستثماراتهم وتعهّداتهم.
الراعي الأول
تاريخيّاً، يبدو عون من فتح الباب لرجال الأعمال أو المتموّلين. لكنّه، يقول المناضل بشيء من التبرير، “لم يدخلهم في التيّار، أوصل بعضهم إلى النيابة مقابل تغطيتهم نفقات الحملات الانتخابيّة وبعض التمويل”. والنماذج التي اختارها، وفق المناضل، “تختلف عمن فتح ويفتح باسيل لهم الأبواب. متموّلو عون ليسوا من فئة رجال الأعمال الذين يريدون أن يعملوا مع الدولة في عالم الاستثمار والتعهّدات والخصخصة، إنما لديهم أعمالهم خارج الدولة وبعيداً منها. بينما رجال أعمال باسيل، وباسيل شخصيّاً، لديهم نظرة نيو ليبراليّة إلى الدولة والسوق والخصخصة ويريدون أن يناضل التيار لتحقيقها وتوفير مناخ وحماية لأعمالهم، إضافة إلى سعي العديد منهم إلى الفوز بحقيبة أو كرسي أو مقعهد أو منصب”.
يضع هذا الكلام تحت المجهر مباشرة وعد الرئيس الحالي للتيّار، جبران باسيل، بناء مقر مركزي للتيّار وتشييد صروح صحية وتربوية وخدماتيّة. فهذا، وإن ورد في سياق رسم الصورة الدعائيّة للتيّار المنطلق نحو العصرنة والمأسسة، إلا أنّه يطرح سؤالاً بسيطاً: من أين سيأتي بالمال الذي سيصرف لتنفيذ ذلك وخدمته؟ فحين كانت ميزانيّة التيّار محدودة (مليون وأربعمئة ألف دولار في 2014) كان يؤمّنها من الأعضاء وبعض الأصدقاء، لكن مشاريع بهذا المستوى الطموح تقتضي وجود متموّلين أو رأسمال ضخم. والجواب عن هذا يردّنا إلى تضخم حجم رجال الأعمال في التيّار، وربّما إلى محاولة باسيل بناء جسور وسلالم بين “طبقات” التيّار.
فالتيار الذي يملك الأبنية هذه، وعداً دعائيّاً حتى الساعة، والذي يوصل رجال الأعمال إلى الحقائب والكراسي والمقاعد والمناصب، والذي يضبط المناضلين أو يحاصرهم أو يقصيهم عبر نظام مسيطر عليه.. هو تيّار جبران باسيل. وإذا كانت لحظة ولادته سياسيّاً وإقتصاديّاً وتنظيميّاً هي لحظة إبعاده أبو جمرا واستخدامه الوزير شربل نحاس في حرب ضد الحريريّة، ثم انقلابه عليه على مذبح تسوية سياسيّة وماليّة، فإن لحظة قمّته تكون في تأكيد وراثته عون. وهي نفسها لحظة إقفاله الباب في وجه شامل روكز، الوافد الذي لم ينل بطاقة العضوية الحزبيّة بعد، والذي يقف بينه وبين “المناضلين” والتيّار حاجز معنوي هو أنّه ليس منهم وإن هو آتٍ من الجيش ومن قرابة عون. فهذه الورقة إذا ما إضطُر باسيل إلى استخدامها ستحتاج إلى ورقتين أخريين، واحدة باسيليّة تتمثل بنظام حزبي متماسك وحائل دون تسلّله، والثانية عونيّة تتمثل بالقدرة على الحفاظ على المناضلين أو العونيين، كي لا يغادروا التيّار ويذهب بعضهم إلى روكز. فهل ينجح، أم يبقى كما هو الآن عرّاب رجال الأعمال وسياستهم وخطابهم ومساعيهم؟