«سيدة الجبل»: استنهاض الدور المسيحي الريادي واستعادة تنويرية لمحطات تاريخية مشرقة
ربى كبارة/المستقبل/29 شباط/16
شكل نقاش الخيارات اللبنانية والمسيحية في ظل ظروف معقدة جدا وصعبة على المستويين الداخلي والاقليمي بما يمكن للبنانيين عموما والمسيحيين خصوصا القيام به، بعيدا عن التبسيط السياسي الذي يحيط بنا خصوصا بعد وصول التداعيات الى اوروبا عبر موجات عنف وهجرة، محور الخلوة التي عقدها السبت «لقاء سيدة الجبل» كمجال للتفكير بشكل جماعي وبصوت عال، واختتمت بـ«نداء من اجل استعادة دور المسيحيين التاريخي« باعتباره دورا نهضويا لان الانكفاء الى حضن مقولة «حماية الاقليات» في ظل التشنج المذهبي المسيطر على المنطقة ليس الحل.
ولخص منسق الامانة العامة لقوى 14 آذار النائب السابق فارس سعيد لصحيفة «المستقبل« مهمة الخلوة بـ«المساهمة في تحديث العروبة باعتبارها رابطة ثقافية» لافتا الى ان «العروبة المشوهة تخيف المسيحيين كما تخيف المسلمين». وأعرب عن امله بأن يتوسع النقاش الذي اطلقته الخلوة الثانية عشرة بحضور قادة رأي ومثقفين وفعاليات من المستقلين اضافة الى حزبيين شاركوا بصفة شخصية. ولفت سعيد الى ان هذه الخلوة التي اتت «وسط ظروف مختلفة في الداخل والخارج وضعت امام اللبنانيين لغة واحدة لكل الاسئلة فيما تستخدم الطوائف عادة لغتين: لغة داخلية واخرى وطنية».
وقرر المؤتمرون للمرة الاولى عقد خلوات في المناطق تنبثق عنها لجان متابعة بما يساعد على توسيع اطار اللقاء بما يساهم في تقدم توصيات النداء الذي القاه النائب السابق سمير فرنجية وناقشه الحاضرون قبل صياغته النهائية. وقد لفت النداء الى اننا البلد الوحيد في العالم «حيث يتشارك مسيحيون ومسلمون في ادارة دولة واحدة كما اننا البلد الوحيد في العالم الاسلامي حيث يتشارك سنة وشيعة في ادارة دولة واحدة». . وتضمنت حيثيات الخلوة كلمة افتتاحية لسعيد، وتلاوة ثلاث اوراق واردة من شخصيات مسيحية هي للاردني الوزير السابق مروان المعشر والمعارض السوري ميشيل كيلو والوزير السابق طارق متري.
شدد النداء خصوصا على «توثيق علاقات المودة والتفاهم والتناصر مع مسيحيي العالم العربي» وعلى «التواصل مع المسلمين الذين يناهضون التطرف واللاتسامح» وصولا الى قيام «مشرق العيش معا». كما شدد على التواصل مع قوى الاعتدال في أوروبا، التي تناهض الاسلاموفوبيا وكل اشكال التمييز ضد الآخر المختلف حتى يغدو المتوسط «متوسط العيش معا» بدل ان يكون «بحر التصدعات « التي لم يعد احد بمنأى عنها.. كما لفت الى المخاطر التي تحيط بلبنان لانه «يعيش تحت سيف التهديد باندلاع حرب اهلية جديدة، يتقابل فيها هذه المرة مسلمون سنة ومسلمون شيعة، ليس في لبنان وحسب، وانما على امتداد المنطقة العربية. وهذه الحرب، ان وقعت ستعني نهاية لبنان، وطنا ودولة ونموذجاً للعيش المشترك». وأكد النداء ان الحرب التي تطل برأسها «تعني المسيحيين بمقدار ما تعني المسلمين» مذكرا بمقولة بطاركة الشرق الكاثوليك «ان المسيحيين جزء عضوي من الهوية الثقافية لمسلمي الشرق مثلما مسلمو الشرق جزء عضوي من الهوية الثقافية للمسيحيين». وشدد على ضرورة «مساهمة المسحيين الفعالة في بناء سلام لبنان» ودعاهم «للنهوض بهذا الواجب» لوضع حد للانحدار عبر «العودة الى رسالتنا التاريخية التي صنعت خصوصيتنا».
وفي معرض تأكيد القدرة على خوض هذه المعركة عدد النداء تاريخ المحطات المشرقة التي كان للمسيحيين فيها «دور طليعي في اعلاء فكرة العيش المشترك» عبر مساهتهم منذ القرن التاسع عشر في حركة «النهضة العربية»، ثم برفضهم عام 1920 فكرة «الوطن المسيحي»، وبرفضهم عام 1943 استمرار الانتداب الفرنسي. كما وانهم كانوا غداة حرب 1975-1990 «في طليعة المبادرين الى العمل لاستعادة العيش المشترك الاسلامي-المسيحي». كل ذلك اضافة الى انهم مع نداء البطاركة عام 2000، هم «اول المبادرين في العالم العربي لخوض معركة الحرية في وجه انظمة الاستبداد» بما مهد الطريق لـ«ثورة الارز» وهي اولى تباشير «الربيع العربي». كما ذكر بان «المجمع البطريركي الماروني» كان اول الداعين في العالم العربي عام 2006 الى اقامة «الدولة المدنية لإرساء دعائم العيش المشترك على شروط الدولة الجامعة وليس على شروط جماعة طائفية».
ولفت النداء الى ان دور المسيحيين «يتعرض اليوم للطعن في جدارته ومصداقيته بفعل قوى اختزلت السياسة في مجرد الصراع على السلطة، بما ادى الى الانحياز الى المحور السوري- الايراني(…) بذريعة حماية الاقليات وصولا الى تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية» في تلميح، بدون تسمية، الى «التيار الوطني الحر» المتحالف مع «حزب الله». وتساءل سعيد في كلمة الافتتاح عما يمكن للمسيحيين اليوم القول لو كانوا مكان البطريرك الياس الحويك (1920) الذي رفض قيام لبنان كدولة ملجأ لمسيحيي الشرق وطالب امام كليمنصو بلبنان الكبير. وقال الهدف المساعدة على تحديد « ماذا نختار؟ وما هي المتغيرات التي تفرضُ نفسَها علينا؟» لافتا الى ان ذلك يتطلب «درجة عالية من الرصانة السياسية والوضوحِ في قراءةِ الأحداث السياسية والشجاعة في تحديدِ الخيار»..
ولخص سعيد أبرز متغيراتِ اليوم بعدة نقاط ابرزها:
محاولةُ قوى إقليمية غير عربية التحكّم بقرار المنطقة: «اسرائيل التي تحاولُ أن تكون امتداداً للغرب في أرض الشرق، تركيا- التي تقدّمُ نفسَها قوة إقليمية إسلامية قادرة على التفاعل مع العرب وفي الوقت نفسِه قادرة على التفاعل مع النظام العالمي الجديد، وايران- التي تمددت بنفوذِها حتى وصلت إلى البحر في غزة وبيروت مروراً بعواصم اليمن والعراق وسوريا»..
ومن المتغيرات محاولة المملكة العربية السعودية ومجلس التعاون الخليجي «الحفاظ على نظامِ المصلحة العربية بحيث لا يتحول العالم العربي الى ضواحي قوى اقليمية غير عربية «.
وهناك بوادر جدّية لعودة ايران إلى حضن النظام الدولي القائم وان كانت لا تزالُ ملتبسة وفي بدايتها، خصوصا وانها تحاولُ التعامل مع الغرب بوصفها «دولة»، ومع المنطقة العربية بوصفها «ثورة»، بما تحملُه هذه الازدواجية من مخاطر عليها وعلى المنطقة في آنٍ معاً.
يضاف الى ذلك دخولُ روسيا بقوة على خط النزاع الاستراتيجي في المنطقة العربية وعليها، يتميز بانحيازه الشديد إلى النظام السوري وإلى «تحالف الأقليات»مع استخدام شعار محاربة الإرهاب الملتبس، كذلك عودةُ الكلام على مسألة الأقليات الذين ينظرون إلى أحداثِ المنطقة بعين القلق، ويبحثون عن أشكالٍ مختلفة من الحماية.
دخولُ الإسلامِ كمكوّنٍ إجتماعي وسياسي وانتخابي إلى أوروبا، وهو «عاملٌ مؤثّر على ديموقراطيات الغرب».
وكذلك بروزُ تياراتٍ إسلامية متطرفة، تتراوحُ ما بين قيامِ دولةِ ولاية الفقيه ودولةِ الخلافة ولجوئها الى عنفٍ متنقّل وفائضٍ عن حدودِ المنطقة العربية، مما شوّهَ صورةَ المنطقة وساهمَ في بروزِ تيارٍ معادٍ للإسلام في الغرب اضافة الى بروزِ تيارِ معادٍ للمسيحية بوصفها في نظره – حاضنة للنظامِ العالمي المعادي لقضايا العرب والمسلمين العادلة، مثلَ قضية فلسطين وقضية الشعب السوري.
وهناك ظاهرة العنف الإرهابي المنفلت وغير المسبوق وهو «العنف الايديولوجي المذهبي المتلبِّس بالإسلام، وما يقابله من عنفٍ مضاد على القاعدة ذاتها»، وهما يتواطآن اليوم عملياً على تجاوز حدود الدول الوطنية القائمة، بل إلغائها، لصالح أجندات بعيدة كل البعد عن نظام المصلحة الوطنية.
بالمقابل هناك بروزُ تيارٍ مدني واعد، مع انتفاضات «الربيع العربي» السلمية ولئن أُصيبَ بانتكاساتٍ خطيرة، إلا أن ثمة مكانة معتبرة لـ «الدولة المدنية» في منظومة شعارات الإصلاح في مقابل مفهوميّ «الدولة الأمنية» و»الدولة الدينية».
وقد توالت هذه المتغيرات «في ظل فشل النظامِ العربي الذي أعقبَ مرحلةَ الإنتدابات الغربية، ثم قيامُ دولة إسرائيل، في توفيرِ الاستقرار والتنمية المستدامة لمعظمِ الكيانات الوطنية الناشئة بسبب قيامِ سلطاتٍ إستبدادية عسكرية (…) والعجز عن بلورةِ أطروحةٍ واضحة لنظامِ المصلحة العربية المشتركة وسبلِ تحقيقه».
من ناحيته اعرب مروان المعشر عن تأييده «الحاجة الى تجدد مسيحي، بل تجدد عربي يعمل من اجل مجتمعات عمادها المواطنة المتساوية الحاضنة للتنوع بكافة اشكاله الدينية والثقافية والسياسية. فالدولة المدنية الديمقراطية هي حامية الاخر، ولا مكان فيها للعنصرية ولا متسع للاقصاء». ورأى ان اساس ذلك وضع «المسيحيين والمسلمين ايديهم بعضا مع بعض من اجل بلورة مشروع دولة حداثي تنويري مدني ديموقراطي ضمن مناخ ينظر للتعددية على انها مصدر قوة لا ضعف واعتبر ان تطوير مفهوم حداثي للهوية العربية مرتبط بالمواطنة الحاضنة لا المستوعبة فقط للتنوع، لافتا الى ان خلاف ذلك يؤدي الى سهولة الحديث عن طوائف واكثرية واقلية .
وحدد المعشر المشكلة باقتصار قوى «الاعتدال» على تعريف نفسها فقط بوقوفها ضد قوى «التطرف». لكن حين يتعلق الموضوع بالتعريف الإيجابي لهذه القوى بمعنى مشروعها التفصيلي لملامح الدولة المدنية الحديثة، فإنه لا توجد مجموعة عربية، منفردة أو مجتمعة، لديها مشروع لمستقبل تنويري مصحوب بإرادة سياسية وخطوات عملية لتنفيذه.
ورأى ان قوى الاعتدال ان ارادت «ان تتمتع بشعبية و مصداقية عريضة، بحاجة لمشروع تنويري تعددي مدني ديمقراطي وان هذا المشروع ان وجد بالتوازي مع الارادة السياسية لتنفيذه كفيل بالتصدي للافكار و الممارسات الداعشية في عالمنا العربي». وبينما الوقوف امام الاخطار الامنية ضروري، فانه وحده لا يصنع مستقبلا مشرقا دون مشروع حداثي لبناء الدولة العصرية. من ناحيته لفت ميشيل كيلو الى مشكلة نواجهها اليوم كمسيحيين عرب وهي «استحالة الوقوف جانبا في صراع مفصلي كالذي نعيشه منذ خمسة اعوام في سورية والمنطقة العربية وجوارها، تتدخل فيه قوى اقليمية ودولية جبارة ومتناقضة المصالح والخطط، وتخوضه وكأنه صراع داخلي نشب ضدها وعلى أراضيها«. أضاف «مشكلتنا كمسيحيين ان واقعنا الراهن يطرح علينا اسئلة نتهرب من الاجابة عنها، رغم انها تتطلب اجابات تعبر عنها مواقف عملية تتخطى اية كلمات، منها: هل ننتمي إلى مجتمعاتنا، العربية والمسلمة، أم إلى مجتمعات أخرى، وهل نحن ضيوف في بلداننا، وأجراء عند حكامها، ام اننا الجزء الاصيل من شعوبها، الذي يحمل هويتها ولا ينتمي إلى غيرها، وعليه ان يقاسمها مصيرها في السراء والضراء؟. وهل يجوز ان نكون محايدين في الصراع الدائر بين حكوماتنا الفاسدة والاستبدادية، وبين شعوبنا المطالبة بالحرية والعدالة والمساواة؟».
وذكر بانه سبق للمسيحية العربية أن واجهت اوضاعا تشبه وضعنا الحالي وانها «عرفت كيف تتخطاه كل مرة بحكمة آباء الكنيسة، الذين فاضلوا بين اهل حكم يشهرون سلاح التجبر والعنف وبين ضحاياهم الضعفاء، ووجدوا أن من الأفضل لكنيستهم ورعيتهم الوقوف مع الأخيرين، وأن يدفعوا ثمنا عاجلا هو جزء مما يدفعه بقية الناس، لكنه يحمل لهم النجاة، بما انه يوحد مصيرهم ومصير اخوتهم المسلمين، شركاءهم في التاريخ والهوية والمآل«.
وتساءل كيلو «منذ متى كان المسيحيون اقلية في بلدانهم، وهل يجوز لنا ان يحولوا انفسهم الى اقلية، الى اغراب في محيط لا يشبهونه ولا يشبههم، يحميهم منه قتلة يحتمون بهم ويستخدمونهم كدروع بشرية ضد شعب يفترض انهم ينتمون اليه؟«.
وخلص المعارض السوري الذي امضى عقودا في سجون النظام الى القول» تقف مسيحيتنا على مفترق طرق، لا ابالغ اذا قلت إنها لن تبقى بعده ما كانت عليه قبله، وأن مصيرها بيدها، ويحتم عليها التعامل مع نفسها ومبادئها بأعلى قدر من روح المسؤولية الايمانية والانسانية، وعدم التخلي عن مبادئها من أجل وقتيات سياسية عابرة، تتصل بصراعات لا مبادىء فيها ولا انسانية ولا ضمير ولا دين». وتحت عنوان «نحو حضور مسيحي متجدد» حذر الوزير السابق طارق متري من «اللغة المزدوجة» في الحديث عن قضايانا المجتمعية لأن «المسافة تضيق بين مايبوح به البعض داخل الجماعة وما يعلنه في الحياة العامة». ورأى انه بغض النظر عن اخفاقات المسيحيين ومعاناتهم «فإن ثنائية الاقلية المنكفئة والاغلبية الطاغية لم تغلق عليهم يوما ولم تطبع مواقف المسلمين حيالهم»وذكر بغياب أي نص مسيحي مرجعي في العقود الخمسة الاخيرة «يضع ما صار يدعى هواجس الاقلية في تناقض مع توجهات الاغلبية«.
وقال «ان مشكلات المسيحيين كانت بمعظمها تعبيرا عن مشكلات المجتمعات العربية كلها» وانهم «عانوا كغيرهم من تراجع فكرتي الدولة والمواطنة وتضرروا من اعاقة تحققهما اكان ذلك بالاستئثار او التسلط او بغلبة منطق القوة على منطق الحق والتهديد وتجديد الاحقاد القديمة او اختراع احقاد جديدة». وشدد على ان مساهمات المسيحيين في النهضة العربية سابقا «لم تفقد معناها بل تستحق ان تستعاد وتتجدد في زمن التغيير العربي الذي لم تعرف مآلاته» لافتا الى اهمية عدم وقوع المسيحيين أو ايقاعهم «في اقلوية معطلة لدورهم» منبها الى تنوع المسيحيين والى تعدد الاتجاهات عند المسلمين.
ولفت الى عدم وجود تناقض بين هواجس الاقلية وهموم الاغلبية و»ان النظرة الثنائية التي توحي بانقسام عمودي لا رجعة فيه ليست المفتاح الوحيد لفهم الواقع ولا توفر الادوات اللازمة لتغييره اللهم الا الانسحاب والهجرة».