فخامة السلّة “الفاضية”
الـيـاس الزغـبـي/لبنان الآن/31 كانون الثاني/16
لم يتوقّع أحد، في السياسة والإعلام، أكثر ممّا قاله قائد “حزب الله” حسن نصرالله، في الملفّ الرئاسي، بعد الصمت الثقيل الذي فرضته عليه معراب، والحرج الكبير الذي لاحقه به سمير جعجع إلى عقر داره. وبعد الإرتباك الواضح الذي استمرّ 11 يوماً، لم يكن في استطاعة نصرالله أن يواجه المأزق بغير الوسيلتين المعروفتين:
– الاستمرار في الدعم النظري الإنشائي لميشال عون كثابتةٍ سياسيّة أخلاقيّة منذ إعلانه “الدّيْن في رقبته إلى يوم الدِين” على أثر “حرب تمّوز” 2006، وقبلها ببضعة أشهر “ورقة مار مخايل” التي لم يكن يحلم بأفضل منها التحاقاً بمشروعه وتسليماً بسلاحه. مع إضافة “ديمقراطيّة” طارئة عن تسامي وتسامح و”عجز” في مسألة الضغط على “8 آذار”، خصوصاً ركنيها برّي وفرنجيّه!
– الهروب إلى الأمام بعودته إلى “السلّة” السياسيّة، لناحية الربط المحكم بين انتخاب الرئيس وبينها، فينتهي الأمر بلا رئيس ولا سلّة.
وهذا هو الخيار الأمثل الآن لـ”حزب الله” نزولاً عند توجّهٍ إيراني واضح يكشف عدم جهوزيّة طهران لبازار البيع والشراء في رقعة النفوذ من الخليج إلى لبنان.
ولعلّ المؤشّر البليغ على هذا التوجّه أتى من باريس، ففي حين تحدّث الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عن ضرورة معالجة الملفّ الرئاسي اللبناني، ذهب همّ الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى “الاستقرار” غير مبالٍ بانتخاب الرئيس، بما يعني الإبقاء على الوضع الراهن في السياسة والأمن، إلى أن تبدأ مرحلة توزيع حصص التسويات لأزمات المنطقة. وهذا يوجب دفع الفراغ الرئاسي اللبناني شهوراً إضافيّة إلى الأمام.
كلّ ما أراده نصرالله من إعلان موقفه هو الاحتفاظ بالمكاسب التي منحه إيّاها عون بكرم حاتمي مجّاني منذ عشر سنوات حتّى الآن، وتمويه الحقيقة التي باتت ساطعة وحاسمة، وهي أنّه غير جاهز لانتخاب رئيس، ولو كان من صلبه ومتبرّعي “انتصاراته” ومقدّمي خدماته.
ومسارعة عون، قبل ساعات من خطاب نصرالله، إلى تكرار مقولته بـ”التحالف الوجودي” بينهما وكَيل المدائح لشقّه التوأم، لم تقدّم ولم تؤخّر في موقف الأخير. فما كتبته المصلحة الإيرانيّة قد كُتب، ويستطيع الأوّل الانتظار أسابيع وأشهراً أُخرى، طالما أنّه انتظر سنتين، بل أكثر من ربع قرن، على حلم اليقظة.
والمثير في هذا الواقع “الناصع”، أنّ مرشّح معراب لا يريد أن يصدّق مناورات نصرالله، ولم يتعلّم من تجربة سواه قبل أسابيع، حين اصطدم ترشيح شريك تكتّله وأحلافه سليمان فرنجيّه بالتمنّع نفسه لدى “حزب الله”. والأكثر إثارة أنّه يفتّش عن أعذار وتبريرات لنكث نصرالله بوعوده الحاسمة، مكتفياً بالكلام المعسول.
حتّى أنّه لم يُبدِ ارتياحاً إلى الموقف الإيجابي القوي لسمير جعجع في حضّه نصرالله على التقاط فرصة اتفاق معراب والتوجّه فوراً لانتخاب عون في مجلس النوّاب. وتبيّن أنّ هناك صوتاً خبيثاً همس في أذنه بأنّ هذا الموقف يضرّ أكثر ممّا يفيد، و”ينقّز” الضاحية بدلاً من تشجيعها!
وفي الحقيقة، “نقزة” الضاحية ليست ناتجة عن اتفاق معراب، ولا عن تصريحات جعجع، بل هي حالة مقيمة في سياستها الرافضة لوجود رئيس شرعي للجمهوريّة إذا لم يكن ثمرة اختراقات نوعيّة في التوازنات تحت مسمّى “السلّة”، على خلفيّة تحقيق أهداف “المؤتمر التأسيسي” بدون عقده.
وحتّى الآن، لا يدرك عون هذه الحقيقة، بل ربّما يداورها ويتهرّب من مواجهتها لعلّه يصل تسلّلاً إلى قصر بعبدا كما غادره. ولم يقل كلمة واحدة بعد في “السلّة” التي يضعه فيها حليفه “الوجودي”.
قبل معراب، كان رأس حربة “السلّة”، يحارب لإجراء الانتخابات النيابيّة قبل الرئاسيّة، ويذهب بعيداً لانتخاب الرئيس من الشعب. كان يسبق “سلّة” نصرالله بأشواط. بعد معراب، يهادن ويساوم في كلّ شيء. تغاضى عن “السلّة”، فتح خطوطاً مع الجميع باستثناء غريمه فرنجيّة، حاول تفسير “البنود العشرة” لترشيحه بما لا يتناقض مع التزاماته مع “حزب الله”، حتّى أنّه برّرها بأنّها مطابقة لـ”معاهدة التعاون والتنسيق” الموقّعة مع النظام السوري بعد هزيمة 13 تشرين 1990! لكنّه لم يقل كلمة واحدة عن التناقض الفاقع بين ما وقّع عليه في معراب وما وقّع عليه في مار مخايل. وسكوته عن “تفاهم 6 شباط” يدفع “حزب الله” إلى تذكيره به. وقد بات هذا الصمت المدوّي أكثر ما يُثير حفيظة حارة حريك وشكوكها. ولم تَعُد لازمة عون عن “التكامل الوجودي”، ومزايا “السيّد”، والتزام “التعاون والتنسيق” مع النظام السوري، كافية لإقناع “حزب الله” بانتخابه. وقد اهتدى نصرالله إلى ما يظنّ أنّه يبرّىء ذمّته تجاهه، ورأى في درع نبيه برّي و”شطارته” ما يقيه سهام معراب وحساب الرأي العام. وهكذا يسقط ترشيح عون ضحيّة “السلّة” التي حشره فيها حليفه، وضحيّة اللعب على ورقتين متناقضتين. والنتيجة… سلّة رئاسيّة “فاضية”!
مأزق نصرالله بين عون وفرنجية
خالد الدخيل/الحياة/31 كانون الثاني/16
لماذا من المهم الحديث عن مأزق حسن نصرالله الأمين العام لـ «حزب الله» اللبناني، أمام الاستحقاق الرئاسي في لبنان؟ الحزب ذراع إيرانية في الشام. وهذا تحديداً ما يفتخر به نصرالله بقوله إنه يعمل تحت راية «ولاية الفقيه». ولأن هذه الولاية في أصلها وفصلها ولاية دينية- سياسية، ينتظم الحزب في القتال بمثابة ميليشيا إيرانية في سورية إلى جانب بشار الأسد حليف إيران. الأخيرة تدشن مرحلة انفتاح سياسي واقتصادي على الغرب بعد الاتفاق النووي في الوقت الذي تتحالف فيه مع روسيا على الساحة السورية. رحبت إيران بهذا التحالف بعدما فشلت في حسم المعركة هناك لمصلحة حليفها، ولأن روسيا بوتين قررت التدخل لمنع المعارضة السورية من استكمال إسقاط الأسد ونظامه. تعرف طهران ذلك عن يقين. وتعرف أيضاً أن بقاء الأسد هو خيارها الوحيد الذي من دونه تخسر الشام بما في ذلك ذراعها في بيروت الذي تصرف عليه مئات ملايين الدولارات سنوياً. طهران تعرف ذلك بحسها وأهدافها المذهبية، فالأغلبية الكبيرة من أهل سورية لا يشاركونها المذهب، وهو ما يقض مضجع سدنة «ولاية الفقيه» التي يعمل تحت ظلها حسن نصرالله. والتدخل الروسي، معطوفاً على الانكفاء الأميركي، هو ما تأمل إيران بأن يحيد الوزن السياسي لهذه الأغلبية في لجة الصراع. ومع ذلك يبقى أن إيران ليست متيقنة مما يمكن أن تنتهي إليه الثورة السورية حتى بعد التدخل الروسي، فهي تدرك تماماً أن الثورة السورية، وهي تقترب من إكمال عامها الخامس، لم تنطلق، ولم تراكم كل التضحيات والآلام والدمار، والأرقام الفلكية للقتلى والمفقودين والمهجرين، لتنتهي بحسب وصفة يتم وضعها في موسكو، أو تنازل تقدم عليه واشنطن، أو أمانٍ مذهبية تراود القيادة في إيران ومعها نصرالله في الضاحية. قبل العودة إلى المأزق الرئاسي لحسن نصرالله في لبنان لا بد من ملاحظة الغائب الأبرز عن معادلة تقرير مصير الثورة، ومصير سورية بأكملها. إنه الرئيس السوري بشار الأسد. تحول من وريث للحكم إلى ورقة تفاوضية في أيدٍ كثيرة، ليس بينها يد سورية واحدة. الجميع يتحدث عن سورية، وعن ضرورة الإبقاء على مؤسسات الدولة فيها تفادياً لتكرار كارثة ما حصل للعراق إبان الغزو الأميركي. لكن لا أحد يجرؤ على الحديث عن ضرورة بقاء الأسد. يتعمد الروس إطلاق مواقف غامضة ومتناقضة حيال ذلك. حتى الإيرانيون يتفادون مثل هذا الحديث. يتشدقون بدلاً منه بأن مستقبل الأسد يقرره الشعب السوري. يقولون هذا على رغم أنهم يمدونه بالمال والسلاح والميليشيات الشيعية من كل حدبٍ وصوب، وعلى رغم يقينهم بأن مستقبل نفوذهم في الشام من دون الأسد ستذروه رياح كثيرة محلية وإقليمية ودولية. مواقف الدول الإقليمية ليست أفضل حالاً من ذلك. بعضها يصرح، مثل السعودية وتركيا وقطر، بأنه لا مكان للأسد في مستقبل سورية. وبعضها الآخر، مثل مصر والمغرب والجزائر، يلتزم الصمت، ما يشير إلى أن بقاء الرئيس السوري بات عبئاً على الجميع.
هذا يشير بوضوح إلى أن مستقبل الأسد لم يعد بيد الأسد، ولا بيد حلفائه وحدهم. ارتهن هو ومستقبله لقوى متعددة ليس بينها الشعب السوري. هناك روسيا وإيران، اللتان لجأ إليهما تباعاً بعد تخليه عن الشعب إبان الثورة. ثم هناك الولايات المتحدة ما بعد أوباما وما يمكن أن يطرأ على موقفها من الصراع في سورية في العام المقبل. والأنكى أن مسألة بقاء الرئيس السوري لم تعد حصراً في يد «الجيش العربي السوري» الذي تحول بفعل مسيرة الصراع وخيار الرئيس نفسه إلى ميليشيا أخرى. صار لحسن نصرالله بالميليشيا التي يقودها، ولقيس الخزعلي رئيس ميليشيا «عصائب أهل الحق»، العراقية الإيرانية، وغيرهما من الميليشيات، قول في تقرير مصير الأسد، لكنه قول مثل الصدى في إطار التدخل الإيراني والروسي والاستراتيجية التي تحكم كلاً منهما.
في مثل هذه الوضعية المعقدة للأزمة السورية، وارتباطها المباشر بالأزمة اللبنانية، وجد حسن نصرالله نفسه أمام مأزق الاختيار في موضوع انتخاب رئيس جديد بعدما فاجأه خصومه، سعد الحريري وسمير جعجع، بترشيح اثنين من حلفائه، هما سليمان فرنجية وميشال عون. بدا له أن في الأمر مكيدة أو ابتزازاً كما يقول. بعدما كثرت الأقاويل حول هذا الصمت، خرج نصرالله يوم الجمعة الماضي بخطاب انتظر الجميع أن يحسم خيار الحزب، ويضع حداً لمعضلة انتخاب الرئيس. لكنه لم يفعل. بدلاً من ذلك قال شيئاً لا يقل ارتباكاً عن الصمت. كرر التزامه بأن ميشال عون هو المرشح الأول للحزب لرئاسة الجمهورية، وأنه لن يتخلى عن ذلك إلا إذا أعلن عون تخليه عن ترشيح نفسه. وهذا يعني شيئاً واحداً، وهو أن فرنجية المرشح الثاني للحزب. اللافت أمام هذا الموقف الملتبس أن نصرالله بدأ كلمته بقول الإمام زين العابدين علي بن الحسين «خير مفاتيح الأمور الصدق. وخير خواتيمها الوفاء». وهو قول لم يلتزم بمضمونه ومؤداه عندما قال إن إيران لم ولن تعطل الانتخابات الرئاسية في لبنان. واتهم من يقول ذلك بالجهل والغباء (كذا). إذا كان الأمر كذلك، وإذا كان صادقاً في ما يقول، فلماذا يراوغ الأمين العام في اتخاذ موقف واضح ونهائي من أحد المرشحين، عون أو فرنجية، وكلاهما ينتمي للتحالف الذي يهيمن عليه؟ نصرالله يقاتل في سورية تحت راية «ولاية الفقيه»، ويتلقى السلاح ومئات الملايين من الدولارات الأميركية من إيران، ثم يقول إن موقفه من الاستحقاق الرئاسي لا علاقة له بإيران ولا بسورية. وفي هذا تذاكٍ مكشوف، واستهانة بذكاء اللبنانيين والسوريين معاً.
ربما فات نصرالله أن كلمته ضاعفت من أهمية التساؤل عن مراوغته، وعن رفضه الذهاب إلى مجلس النواب، والقبول بترشح الاثنين معاً، ثم التصويت لأحدهما. فرنجية صديق لعائلة الأسد في سورية. وعون وفر من خلال حجم تياره النيابي، الثاني بعد تيار «المستقبل»، الغطاء المسيحي لسلاح «حزب الله» في الداخل، ولقتاله في سورية. لكنه لم يحصل في مقابل ذلك على شيء حتى الآن. يعرف نصرالله أن الهدف الأول والأهم بالنسبة إلى الجنرال عون هو الوصول إلى قصر بعبدا، فلماذا يرفض مقابلة سمير جعجع، ويعمل على تحقيق حلم الجنرال؟ الأرجح أن السبب ليس في بيروت تماماً، وإنما يمتد إلى دمشق، حيث يبقى مستقبل الأسد غامضاً في أحسن الأحوال. تبني فرنجية في ظل هذا الغموض المقلق سيكون على حساب الحزب، وخصوصاً أن القاعدة النيابية لفرنجية صغيرة، وأنه سيأتي من خلال تحالف سني مسيحي، سيجعله رهينة للوزن السياسي لهذا التحالف، وأقل قابلية لضغوط الحزب. وستعزز هذه النتيجة في حال غاب الأسد عن المشهد في سورية خلال السنة أو السنتين المقبلتين. هنا تبرز أفضلية عون بالنسبة الى الحزب. فهو أقرب إلى إيران منه للأسد. وإذا كان الأسد مرشحاً للغياب، فإن إيران باقية باعتبارها دولة في الإقليم. لكن يبقى الإشكال ذاته. غياب الأسد، أو تقسيم سورية، ينهي النفوذ السوري تماماً في لبنان، ويضعف الدور الإيراني. ومن حيث أن عون سيأتي للرئاسة من خلال تحالف مسيحي- مسيحي وازن، فإن هذا سيمنحه مساحة أوسع من الاستقلال أمام الحزب. والجنرال معروف بنزعته الاستقلالية. المصدر الثالث لمأزق الحزب أن تبنيه النهائي لعون سيربك علاقته مع فرنجية، وسيعمق انقسام تحالف «8 آذار»، وفي الوقت نفسه سيعزز من زعامة سمير جعجع للتيار المسيحي ومن احتمال وصوله للرئاسة لاحقاً، وخصوصاً أن عون كبير في السن. من هنا لا يستطيع نصرالله حسم خياراته قريباً، قبل اتضاح المآل الذي ستنتهي إليه الأزمة في سورية، والدور الإيراني في الشام. الأمر الذي ينسف ادعاء الأمين العام بأنه لا دور لإيران في تعطيل انتخاب الرئيس اللبناني، ويؤكد أنه وحزبه رهينة لهذا الدور. ما هو المخرج في هذه الحال؟ في تعزيز مروحة تحالف لا يكون مقصوراً على السنة والمسيحيين والدروز، بل يشمل المستقلين والشيعة من غير «حزب الله». وإذا كانت فرصة فرنجية هي الأرجح في مثل هذه الحال فليكن، لكن من خلال التفاهم مع أصحاب التيار البرتقالي. سيقال: وهل من الممكن عزل «حزب الله» على هذا النحو؟ وهذا سؤال موجه الى اللبنانيين في ضوء حقيقة أن الحزب يتحول بسلاحه وتحالفاته الإقليمية إلى مأزق للجميع.