
بين “محّاية” نتنياهو و”مشحَة” البابا.
الكاتب والمخرج يوسف ي. الخوري/04 كانون الأول/2025
حين اخترتُ عنوان «بين “محّاية” نتنياهو و”مشحَة” البابا»، لم أفعل ذلك اعتباطًا ولا بحثًا عن لعبة لفظيّة، بل لأفتح نافذة على لحظة حاسمة يعيشها لبنان اليوم؛ لحظة انكشاف وانهيار منظومتين كانتا تتحكّمان بمصير البلد؛ منظومة السلاح ومنظومة العقيدة.
العنوان يستعيد دلالة تعود إلى مقالة كتبتُها عام 2020 (ملعبكم بين “شخطة” قلم البطريرك الحويّك و”مَحّاية” نتنياهو)، يوم انقضّت عليّ جيوش “الثنائي الشيعي الرقميّة”، تزوّر التاريخ وتُسفّه الواقع، فقط لأنني قلتُ حقيقة لم ترُق لمفتيهم الجعفري، ومفادها إنّ الفضل في ضمّ الشيعة إلى لبنان يعود إلى البطريرك الياس الحويّك. فُتحوا عليّ أبواب السباب والتهديد، واتُّهِمتُ بالعمالة، وبات “حذاء السيّد” معيارًا لكرامتي. فأتاهم جوابي في نهاية المقالة حين حذّرتهم قائلًا: “إمّا أن تعترفوا بشخطة قلم الحويّك، أو أن تنتهي بكم محّاية نتنياهو.”
وقد انتهى الأمر كما توقّعت… لكنّهم لم يسمعوا، ولم يتعلّموا.
فاليوم، وبعد أربع سنوات، جاءت “المحّاية” فعلًا. ليس لأنّ إسرائيل تريد خدمة لبنان، بل لأنّ حزب الله، الذي طالما هدّد وتمدّد، وصل إلى لحظة الاصطدام بالحائط.
لم يفهم حزب الله وجمهوره الممانع أنّ السلاح ليس فكرة طائرة في الهواء. السلاح يحتاج إلى قدرات، وإلى نخبة مقاتلة، وإلى قيادات ميدانية وعقيدة منطقيّة متماسكة. “المحّاية” بدأت تعمل ضدّه منذ سنوات، ولم يلاحظها أحد: اغتيالات دقيقة لقادة الصف الأول، ضربات قاصمة للبنية اللوجستية، تفكيك الشبكات الأمنية، عمليات نوعية (من البايجر إلى ما بعدها)، اعتقالات، فقدان الردع، وصولًا إلى اغتيال أمينين عامّين في أقل من شهر.
لم نعد أمام “ردع”، بل أمام عجز معلَن. ولم نعد أمام “مقاومة عقائدية”، بل تنظيم إرهابي فقد أعصابه وأدمغته. والمفارقة الساخرة؛ أنّ من اتّهموني بالعمالة يرون اليوم بأعينهم كيف تعمل “المحّاية” التي حذّرتهم منها: تمسح طبقةً بعد طبقة من جبروت حزب الله وهيبته وسيناريوهاته الخشبية.
لكن العسكري يسقط وليس بالضرورة أن يسقط معه الفكر. فلذا كان لا بدّ من ضربة ثانية فاصلة؛
حلّ البابا ليو XIV على لبنان حاملاً خطابًا بسيطًا في مضمونه، عميقًا في أثره: السلام. لا رمادية، لا تحرير بالنيابة، لا موت مجاني ولا جهاد من خلف الدولة.
جاءت زيارته لتقول للبنان:
انهض بالسلام؛ فالأوطان تُبنى على الأرض لا على وعود بالجنة.
لكنّ الصدمة الحقيقيّة لم تكن في كلام البابا وحده، بل في كلام رئيس الجمهورية أمامه، وأمام كلّ أركان الدولة، حين تحدّث إيجابيًا عن الاتفاقات الإبراهيمية، العبارة المحظورة في قاموس حزب الله. عبارة تعني ببساطة: السلام بدل الحرب، الانفتاح بدل العزلة، المستقبل بدل القبر المفتوح.
في تلك اللحظة، انكشفت عقيدة الحزب أمام ثلاثة أطرافٍ دفعة واحدة:
1. أمام دولة تتكلّم لغة السلام،
2. أمام شعب قرر أنّ المحبّة أعلى من السلاح،
3. وأمام جمهور الحزب نفسه الذي رأى خطاب التجييش والترهيب ينهار أمام كلمة سلام واحدة.
زيارة البابا لم تكن “موقفًا دينيًا”، بل “مشحة” حقيقية، كشفت التشقق الأخلاقي والعقائدي في مشروع حزب الله. أظهرت أنّ “الموت” لم يعد مفخرة فوق جثث أبنائنا الشيعة، وأنّ خطاب “الجهاد” أصبح نشازًا أمام الخطب الإنسانيّة.
فإذا كانت “محّاية” نتنياهو قد شلّت الحزب عسكريًا، فإنّ “مشحة” البابا أنهت شرعيته العقائدية.
لكن… سقوط السلاح والعقيدة لا يكفيان لإنقاذ لبنان، فثمة مهمة ثالثة، وهي الأخطر، بانتظارنا نحن.
الحزب مهزوم ميدانيًا، مهزوز عقائديًا، لكنّه لا يزال متغلغلًا في مفاصل الدولة؛ في القضاء، في الأمن، في المعابر، في الإعلام، في الوزارات، في البلديات، في الجامعات. وإن لم تتحرك الدولة الآن، فإنّ “المحّاية الإسرائيلية” التي مسحت ترسانة الحزب لن تتردد في أن تمسح لبنان نفسه إن انهار الحزب فوقه.
الآن… جاء دور ممسحة الدولة؛
ما نحتاجه ليس خطابات لإرضاء العالم، ولا تلطيفًا للاتفاقات الإبراهيمية، بل دولة تُطلق ممسحتها:
• لتنظيف المؤسسات من ثقافة الترهيب،
• لاستعادة السيادة التي استُبيحت،
• لإعادة بناء العقد الاجتماعي الذي مزّقته الدويلة،
• ولمنع “الشفّاطة” الإسرائيلية من جرّ البلد إلى الهاوية.
فإذا كانت إسرائيل تعمل لمصلحتها، مَن يعمل لمصلحة لبنان؟
الحزب فقد القدرة على ضمان شيء، بل أصبح هو الخطر نفسه.
الدولة اليوم مخيَّرة بين خيارين: إمّا أن تمسك بالممسحة، وإمّا أن تُسحَب، ومعها البلد، إلى المجارير.
فالسلام لا يُفرَض من الخارج،
والسيادة لا تُهدى،
والكرامة لا تُستعار من أحذية أحد.
إنها ساعة الدولة… وقد حلّت.