زيارة البابا لاوون الرابع عشر: مشهد مُزيّف… وبلد ساقط خلف الديكور
الكاتب والمخرج يوسف ي. الخوري/01 كانون الأول/2025
لم يكن استقبال البابا ليو XIV في مطار بيروت حدثًا بروتوكوليًا عابرًا. الملاحظة الأكثر دلالة كانت وجود الرؤساء الثلاثة مجتمعين لاستقباله. اعتدنا في لبنان أن يزور أيّ وافد دولي كلّ رئيس في “مقرّه”، وكأنّ الدولة موزّعة على ثلاث ساحات سيادية، وثلاث دول، وثلاثة رؤوس. أن يجتمعوا معًا لم يكن مجرّد صورة جميلة، بل إشارة واضحة إلى أنّ النموذج الذي اعتاد اللبنانيون عليه هو نموذج متصدّع وصيغته لم تعد قابلة للحياة. هذا الدستور ذو الثلاثة رؤوس ليس نظامًا؛ إنّه غرفة إنعاش مفتوحة لجمهورية مستحيلة.
ثم جاءت الفضيحة الرمزية الأكبر: استقبال البابا في قاعة تُدعى “25 أيّار”، تاريخ ما تسمّيه السلطة المتواطئة مع حزب الله “تحرير الجنوب”. لكن الحقيقة أنّ ذلك اليوم مثّل تهجيرًا لآلاف الجنوبيين المسيحيين واللبنانيين الشرفاء إلى إسرائيل، واستبدالًا لسكّان بسكّان، ولسيادة بسيادة أخرى تخدم إيران. القاعة بُنيت فوق كذبة، واسمها آخر ما تبقّى من ديكور مرحلة أيديولوجيّة لم تعد تقنع أحدًا. وهي قاعة ينبغي أن تُزال، تمامًا كما أُزيلت الحدود حين عاد الاحتلال إلى أرض الجنوب من جديد.
وفي مشهد آخر لا يقلّ رمزية، أُقصِي رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع عن استقبال البابا. ضجّة اندلعت، لكن خلف الضجيج يقف درس واحد: لا معنى لكتلة نيابيّة مهما كبر حجمها في بلد محتلّ، ولا معنى لديمقراطيّة توافقيّة زائفة وخاضعة لسلاح، ولا جدوى من انتخابات 2026 في ظلّ الستاتيكو القائم، ومنظومة تتغذّى على ما تبقّى من أحياء. ما يحتاجه جعجع ليس زيادة عدد نوابه كما يخطّط، بل استعادة وزن، حضور، وفعالية خارج دائرة الأرقام العقيمة والأعداد الوهميّة.
أمّا اللقاء الروحي مع الكهنة والأساقفة، فكان فقرةً مُتقنة التنفيذ، لكن مشكلتها أنّها عكست لبنانًا مُجمّلًا، لا لبنان الحقيقي. الكاهن الذي تحدّث عن المهجّرين السوريين، والراهبة التي روت مواساتها للمهجّرين الشيعة من بعلبك، والخادمة الفليبينية التي شرحت تجربتها الطويلة في لبنان، ومرشد السجون الذي دعا إلى الرحمة بالمساجين… شهادات إنسانية بلا شك، لكنّها ليست الشهادات التي كان يجب أن تُطرح أمام رأس الكنيسة الكاثوليكية.
لم يجرؤ أحد على قول الحقيقة.
لم يقف كاهن من بلدة رميش الجنوبيّة ليتحدث عن صمود المسيحيين الجنوبيين الذين يعيشون اليوم وسط الاشتباكات والاحتلال.
لم يتحدث أحد عن أفراد وعائلات جيش لبنان الجنوبي، لاسيّما منهم مَن تعفّنت أعمارهم في سجون الضاحية الجنوبيّة وسجون البعث السوري بعدما أبوا إلّا أن يبقوا في أرضهم بعد مؤامرة “التحرير” عام 2000.
لم يجرؤ أحد على ذكر أطفال الشوارع، أو ضحايا الدولة من المفكّرين الأحرار، أو الظلمات داخل السجون اللبنانيّة.
لم يجرؤ أحد على الاعتراف بأن جزءًا من رجال الدين أنفسهم باتوا عبئًا على الكنيسة، وأنّ ثرواتها تكبر فيما الأطفال يُحرَمون العلم، والناس يُدفنون في الجوع.
اختاروا لبنانًا مُفلترًا بدل لبنان النازف.
اختاروا أن يبكوا على الظالمين، وأن يصمتوا عن المظلومين.
اختاروا رسائل الرحمة، لكن الرحمة التي تُبرّر الجريمة وتُمهّد لقبول مظلّة المجرمين، لا الرحمة التي ترفع الضحايا.
لهذا يمكن القول إن زيارة البابا بدت أشبه بـ مشهد سينمائي مُحكم التنفيذ: ديكور جميل، إضاءة، أجواء، ابتسامات محسوبة… ثمّ، بعد انتهاء التصوير، يُسحب الديكور ويُرمى في القمامة.
فمن قاعة 25 أيار المزيفة، إلى اللصوص الذين جلسوا مع البابا ليو XIV داخلها، إلى دعوات الرحمة للمجرمين التي تمهّد للغفران السياسي المسبق لحزب الله، إلى تغييب الجنوب الحقيقي وأهله الحقيقيين، إلى المنفيين قسرًا من دولتهم الذين لم يُذكروا بكلمة واحدة… تتكرّس الحقيقة التالية:
زيارة البابا لن تغيّر حرفًا واحدًا من المصير الأسود الذي يتّجه نحوه لبنان.
لقد شاهدنا العرض.
الجمهور مبتهج.
صفّقوا بحرارة.
لكنّ البلد بقي كما هو: محتلًّا، مقيّدًا، مكذوبًا عليه… وسط ديكور جميل، لكن خلفه جدران تنهار.
أه!! كدتُ أنسى. لم يذكرنا احد، نحن المدافعين بلا محاباة عن الحقيقة، ونُهدّد تقريبًا كلّ يوم بالقتل لإيماننا برسالة السلام، كما أنّه لم يدعنا أحدٌ إلى القصر للقاء البابا، أو إلى معراب للمشاركة بقدّاس الشهداء.