نديم قطيش/لبنان يسير نائماً نحو الهاوية

11

لبنان يسير “نائماً” نحو الهاوية
نديم قطيش/أساس ميديا/27 تشرين الأول/2025
يدور النقاش بشأن نزع سلاح ميليشيا “الحزب” في لبنان حول السؤال الخطأ. تتركّز المقاربات على الترسانة نفسها، صواريخَ ومخازنَ، أو تلك التي نجح الجيش في تعطيلها أو مصادرتها، في حين يُغفَل التشخيص الأساسيّ بالكامل.
السلاح ما هو إلّا عارضٌ من عوارض إطار العمل (Framework)، الذي نجحت الميليشيا في فرضه وإدامته على العلاقة بينها وبين الدولة اللبنانيّة، كسلطةٍ موازيةٍ اصطُلح على تسميتها “دولة داخل الدولة”. ما لم تواجه النخبة السياسيّة اللبنانية هذا الواقع بوضوحٍ وشجاعةٍ، وتعمل على تفكيك إطار العمل نفسه لا السلاح فقط، فإنّ لبنان سيظلّ حبيس الشلل ذاته الذي أوصله إلى انهياره.
ينفع التذكير بأنّ هذا الإطار انطوى ولا يزال على منظومة خدماتٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ وأمنيّةٍ وعسكريّةٍ شاملة، فوق الدولة، تضمّ مستشفياتٍ ومدارس ومشاريع إعادة إعمارٍ مموّلةً من طهران، وجهازَ أمنٍ وسجوناً وجيشاً موازياً، وبنيةً تحتيّةً عسكريّةً تُوّجت بالاستحواذ على حقّ الفيتو باسم الطائفة الشيعيّة في البرلمان والحكومة وباقي مؤسّسات الدولة.
عودة النّفوذ والمعنويّات؟
ما يقوله العالم لبيروت هو أنّ تفكيك هذا الإطار، بشكلٍ منهجيٍّ وواضحٍ، أمرٌ غير قابلٍ للتفاوض، إذا ما أراد لبنان التمتّع بسيادةٍ حقيقيّةٍ واستقرار، أو الاستفادة من عمليّات الإنعاش الاقتصاديّ للبلد.
لم يخفَ هذا الأمر، منذ البداية، على القيادة السياسيّة الجديدة في لبنان، ممثّلةً بالرئيس جوزف عون ورئيس الوزراء نوّاف سلام. فعون، الذي انتُخب في كانون الثاني بعد فراغٍ رئاسيٍّ طويل، أشار صراحةً إلى نزع السلاح كأولويّةٍ لعهده، ورحّبت حكومة سلام في أيلول بخطّة الجيش التي تبدأ بمناطق الحدود الجنوبيّة، وتهدف إلى احتكار الدولة الكامل للسلاح بحلول نهاية العام، وربطت ذلك بتطبيق وقف إطلاق النار لعام 2024 بدعمٍ أميركيّ.
بحلول أواخر أيّار، قال الجيش، وأيّدته الحكومة، إنّه أنجز نحو 80 في المئة من نزع السلاح في جنوب نهر الليطاني، مصادراً مخزوناتٍ ومواقع. لبرهةٍ، بدا وكأنّ النخبة السياسيّة اللبنانيّة قد تحرّرت من الخوف ومن حسابات الميليشيا، وانحازت بشكلٍ جذريّ إلى الخيارات التي تخدم أغلبيّة اللبنانيّين.
بيد أنّ هذا السياق تخلّلته عودةٌ بطيئةٌ لنفوذ ومعنويّات ميليشيا “الحزب” نتيجة تَلكّؤ السلطة السياسية عن استثمار الزخم الذي رافق انتخاب الرئيس وتشكيل الحكومة، لا سيّما في الأسابيع الأولى. مع الوقت، رفع “الحزب” نبرته حيال الداخل اللبنانيّ وأجهزة الدولة، متّهماً رئيس الحكومة بشكلٍ خاصّ بـ”الاستسلام لإسرائيل”، حيث إنّه الأوضح والأجرأ في عمليّة تفكيك الـ(Framework)، بالتوازي مع الإصرار على الاحتفاظ بالسلاح حتّى الانسحاب الإسرائيليّ الكامل، وربّما بعده، وهي الشروط التي يدرك أنّها توفّر للحزب مساحاتٍ للتلاعب والتسويف.
إذ تفيد تقارير استخباراتٍ غربيّة بأنّ “الحزب” يعيد بناء مخازنه بالفعل في الجنوب والبقاع، مستغلّاً تردّد السلطة السياسيّة. فقَدت التصريحاتُ عن سيطرة الدولة وحصريّة السلاح وغيرها، المصداقيّة والحماس اللذين رافقا بدايات العهد. ترافق تداعي هذا المناخ مع تكثيف الضربات الإسرائيليّة وزيادة حدّة التصريحات عن عمليّةٍ إسرائيليّةٍ أوسع لفرض نزع السلاح، وإعادة ضبط توازن القوى داخل لبنان ليعكس، مجدّداً، اللحظة التي أفضت إلى انتخاب عون وتشكيل حكومة سلام.
يبرز في هذا السياق الإحباط الأميركيّ من التباطؤ الدولتيّ الذي سمح للميليشيا باستعادة توازنها وإعادة ترميم جزءٍ من إطار العمل ذاته، تحت ستار “درء الفتنة ومنع الحرب الأهليّة”.
ما لم تنتبه الدولة اللبنانيّة إلى أنّ المطلوب منها هو هدم “إطار العمل” الذي حكم التعايش مع “الحزب”، فستبقى جهود التدقيق في ترسانة ميليشيا “الحزب” نوعاً من التحايل، لا سيّما أنّ إسرائيل هي من تقوم بالعمل الجادّ في هذا الإطار، كما دلّت الضربات الأخيرة، لا سيّما في البقاع. وهدم إطار العمل (Framework) هو خطّة شاملة تبدأ بالسلاح، وتمرّ عبر أنشطة “الحزب” المموّهة تحت غطاء العمل الاجتماعيّ، وتصل إلى نزع سلاح المخيّمات الفلسطينيّة، وتثبيت ترسيم الحدود السوريّة.
أثمانٌ عملاقة
لئن كانت وستبقى البداية المنطقيّة لتفكيك إطار العمل الموازي هي عمليّة نزع السلاح، وإنهاء التذاكي حول جنوب وشمال نهر الليطاني بشكلٍ علنيّ، وتسمية نزع السلاح نزعاً لا “حصريّة السلاح”، فإنّه تقع، في المقابل، على عاتق الدولة اللبنانيّة مسؤوليّة تأسيس سرديّة وطنيّة متكاملة وذات مصداقيّة حول ثلاثة محاور أخرى:
– أوّلاً: إخضاع مؤسّسات النشاط الاجتماعيّ والخدميّ التابعة لـ”الحزب” للمنظومات القانونيّة والرقابيّة للدولة اللبنانيّة.
– ثانياً: تطوير خارطة طريقٍ للإصلاح السياسيّ والمؤسّسيّ لإنهاء حقّ الفيتو الذي تتمتّع به الميليشيا في الحكومة والبرلمان، وإجراء إصلاحاتٍ انتخابيّةٍ تمنع مشاركة الأحزاب المسلّحة، حتّى لو أدّى ذلك إلى تأجيل الانتخابات البرلمانيّة، لإعادة رسم العقد الاجتماعيّ.
– ثالثاً: السيطرة الأمنيّة والاقتصاديّة عبر نشر فعّالٍ للجيش اللبنانيّ على الحدود السوريّة، وإغلاق طرق التهريب، وتطبيق إجراءاتٍ صارمةٍ في المطار والمرفأ لوقف التمويل والسلاح الإيرانيّ، وتفكيك الشبكات الماليّة غير الشرعيّة دوليّاً.
هذه السرديّة، المدعومة بحوارٍ وطنيٍّ شاملٍ على أساسها، تنهض على الالتزام الفعليّ بـ”السلام الذاتيّ أوّلاً”، كأداة وحيدة قادرة على تحفيز الدعم الدوليّ المطلوب، وجذب انتباه العالم إلى مصداقيّة السلطة السياسيّة بدلاً من صورة التلكّؤ والضعف التي تهيمن على سمعتها.
فالمعادلة الأخلاقيّة والاستراتيجيّة الجديدة التي يفرضها مفهوم “السلام الذاتيّ أوّلاً” هي تبنّي موقف براغماتيّ يركّز على تحصين الجبهة الداخليّة وبناء السّلم الإيجابيّ عبر نزع السلاح وإعادة الهيمنة على الدولة والمؤسّسات، حتّى لو تطلّب الأمر خياراتٍ صعبةً ومؤلمةً، مثل غضّ النظر مرحليّاً عن استمرار الاحتلال الإسرائيليّ لبعض التلال الهامشيّة، إذا كان الثمن هو تمكين الدولة من استعادة عافيتها الاقتصاديّة والسياسيّة وضمان حقوق مواطنيها في الأمن والسيادة الفعليّة على مناطق سيطرتها.
النافذة تضيق، وقد لا يُتاح للبنان أن يؤجّل الاستحقاقات المطلوبة منه أبعد من بدايات عام 2026. فإسرائيل لن تنتظر إلى الأبد، وكذلك الجهات المانحة والراعية.
الأداء الحاليّ للسلطة السياسيّة في لبنان يشير إلى أنّ البلد يسير نائماً نحو الهاوية، و”الحزب” يتمتّع بحرّيةٍ أكبر لترميم أجزاء حيويّة من دولته الموازية. السؤال ليس عمّا إذا كانت النخبة تستطيع تحمّل تكلفة العمل، بل عمّا إذا كانت تستطيع تحمّل تكلفة عدم العمل. فمشكلة الميليشيا لن تُعالِج نفسها، ولن يعالجها أحدٌ نيابةً عن اللبنانيّين، إلّا بأثمانٍ عملاقةٍ لن يكون بوسع لبنان تحمّلها.

Share