علي شعيب/بين مؤتمر شرم الشيخ ومؤتمر وادي الحُجير-2: مأزق شيعي يتكرّر بعد قرن

16

بين مؤتمر شرم الشيخ ومؤتمر وادي الحُجير-2: مأزق شيعي يتكرّر بعد قرن
علي شعيب/جنوبية/15 تشرين الأول/2025
“سمعنا اليوم أنه دخلت الحملة الفرنسية المؤ لفة من 4000 رجل وادي الحريق، بعــد اجتيازها سهل صور. فعرض لها الثائر صادق حمزة، ومعه بضعة عشر رجال، فصدّهم عن التقدّم بما كان مع المقاومين من الذخيرة القليلة ، مدة سبع ساعات، حتى إذا نفذت ذخيرتهم، ولم يمدّهم أحد، تراجعوا، ولم يُفقد منهم أحد.” الشيخ أحمد رضا: مذكرات للتاريخ. العرفان م34 ، ج2 199/ــ200) المصدر”.

تبدو اللحظة اللبنانية الراهنة كأنّها رجع صدى بعيد لـ«مؤتمر وادي الحُجير» عام 1920: اجتماع شيعي تاريخي دعا إلى مقاومة الانتداب الفرنسي والالتحاق بالمشروع العربي بقيادة الملك فيصل، آنذاك، في واد جنوبي صار لاحقا رمزا لخيارات خاسرة كبرى اتُّخذت باسم الجماعة ثم دفعتها أجيال كاملة أثمانا باهظة. يومها، ومع نشوء “لبنان الكبير”، اختار قسم من القيادات الشيعية الدينية، يترأسها، رجل الدين الشيعي الأهم وقتئذ، عبد الحسين شرف الدين، الاصطفاف تحت راية العروبة الناشئة ورفض الاعتراف بشرعية الدولة اللبنانية الوليدة، قبل أن تفرض الوقائع الماديّة والعقلانية الالتحاق القسري بها لاحقًا.
النتيجة السياسية والإجتماعية والإقتصادية ل”المقاومة و”الممانعة” حينها كانت تهميشًا طويلًا لدور الشيعة وموقعهم في مؤسسات الدولة لعدم التحاقهم بمشروع بناء الدولة من اللحظة الصفر، إلى أن قلبت انتفاضة 6 شباط 1984 موازين القوى داخل النظام، على وقع سقوط نفوذ واشنطن في لبنان والإقليم لمصلحة الإتحاد السوفياتي وتقدّم محور دمشق وحلفائها في بيروت.

دخلت الجماعة الشيعية في مسارٍ جديد: “الوصاية السورية” ثم “التوأمة السورية–الإيرانية” التي منحتها نفوذا تصاعديًا
منذ ذلك المنعطف، دخلت الجماعة الشيعية في مسارٍ جديد: “الوصاية السورية” ثم “التوأمة السورية–الإيرانية” التي منحتها نفوذا تصاعديًا، وصولًا إلى التحرير في العام 2000، وما بعد 2006 حين أصبح حزب الله لاعبًا فوق-دولتيا بحجّة المقاومة، فيما كرّس القرار 1701 إطارأً قانونياً لدولة ينبغي أن تحتكر السلاح جنوب الليطاني وما بعد بعده.

لكن الواقع جرى بعكس وضوح النص، المرتكز على قرارات سابقة ذات صلة، ليترسّخ سلاح الحزب، وتوسّعت بناه جنوبًا وشمالًا، وتكاثرت مناطق نفوذ موازية لدورة الدولة في خضّم مفاوضات طويلة وشاقة وغير معلنة حينها بين إيران والغرب نجم عنها لاحقا الإتفاق النووي الذي تم توقيعه رسميا في العام 2016. استغل النظام الإيراني فترة التفاوض الطويلة تلك، التي حدت بالإدارات الأميركية المتعاقبة على غضّ الطرف عن الإرتكابات الإميركية في الإقليم، ومن ضمنها التدخل العسكري السافر لحزب الله في سوريا الذي ساهم بعدها في تعاظم قوة ونفوذ حزب الله، والإمعان في السيطرة على قرارات المؤسسات الشرعية اللبنانية وبسط نفوذه الثنائي عليها.

هكذا، بين نصّ دوليّ واضح وممارسة داخلية مضادّة، تشكّل مأزق سياديّ مزمن ظلّ يُدار لا يُحلّ.
من 2006 إلى 2023، راكم الثنائي الشيعي، بفضل شبكة تسليح وتمويل إقليمية، وبفعل هندسة إجتماعية دقيقة، لاقتصاد الولاء والرعاية والحماية، مما مكّنه من تعطيل حكومات، وحسم خيارات حرب وسلم، وفرض أعراف دستورية ما أنزل الله بها من سلطان بحكم الأمر الواقع وفائض القوة المتراكمة.
من 2006 إلى 2023، راكم الثنائي الشيعي، بفضل شبكة تسليح وتمويل إقليمية، وبفعل هندسة إجتماعية دقيقة، لاقتصاد الولاء والرعاية والحماية
ومع اندلاع حرب غزة وتحوّل الجنوب إلى جبهة “إسناد” مفتوحة في 8 تشرين الأول 2023، بدا أن لبنان يُساق مرةً أخرى إلى المعادلة الصلبة ذاتها التي حكمت مساره لثلاثة عقود: دولة محيّدة، وحدود تحكمها قواعد اشتباك تتبدّل على صوت الصواريخ وأزيز المسيّرات.

لكن عام 2024 حمل صدمات عسكرية هائلة وغير مسبوقة شّلت قدرات الحزب على جبهات القتال ودمرّت بنيته القيادية والتنظيمية: حملة استهداف منظمّة ودقيقة للقيادات والبنى التحتية، واختراقات بشرية وتقنية أخّلت بنظم القيادة والسيطرة والقطاعات الخدماتية واللوجستية. مراكز بحثية غربية مختصة تحدّثت صراحة عن “ضعف وتضعضع كبير وعميق وشامل” لقدرات حزب الله مقارنة بمرحلة ما قبل الحرب —من دون إنكار أنه “يبقى خطِرا وقادرا على الإيلام”..

ولأن التاريخ يميل إلى التورية، يبدو أننا أمام “ديجا فو” شيعي: قياداتٌ تصرّ، رغم تبدّل الظروف الإقليمية وقسوة الضربات، على ربط مصير الجماعة بمصير طهران، كما لو أنّ التحالف الأبديّ ذاك قدرٌ لا يُفكّ ولا يتضعضع بينما تقوم قيادة “حماس” بالتخلص من القيد الإيراني الغليظ.

هذه المقاربة، من جديد، تُقصي خيار الدولة، وتُراهن على مظلّة خارجية مهتزّة، فيما تتزايد مؤشرات الضغط الدولي—قانونيًا عبر التذكير ب1701، وماليًا عبر منظومات العقوبات والامتثال المصرفي— وتتقدّم ضرورة “استعادة الدولة لسيطرتها على كامل أراضيها” في الخطاب الأممي والغربي.
أي إنّ الكلفة السياسية لخيارات الالتحاق الإقليمي والخارجي ترتفع، فيما العائد المتوقع للدخول الفعلي والنهائي في الدولة الجديدة يتناقص شيئا فشيئا.
الكلفة السياسية لخيارات الالتحاق الإقليمي والخارجي ترتفع، فيما العائد المتوقع للدخول الفعلي والنهائي في الدولة الجديدة يتناقص شيئا فشيئا
المعضلة، كما أراها شخصيا، تُشبه إلى حد كبير مرحلة مؤتمر وادي الحُجير في القرن العشرين ولكن بملامح القرن الحادي والعشرين.

أمام الشيعة اليوم خياران سيئان إذا قُدِّما بهذه الصيغة الصفرية (التي تقوم على توازن الرعب أو توازن المجازفة):
تسليم السلاح للدولة بما يشبه الانحناء لواقع دولي وإقليمي جديد (الإنتداب الأميركي-العربي على طريقة الحل الغزّاوي)، وجنوب يُعاد هندسة أمنه وإعماره بقوة القرار 1701 والتفوق العسكري والتقني والإقتصادي الهائل للغرب ودول الخليج العربي.
الإبقاء على الوضع القائم والإعتماد الكامل على إيران المهددة بإسقاط نظامها في أي وقت.
يعتمد الخيار الثاني على أمل تبدّل دولي ما، مثل عقد إيران لصفقة ثانية مع الولايات المتحدة والغرب قد تفضي، بشكل مباشر أو غير مباشر إلى محافظة “شيعة إيران” في لبنان على مكتسبات الأعوام الخمسة والأربعين الماضية. هذا يعني الدخول في مجازفة كبيرة، قد لا تحمد عقباها، إذا تعرّض النظام الإيراني لاهتزاز خطير في المديين القصيروالمتوسط. كلا الخيارين، كما هما، يشي باصطفاف قسريّ خارج مشروع لبناني وطني جامع قادر على الموازنة بين كل تلك الضغوطات الدولية والإقليمية يفتقر فيه الطرف الشيعي الحاكم بأمره إلى هندسة طريقٍ ثالث: العودة المنظمة إلى الدولة الجامعة عبر انتقال سياسي–اجتماعي استراتيجي يقي الشيعة ولبنان تكرار عزلة وادي الحُجير، والأحداث الأهلية الخطيرة التي رافقتها، والتي أجبرت الشيعة على الدخول المتأخر في الدولة بعصا الإنتداب الفرنسي الغليظة..د

لماذا أجزم بأن القيادة الحالية للطائفة الشيعية (الثنائي الشيعي) عاجزة عن التحوّل الإيجابي؟
لأنّ بنية منظومتها وشرعيتها ومواردها قامت طوال 45 سنة على ثلاث ركائز: تسليح خارج-دولتي، اقتصاد رعاية يَحكمه الولاء، وسردية مقاومة، واهية المضمون، تبرّر الاستثناء الدائم للتحكم بالقرارات المصيرية والإستعصاء على الدولة ومؤسساتها الشرعية.

تفكيك هذه الركائز يعني،عمليًا، تفكيك مصدر القوة المتخيلة نفسه.
أما المعارضة الشيعية، أفرادا وهيئات وأطر، فلا تمتلك حتى الآن كتلة شعبية وصفة تمثيلية صلبة، ولا ظهرا إقليميًا، أو حتى دوليا، ولا خطة عبور واضحة وجامعة تُطمئن الجمهور الشيعي الأعرض الصامت إلى إمكانية “الهبوط الآمن” من فضاء السلاح والخوف إلى واقع السياسة والإقتصاد.

يُستعاد شبح وادي الحُجير: جماعة دينية عقائدية تتمادى في خطاب الرفض والتخوين بلا أي بديل واقعي للخروج من الأزمة العصيبة
هكذا، يُستعاد شبح وادي الحُجير: جماعة دينية عقائدية تتمادى في خطاب الرفض والتخوين بلا أي بديل واقعي للخروج من الأزمة العصيبة، وقاعدةٌ متعبة عالقة بين خوفين: الخوف من الحمايات الدولية وتبدّل مزاجاتها المتكرر، والخوف من سقوط السقف الإيراني على رؤوسها. لكنّ التاريخ ليس قدرًا مغلقًا. فإذا كانت خلاصة 1920 أنّ رفض الشرعية، ثم الانضواء القسري، حرَم الشيعة دورا مؤسسا لعقود، فإن فرصة 2025 هي عكس تلك المعادلة: الانضواء الطوعي الغير مشروط في الشرعية اللبنانية عبر خارطة طريق واضحة، لا إذعانا أمنيا ولا تبعية خارجية، بل تسوية وطنية تُصاغ على برودة القانون والشرعية لا على حرارة السلاح والعنف.

كيف؟
أولا، عبر الإعتراف الصريح والواضح بأنّ القرار 1701 ليس مؤامرة بل عقد أمان حدّه الأدنى جنوب وضاحية جنوبية وبقاع بلا سلاح غير شرعي، وجيش لبناني ينتشر فعليا على الأرض، ومراقبة إقليمية ودولية عادلة. ثانيا، ممرّ سياسي واقتصادي واجتماعي “للعودة” يضمن كرامة الناس المغرّر بها لعقود: خدماتٌ عامة عبر الدولة لا عبر بطاقات الإنتساب الحزبية، حمايةٌ اجتماعية غير مشروطة بالولاء، وتعويضاتٌ وازنة لضحايا دورات العنف وإعادة إعمار ما تهدّم. ثالثًا، اندماجٌ نيابي–حكومي “مُراقب” يتيح تمثيلا شيعيا وازنا داخل اللعبة الدستورية مقابل تعهّد زمني واضح بإقفال الملف العسكري، مع ضمانات تشاركية تُطمئن المكوّن الشيعي إلى أن الدولة ليست خصما، وأنّ الشراكة الوطنية ليست بابا لغلبة طرف لبناني على آخر.

قد يَسأل سائل: ومن يضمن ألاّ يتحوّل هذا المسار إلى “استتباع” تحت رعاية الخارج واستغلال الضعف الإيراني في الإقليم؟
الجواب: لا شيء يضمن ذلك أكثر من الإنضمام السريع والصريح في مشروع بناء مؤسسات الدولة الضامنة لذاتها بذاتها: قضاءٍ مستقل، إدارة شفافة، ولامركزية إدارية–مالية تُقلّص اقتصاد الزبائنية وتعيد الخدمات إلى الناس حيث يعيشون. فالدولة القوية وحدها تُخرج السلاح من السياسة، وتُخرج السياسة من السلاح. أمّا انتظار تبدّل الإقليم كشرط للتبدّل الداخلي، فقد جرّبناه مرارا: يطول الانتظار، وتتغيّر الخرائط والتحالفات فوق رؤوسنا.

إن الإنقاذ الشيعي — وبالتالي الإنقاذ اللبناني— لن يأت عبر إعادة إنتاج عزلة مؤتمر وادي الحُجير بخطاب خشبي ملمنه جميع اللبنانيين، ولا عبر التشبّث بحبال إقليمية تتآكل أمام أعين الجميع، بل عبر رحلة “توبة سياسية” نصوحة بعد كل تلك المرحلة المخزية للثنائي الشيعي يون عمادها نقدٌ ذاتي شجاع وتفكيكٌ مُنظّم لاقتصاد الولاء مع إعادة تأهيل مدنيّ ووطني لجمهور عاش عقودا تحت طوارئ سردية عقائدية ما أنزل الله بها من سلطان، ومنظومة صواريخ ورصاص وقتل وتدمير وتهجير واغتيال. ووجوب العودة تدريجية إلى مسرح وطنيّ لا تُدار فيه المعارك من خلف حدود وسفارات ودهاليز مخابرات ومؤامرات داخلية وخارجية.

الخياران السيئان كما طُرحا فوق ليسا قدَرا؛ القدر الوحيد الذي نعرفه أن ثمة جماعة اختارت الدولة في مرحلة تحوّل دولي وأقليمي حاد وخطير لتصبح شريكة فعاّلة في إعادة تركيب أولوياتها ووض أهدافها لعشرات السنين القادمة. في 1920 ضاعت الفرصة الأولى، فلنحسن التقاط الثانية قبل أن يُقفل التاريخ دفتر العروض والفرص.

Share