عيد الأم: قدسية العطاء وحضن الأوطان وصون كيان العائلة
الياس بجاني/11 أيار/2025
في كل عام، نحتفل بعيد الأم، فنقف بخشوع أمام أعظم رسالة بشرية حملتها امرأة: الأمومة. ليست هذه المناسبة مجرّد يوم في التقويم، بل هي لحظة تأمل في سر العطاء اللامحدود، والحبّ غير المشروط، والتفاني الذي لا يعرف كللاً ولا مللاً. فالأم هي القلب النابض للعائلة، والركن الثابت الذي يربط الحاضر بالماضي ويهيّئ الطريق نحو المستقبل.
منذ اللحظة الأولى التي تحتضن فيها الأم طفلها، تبدأ مسيرة طويلة من التضحية والتنشئة. بعينٍ لا تنام وقلبٍ لا يهدأ، تزرع في أطفالها القيم والمبادئ، وتغرس في نفوسهم الثقة والأمان. دور الأم لا يقتصر على الإطعام والرعاية الجسدية، بل يتعدّاه إلى تربية الضمير، تهذيب السلوك، وتشكيل الهوية.
وحين نبحث عن النموذج الأعلى للأمومة، تتجه أبصارنا وقلوبنا إلى السيدة العذراء مريم، التي ارتضت بشجاعة ما بشرها به الملاك جبرائيل، فأنجبت المسيح الرب، وحملت على عاتقها تربية الكلمة المتجسدة. لم تكن أمومتها كباقي الأمهات، بل كانت أمومةً مكللة بالصبر والطاعة والتجرد من كل أنانية. نذرت حياتها لخدمة مشيئة الله، وتحمّلت الآلام في سبيل خلاص البشرية.
تتميّز الأم بقدرتها على العطاء دون انتظار مقابل، وبحبها الذي يتجاوز الأخطاء، وبسهرها الذي لا تشتكي منه، وبدموعها التي لا يراها أحد. إنها رمز التضحية، ومثال نكران الذات، وصورة الحنان الإلهي على الأرض. وما من مخلوق في هذا الكون قادر على احتضان وجع طفل أو خيبات شاب أو تعب أب مثلها. فالأم هي الذاكرة الحيّة للعائلة، وهي الحضن الذي لا يخون.
العائلة ليست فقط وحدة اجتماعية بل هي الخليّة الأولى في بناء المجتمعات السليمة. هي المدرسة الأولى التي يتعلّم فيها الإنسان كيف يحب، وكيف يحترم، وكيف يشارك، وكيف يواجه التحديات. ولكي تقوم هذه المؤسسة بدورها، لا بد أن يكرّس كل من الأم والأب حياتهم من أجل أولادهم. إن التكامل بين الأبوّة والأمومة هو أساس التربية المتوازنة، التي تنشئ أجيالاً واثقة، متصالحة مع ذاتها، ثابتة في قيمها.
لكن، وللأسف، تهب اليوم على العالم رياح غريبة تسعى إلى تقويض هذا الكيان المقدّس. فباسم “الحرية” و”الحداثة”، أُعيد تعريف العائلة في العديد من الدول، فأُتيح الزواج بين ذكر وذكر، أو أنثى وأنثى، بل وأصبح من المقبول تغيير الجنس وتشويه الفطرة التي فُطر الإنسان عليها. هذه المفاهيم المسمومة التي يروّج لها اليسار المتطرف تسعى إلى تفكيك العائلة، وضرب ثوابت المجتمعات، وتحويل الإنسان إلى كائن عديم الجذور والهوية.
في زمن كثُرت فيه الضبابية، تبقى الأمومة شعلة مضيئة لا تعرف الخفوت. هي سرّ الحياة واستمراريتها، ومصدر السلام الحقيقي في المجتمعات. لن تستطيع كل التشريعات المنحرفة، ولا الأفكار الملوّثة، أن تمحو من قلب الإنسان صورته الأولى وهو ينام في حضن أمّه. فكما قالت الشاعرة:
“الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتها… أعددتَ شعباً طيبَ الأعراقِ.”
ففي عيد الأم، لنتأمل في قيمة هذه الرسالة، ولنحافظ على كرامتها، ولنقف في وجه كل من يحاول تشويهها أو تسخيف دورها. فبوجود الأم، يوجد وطن. وبغيابها، تضيع أوطان.
.*الكاتب ناشط لبناني اغترابي
عنوان الكاتب الألكتروني
phoenicia@hotmail.com
عنوان موقع الكاتب الألكتروتي
https://eliasbejjaninews.com