الصالح وغير الصالح في طروحات أنطون سعادة أنطوان سعد/مون ليبانون/السبت 25 كانون الثاني 2025
هنّ ثلاث من لذّة الفتى الجالس أمامكم، أغرَينه على الموافقة فورًا على تلبية دعوة مؤسّسة سعادة للثقافة إلى هذه الندوة: لذّةُ الكلام على أنطون سعادة الذي يتتبّع من اثنين وثلاثين عامًا ما كتبه وفعله وقام به أتباعه بعد إعدامه الأشبه بالاغتيال أو التصفية السياسية، ولذّةُ منادمة أصدقاء قوميين أعزّاء (وبخاصةٍ الدكتور ميلاد السبعلي والأستاذ حسّان صقر) إلى مائدة الفكر والكلمة، ولذّةُ مخاطبة قادة الرأي في الحزب السوري القومي الاجتماعي بمجموعة أفكار في مرحلةٍ مصيرية من تاريخ لبنان، يحتاج فيها اللبنانيون إلى التصرّف سريعًا لإنقاذ بلدهم.
بعد قبوله الدعوة بحماسة وتلقائية، وفور إغلاقه سمّاعة الهاتف، “إجت الفَكْرة”: هل بإمكانه أن يقول ما يفكّر به أمام مجتمع حزبي يستقبل بـ”تحيا سوريا” ويودّع الحياة بـ”البقاء للأمة؟” وهل بإمكانه التعبير بحرّية بين كوادر حزب، تاريخه مرتبط بمحاولات الانقلاب وباستخدام العنف مرّات عدّة، وبالدعوة إلى “ضرورة المساعدة بغير الحكي” (ص 347) منذ أيام زعيمه التاريخي؟
بعد التفكير، قرّر الفتى المشاركة متّكلًا على خبرةٍ حديثة متمثّلة بتقبّل الحزب بكلّ ديمقراطية ورحابة صدر محمودة لكتاب “أنطون سعادة في الطريق المسدود” (نخبركم القصة لاحقًا لضيق الوقت)، ومتّكلًا على محبّة أصدقائه القوميين، وكذلك على استخدام عباراته بدقّة وحصافة وحكمة بما تقتضيه أصول اللياقة والمحبّة الوطنية.
أما بعد،
فقد أتى أنطون سعادة بفكرٍ قومي يُعبّر عن تطلّعاتٍ راسخة في وجدان نخب بعض شعوب الشرق الأدنى، ويحاكي اقتناعات زرعتها نخب حداثوية نهضوية ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر، قالت بضرورة أن تثب من ركود الموروثات البالية نحو نهضةٍ اجتماعية قائمة على الرابط القومي وحده وتفصل بين الدين والسياسة، أو “الرياسة عن السياسة”، على حدّ تعبير المعلّم بطرس البستاني (مقالة مهمّة للدكتور ميلاد في الحوار نيوز). كانت نُخب الشرق الأدنى، وبخاصة في أوساط الأقليات الدينية، تتوق لبلورة نهضة لا تكون الشرائع الدينية أو بالأحرى الشريعة الإسلامية هي الناظمة لشؤون الحياة، أكانت الاجتماعية أو السياسية. إذ إن التخلّف الذي كان سائدًا، مقابل التفوّق الأوروبي الذي كان صاعدًا، كان بحدّ ذاته برهانًا على أن الارتقاء يمرّ بهذا الفصل، فكيف إذا كان من نتائجه تحقيق مساواة مفقودة، بل معدومة منذ قرون؟
قال بذلك كثيرون قبل سعادة، ولكنه تفوّق على من سبقوه بأنه تمكّن من أن يبني حزبًا قويًا يضمّ نخبًا ومناصرين كثر بسبب شخصيته الكاريزماتية القوية، الجامعة بين وداعة أبوية في التعامل تُشعر الفرد بالاهتمام والانجذاب إلى المثقّف الذي يعرف أكثر منه، وبين سلطة أبوية قوية جامحة جماهيرية تُقنع الفرد أنه بانقياده إلى هذا الرجل القوي سيشارك في تحقيق أمور عظيمة.
ولأنني أود إمتاعكم، إضافة إلى إقناعكم، سأستطرد في تقديم وصف الرئيس إيلي سالم لشخصية أنطون سعادة ستقرأونه في مذكّراته التي ستصدر في مطلع العام المقبل:
“لقد صادقنا أنا ولبيب زويا الزعيم لرغبتنا في التحدّث معه في موضوعات إيديولوجية وفلسفية. وكان حقًّا وحيدًا، ومتفرّدًا، ومفكِّرًا، وحالمًا، ومُرتاحًا مع نفسه وواثقًا من هدفه، وهو تحقيق “الأمّة السورية الجديدة”. كنّا نسهر عنده بشكل مستمرّ، نقدّم له علبة سجائر Lucky Strike لأنّه كان مدخّنًا مدمنًا، لدرجة أنّه “يُفطّس” الحاضرين بدخانه. أجرينا معه مناقشات سياسية جدّية شبيهة بالطريقة السقراطية إلى حدٍّ كبير. وقد كان كثير الكلام، وبخاصّة عن الأمّة السورية وعن أشور وبابل، ويعود باستمرار إلى التاريخ من أجل دعم أفكاره. في ذلك الوقت لم تكن لي معرفة عميقة بالتاريخ. ويمكنني القول إنه من خلال حديثي معه أحببتُه شخصيًّا وفكريًّا وثقافيًّا، ولكنّي لم أصبح عضوًا في حزبه أو أي حزب سياسي آخر.
لا يمكن لأي شخصٍ عرف هذا الإنسان اللطيف والهادئ والمتواضع كما عرفناه، أن يصدّق أنه هو نفسه الذي يتحوّل على المنبر أثناء مخاطبة الجماهير إلى عملاق مهيب، وقائد واثق، وحالم بمستقبل علماني ثابت للأمة السورية. وأستعيد صورته في ذاكرتي لدى استقباله في المطار، حيث وقف سعادة وحدّق بالجماهير، ويداه خلف ظهره، وألقى فيهم خطابًا وجيزًا نزل عليهم كالوَحي. في الحقيقة، كان ساحرًا في طرح أفكاره غير المألوفة التي جرى استيعابها بِعَطَش مسافر في صحراء لا ماء فيها.” (انتهى الاقتباس)
رغم كلّ مواهبه، واستجابة نسبة كبيرة جدًا من النخب (في الواقع لطالما أذهلني عدد المثقّفين الذين استجابوا لدعوة سعادة القومية)، لم ينجح مشروع سعادة. يحلو للقوميين أن يعزوا عدم النجاح هذا إلى مؤامرات غربية، وقد يكونون على حق، لكني شخصيًا أعتقد أن الأسباب داخلية مرتبطة بعدم التجاوب العميق الكامل لمثقّفي الحزب ونخبه، مع الدعوة إلى الثورة التي أعلنها في 4 تموز، وبعدم ارتياحهم لاستخدام العنف لتحقيق المطالب القومية، وبعدم الاقتناع بجدوى تعريض استقلال لبنان للخطر، وبخشية ضياع هذا الكيان الذي أمّن لسعادة ولجميع أصحاب الأفكار مناخ حرّية، في مشاريع أكبر منه. وفي أدبيات الحزب السوري القومي الاجتماعي عن ثورة 4 تموز الكثير مما يدعم هذه الفكرة بوضوح.
أما اليوم، ومن دون في الخوض في مسؤولية حزبكم عن مرحلة ما بعد اتّفاق الطائف التي كنتم جزءًا لا يتجزّأ من المعادلة التي حكمتها، فهذه عملية نقد ذاتي يعود إليكم أمر تقرير إجرائها، ولكم في النقد الذاتي حياة، فإن ما أتى به سعادة لا تزال ثلاثة أوجه منه صالحة لمواجهة التحدّيات الكبيرة الراهنة الناجمة عن التبدّلات الكبيرة في الواقع السوري والشرق أوسطي، في حين يجب إجراء تعديل جذري في ثلاثة أوجه أخرى.
الأوجه الثلاثة الصالحة
– الوجه المتجاوز للطائفية: ثمة إقرار من مختلف القوى السياسية في لبنان، بأن حزبكم أكثر التجمّعات بُعدًا عن التجاذبات ولعبة التحاصص والتوتّر والعصبية الطائفية.
– الوجه المتجاوز للحدود: إن لكم حضورًا وديناميكية في بعض دول المحيط.
– الوجه المتجاوز للذات: نحو تطويرها ثقافيًا وفكريًا وتبنّي الأفكار الحداثوية في الفلسفة وعلم الاجتماع.
الأوجه غير الصالحة
– الوجه المذوّب للفرد: فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، باتت الشعوب تواقّة إلى جعل الشخص محط الاهتمام الأول بخلاف ما أكّد عليه سعادة في رسالته إلى فايز صايغ في 30/11/1947، بأن تعاليم الحركة القومية الاجتماعية “تدور على محور المجتمع وليس على محور الفرد أو الشخصية”. ذلك أن استنسابية تقدير مصلحة المجتمع توقع دون شكّ في فخ الشمولية والتوتاليتارية.
– الوجه المذوّب للبنان: على رغم كتابات عدّة لسعادة عن أهمية لبنان، فإن الطاغي في كتاباته وسياساته وتوجيهاته يُقدّم “الأمة السورية التامة” على الأمة اللبنانية كفكرة ورسالة ودور.
– الوجه المذوّب للتعدّديات: إن ميل سعادة إلى صهر المجموعات الدينية والسياسية والإثنية واللغوية يجعلها في موقع دفاعي عن هويتها وشخصيتها.
إن البناء على الأوجه الصالحة ومعالجة الأوجه التي تخطّاها الزمن، يتيح للحزب السوري القومي الاجتماعي التصدّي للتحدّيات الماثلة اليوم أمام اللبنانيين. إن لبنان اليوم يحتاج لقوّةٍ سياسية منظّمة عابرة للطوائف قادرة على إيصال فكرة احترام أنواع التعدّدية في المنطقة العربية، وعلى ترسيخ فكرة الحق بالحرّية التي عانى من فقدانها في الأربعينات في لبنان وفي الخمسينات في سوريا وفي لبنان في الستينات وفي السبعينات والثمانينات في سوريا.
إن اتّفاق الطائف الذي يوازن بين حقوق الجماعات والأفراد ويطمئن الجماعات لمستقبلها ودورها وحضورها وفي الوقت نفسه يفتح الباب أمام إمكانية تجاوز الطائفية، متى ما توافرت نخب غير طائفية وارتاحت الهويات من قلق الخطر الوجودي الذي تنطوي عليه اتّجاهات الحركات الأصولية التي يراد لها أن تكون صاعدة من جديد.
* ألقيت بدعوةٍ من مؤسّسة سعادة للثقافة بتاريخ 21 كانون الأول 2024.