رابط فيديو مقابلة من موقع “نبض 10452” مع الكاتب والمخرج يوسف الخوري/انا مع فكّة رقبة “حزب الله” ثم انتخابات رئاسية
06 كانون الثاني/2025
سمير سعد مراد كان شيوعيًّا، لكنّه لم يكن مدخّنًا.
الكاتب والمخرج يوسف ي. الخوري/06 كانون الثاني/2025
بلغني بالأمس نعيُك وكم تمنيتُ أن تكونَ قد شهدتَ قبيل الرحيل على سقوط المجرم الذي سلخ عنك رفيقك في النضال السياسي، جورج حاوي، الذي تكبّد بصدر عارم ثمن مبادراتكما لتوحيد اللبنانيين تحت الراية الوطنيّة في مواجهة النظام الأمني السوري – اللبناني. أذكرُ أنّك أخبرتني بأنّ الشهيد حاوي أمضى ليلته الأخيرة معك في منزله، حيث كنتما تخطّطان لمرحلة ما بعد خروج السوري من لبنان. هو استشهد بعد خروج نظام البعث من لبنان مباشرة، وأنت لم تنتظر أكثر من أسبوع على نهاية هذا النظام لتلحق بجورج وتزفّ إليه الخبر.
سمير سعد مراد، أنت كبير من بلادي، مجهول!
أخفيتَ وراء بسمتك الجميلة فكرًا جديدًا، ووراء فكرك ثقافة نهضويّة، ووراء ثقافتك رؤىً صالحة، ووراء رؤاك رفاهيات اجتماعيّة تصلح لمستقبل زاهر.
عرفتُ سميرًا لا بالسياسة، بل بالفن.
أواخر تسعينيات القرن الماضي جمعني به صديقنا المشترك الدكتور بطرس روحانا لنتعاون معًا على تشكيل خرق في عالم الدراما اللبنانية التي أفقدتها الحرب مكانتها المتقدّمة. كان سمير حينها يعمل على كتابة مسلسل حول سيرة الأديبة ميّ زيادة. تحمّست لميّ بعدما سمعته يروي قصّتها أمامي، فاستوضحته عن بعض التفاصيل، ولمّا انتهينا سألته:
– ما المطلوب لنبدأ؟
– أنا لا أريد ثمن الحلقات، لكنّني في المقابل أريد شيئًا آخر. (أجاب)
– ما هو؟
– المبلغ الذي ستخصّصه لشراء حلقات المسلسل، سلِّفني إيّاه الآن لأكمل بحثي عن ميّ. إذا أنتجت شركتُك المسلسل فيما بعد، يكون قد وصلني حقّي. وإذا لا أعيد لك المال.
– إذا أمهلتني بعض الوقت، باستطاعة شركتنا أن تؤمّن لك المال اللازم لتُكمل بحثك. وإذا لا، سأضطر إلى تسليفك المبلغ الذي تحتاجه، لكن من دون فوائد.
توافقنا أن يُمهلني بعض الوقت، وترك لي حلقتين من المسلسل لقراءتهما، فأعجبني كثيرًا أسلوبه الكتابي، وشعرتُ فورًا أنّ دعم سمير لإنجاز مسلسل عن الأديبة اللبنانيّة ميّ زيادة هو واجب وطني يجب تحقيقه.
عاد إليّ بعد ثلاثة أسابيع ليخبرني بأنّ السيّد أنطوان الشويري، رحمه الله، سيتكفّل بتمويل البحث، فسُرِرت بأنّ مسلسل “ليالي العصفورية”، كما عنوَنه سمير لدى مصلحة حماية الملكيّة الفكريّة، سيتمّ تحضيره كما يجب.
بعدها، مرّت اثنتي عشرة سنة من دون أن نتواصل، سمير وأنا، مع بعضنا البعض.
في العام 2011، قرّرت شركتنا Cedar Of Arabia إنتاج دراما لبنانيّة بحتة، فانكبّ فريقنا المختصّ على البحث عن سيناريو مناسب لتطلّعنا، لكنّه لم يوفّق. فجأة، تذكّرتُ سمير مراد، فقلت لمسؤولة الفريق “هذا الرجل أسلوبه مميّز، فلِما لا تتصلين به وتستكشفين ما إذا كان عنده نصّ جاهز؟”
ما هي إلّا ساعات معدودة حتّى عادت المسؤولة لتبلغني بالحرف:
– عنده مسلسل عن ميّ زيادة وهو لا يريد أن يدخل في أيّ مشروع أخر قبل أن يشهد تنفيذ مسلسله هذا.
– ماذا!!؟ ألم يُسوَّق بعد مسلسل ميّ زيادة؟
تحرّكت بسرعة واستقبلني سمير على ترويقة فول مدمّس من يديّ زوجته السيّدة دلال، في منزله برأس النبع. أبلغني أنّه أنجز كتابة السيناريو والحوار بالكامل بعدما تابع أبحاثه حول حياة ميّ زيادة في مصر، وزار كلّ المنازل التي سكنتها، والأماكن التي كانت ترتادها، واطّلع على مقالات ودراسات لها كانت منسيّة وغير منشورة، كما إنّه اكتشف أحداثًا مشوّقة من حياتها لا يعرفها أحد وسوف تُشكّل قيمة مضافة على المسلسل. أمّا عن سبب عدم بيع المسلسل لغاية تاريخه، فأفادني باختصار بأنّه “على ما يبدو لم يحن وقت ميّ بعد”!
هنا دخلت دلال بالقهوة وقاطعتنا ممازحة:
– الله يقدّم اللي فيه الخير وتتفقوا، لأن صار لازم حدا يشيل ميّ زيادة من فرشتي قبل ما أطلب الطلاق.
– سألتها: بتغاري من ميّ ست دلال؟ (تبسّم سمير)
– دلال: الله وكيلك يا إستاذ خوري، سارقتو مني. (ضحكنا)
– سمير: وانتي بدّك يسرقها إستاذ خوري منّي وتبلي مرتو فيها؟
– سألته: كيف فينا نسرق ميّ منّك يا استاذ؟
– بعطيك 3 حلقات بتقراهُن وبتقرّر.
– ما فينا نبني عَ تلات حلقات بس، لازم لجنة القراءة بشركتنا تطّلع عَ كلّ المشروع.
تردّد سمير كثيرًا في قبول تسليم كامل الحلقات، خصوصًا أنّ مسؤولين (منتجين ومخرج) في إحدى شركات الإنتاج السوريّة أخذوا منه المسلسل للاطلاع عليه، وصاروا بعدها لا يردّون على اتّصالاته، إلى أن استخدموا هم أنفسهم مشاهد من مسلسل سمير في مسلسل آخر عن جبران خليل جبران، ما اضطره إلى إنذارهم وإقامة دعوى في وجههم كي يردوا له نصّه ويمتنعوا عن سرقة فصول منه.
اقترح سمير أن يأتي إلى مكاتبنا ويقرأ بنفسه الحلقات أمام لجنة القراءة.
– لا يا أستاذ، لِ امور ما بتظبط هيك! خليني أعرض عليك شي تاني…
– تفضّل.
– مـندفعلك عشرة آلاف دولار لَـتسمحلنا نطّلع عَ كلّ الحلقات، ومـنتعهّدلك عند كاتب عدل بعدم استخدام نصّك إلّا إذا اشتريناه منك. شو رأيك؟
– بِـقبل، بس عندي شرط.
– يلّا، شو الشرط؟
– إذا ما اشتريتوا العمل بْـرجّع المصاري، وإذا اشتريتوه بْـتخصموا لْ عشرة آلاف من المبلغ الإجمالي.
– إذا هَيك بْـترتاح ما في مشكل.
صدّقوني! لمّا بدأ تسليمنا الحلقات، توقّف عمل معظم الصبايا والشباب في الشركة، إذ صار المعنيون وغير المعنيين يقرأونها، وكلّ منهم يحاول بطريقته التأثير عليّ بطريقة أو بأخرى لشرائه. لكن المفاجأة حصلت من بعد ما كان قد زوّدنا باثنتي عشرة حلقة! دخل مكتبي غاضبًا من دون موعد مسبق وفي يده حقيبة يد كبيرة وكيس من ورق. رمى الكيس أمامي على المكتب، وقال:
– هودي الـ 10,000 دولار وما بقا بدّي بيع المسلسل.
– شو في يا استاذ، حدا منّا زعجك بِ شي، لا سمح الله؟
– أبدًا. (ومشى)
أربكني كثيرًا هذا الموقف، لكنّني لم أستسلم! فما كاد سمير يخرج من باب مكتبي حتّى صرخت به قائلًا:
– تبقى وصّي عيلتك تدفن ميّ زيادة معك بعد عمر طويل.
لا أعرف كيف خرجت منّي هذه الكلمات، لكنّني وللأسف قلتها!! عندها استدار وعاود دخول مكتبي وقد اغرورقت عيناه بالدمع واحمرّت. هذه المرّة رمى الحقيبة التي بيده على المكتب وقال بغصّة:
– هودي كلّ الحلقات. (وهرول تاركًا المكتب)
لحقت به إلى الخارج حاملًا العشرة آلاف دولار لأعيدها له، لكنّه أبى أن يستعيدها متمنّيًا عليّ أن نُسرع في اتخاذ القرار.
اتّخذنا القرار بشراء العمل وبدأنا الورشة بتصوير ربع ساعة منه للترويج. وقع اختياري على النجمة اللبنانيّة الأصل “نور” للعب دور ميّ زيادة. كثير من النجوم الكبار، في لبنان وسوريا والأردن ومصر، تعاونوا معي لإطلاق المشروع، أما سمير مراد فكان يرافقني طيلة أيّام التصوير ليشهد على ولادة تُحفته النادرة، وكان سعيدًا على الدوام، والبسمة لا تفارق وجهه كما تُبيّن الصور المرفقة.
نجح تصوير الفيلم الترويجي ونلنا من خلاله تغطية صحافيّة كبيرة محليًّا وعربيًّا وعالميًّا، لكن شاءت الظروف أن يتعرقل تنفيذ المشروع لاثنتي عشرة سنة أخرى، لأنّ الفنّ في العالم العربي هو كالسياسة في لبنان، “كليكات”، رشوة، احتكار… لكنّني لم أستسلم بعد، ومتى عدتُ إلى ممارسة العمل في شركتي، سيكون مسلسل “ليالي العصفوريّة” باكورة أعمالي.
بعد زوال جائحة كورونا، أردت الاطمئنان على سمير، فاتّصلت به راغبًا في زيارته، وبالطبع رحّب بضحكة كبيرة وقال لي “أنا صرت ساكن بالحازمية، بطّلت برأس النبع”.
ما أن دخلت عتبة بيته الجديد، حتّى أخذني من يدي إلى شرفة المنزل الجنوبيّة، حيث تُطل على مبنى كبير مهدّم ومهجور، فسألني:
– بتعرف شو كان هيدا المبنى؟
– لْ مَفروض العصفورية. (أجبته)
– شفت هَودي العنبرين اللي نص مهدّمين؟ (بالكاد يبعدان خمسين مترًا عن شرفته)
– … إيه.
– فيهُن كانوا يعذبوا ميّ. ليك قدري كيف برمت الإيام وجيت سكنت حدّا هون، ورَح موت حدّا هَون.
رحل سمير الأسبوع الماضي من على شرفته المطلّة على أطلال العصفوريّة وهو يرتشف آخر فنجان قهوة له مع ميّ زيادة. رحل سمير وترك لي تحفة هي أمانة في رقبتي، وليوفقني الله أن أصل بها قريبًا إلى الشاشتين الكبيرة والصغيرة.
أرقد بسلام يا سمير، حبيبتك ميّ في أيادٍ أمينة.
**لقراءة مقالات ومقابلات الكاتب والمخرج يوسف ي. الخوري المنشورة على موقعنا اضغط هنا