الكولونيل شربل بركات/ما تأثير العمامات السوداء على مصير الطائفة الشيعية؟

281

ما تأثير العمامات السوداء على مصير الطائفة الشيعية؟
الكولونيل شربل بركات/03 كانون الثاني/2025

أصحاب العمامات السود هؤلاء ظهروا وكأنهم لا يحبون إلا السواد ولا يعرفون أن يخرجوا من دائرته وقد اسودت الآفاق بوجوههم كما عماماتهم ولم يخرجوا عن المصائب ولا هم أدركوا أن في الدنيا ألوان كثيرة قد تعيد لنفوسهم بعضا من الانفتاح وتطلق أبناء الطائفة من قمقم الحقد الأسود الذي زجوهم فيه. فهل هناك أي أمل بمخرج مشرّف؟ أم أنهم سيتمكنون من ابقاء الناس مجددا في ظلام دامس لن يخرجوا منه إلا محملين؟..

في تاريخ العلاقة بين الشيعة اللبنانيين خاصة في جنوب لبنان أي جبل عامل وآل البيت من السياد مراحل طويلة رسمت في كثير من الأحيان ملامح الطائفة، فقد كانت عاملة، التي ذُكرت في رسائل تل العمارنة، أي ما قبل القرن الرابع عشر قبل المسيح تحت اسم “عاملاتو”، أحدى المجموعات البشرية التي تسكن جنوب لبنان أي منطقة فناء صور الفينيقية، كما ذكرت أيضا “نصيرو” وهي تشبه بالاسم المجموعة التي تدعى النصيرية والمعروفة اليوم بالطائفة العلوية وتقطن منطقة فناء أرواد الفينيقية أيضا. والرسائل تتكلم عن القبائل المتنقلة أي البدوية والتي تدعوها “العبيرو” ما يعني بالعربية العابرون (الرحل) والتي أصبحت عبريون أو “عبر” الأقرب إلى “عرب” بتغير موضع الحروف.

وعاملة أي عاملاتو من أصول أمورية، يقول عنها ابن الأثير بأنها من عماليق وهم أموريون سكنوا المنطقة وعدّوا بين الشعوب التي حاربت قبائل العبريين في المنطقة المتاخمة إلى الجنوب أي سهول ما سمي بفلسطين نسبة إلى الفلسطو، وهؤلاء هم من شعوب البحر الذين كان أسكنهم رعمسيس الثالث في شمال سيناء وجنوب أرض كنعان بعد أن كسرهم في آخر هجماتهم على الأراضي المصرية، ليمنعوا انتقال القبائل البدوية من العرب أو العبر من بلاد الصحراء الشرقية في ما نسميه اليوم الجزيرة العربية نحو مصر بقصد الغزو أو الاستقرار. وعاملة عدّت لاحقا اي بعد رسائل تل العمارنة بحوالي 18 قرنا بين حلف القبائل التي حاربت النبي وجيش المسلمين في غزوة أُحد لوقف تقدمهم باتجاه المدن الكبرى في بلاد الشام.

الآموريون بحسب الكتاب العبري شعب طويل القامة ما يذكّر بكلام ابن الأثير وتسمية “عماليق”، كما يذكر سفر التثنية بأن سرير “عوج” ملك الآموريين كان طوله تسعة أذرع، ما يدل على أن طول صاحبه حوالي أربعة أمتار. فهل كان سكان جنوب لبنان من الأموريين ومنهم عاملة يعتبرون طويلي القامة ما يصلح نسبتهم إلى العماليق؟ وما هي علاقتهم بشعوب الجزيرة العربية وخاصة اليمن؟

إن الدراسات الحديثة عن سد مأرب تحدد بناءه بالقرن السابع قبل الميلاد بينما عاملة كما ورد أعلاه مذكورة بوضوح في جنوب لبنان بالقرن الرابع عشر قبل الميلاد، وهذا ما ينفي قطعا الأصول اليمنية لعاملة، لا بل يمكن أن يكون هناك بعض العلاقة بين العماليق في اليمن، وخاصة من بنى في القرن السابع قبل الميلاد سد مأرب، ويسمى كرب إيل أو (كربئيل)، وبين بعض مجموعات تجار صور وحماة قوافلها والقادمين من جنوب لبنان لتأمين هذه القوافل التجارية، والتي تهتم باستيراد العاج وغيره من المنتجات الأفريقية من الحبشة، وبعض منتجات الهند والصين خاصة خشب الأبانوس القادم بالبحر إلى عمان، والتوابل المختلفة. فقد كانت صور وصيدا وغيرهما من المدن الفينيقية تعتمد على التجارة العالمية في ثروتها، وهي تستقدم منتجات من أفريقيا والشرق الأقصى كما من العربية وما بين النهرين وحتى من تركيا اليوم وأرمينيا وجورجيا وتبيعها في مستعمراتها الأوروبية أو في مدن ما بين النهرين وسوريا لا بل تستخرج المعادن من مناطق بعيدة خاصة في اسبانيا وجزيرة القصدير (بر- تن) وتعيد تصنيعها وبيعها في اسواق متعددة من الشرق إلى الغرب. وكانت قوافل تجارها تستخدم سكان المناطق اللبنانية الداخلية وفرسانها لحمايتها وتأمين مقرات استراحة لها على طول الطرقات البرية وفي الثغور البحرية، خاصة عند العواصف أو للتجميع والعرض، والتي أصبحت بعد ذلك مدنا مهمة تزيّن البحر المتوسط وتؤمن التواصل فيه.

ولكن لماذا يصر البعض على نسب عاملة لقبائل نزحت من اليمن بعد دمار سد مأرب؟ العلاقة بين هذه النظرية والواقع يرتبط إلى حد ما بما حاول السيّاد تعميمه. فمن هم هؤلاء السياد وما هو دورهم بين سكان جبل عامل؟

في نظرة سريعة إلى تاريخ عاملة الغير مكتوب نجد بأن هذه المجموعة، والتي تجذّرت في جنوب لبنان أي ما نحب أن نسميه فناء صور الداخلي، والتي فاخرت بانتمائها لهذه المنطقة أي لفينيقيا أو لبنان التاريخي، وقد التزمت بحضارتها ونفسية أبنائها بالتعلق بالأرض والعمل مع تجار المدن الساحلية، وقد كانت القرى قواعد للتجار وحماة القوافل، وبقيت كذلك طالما كانت المدن وتجارتها مزدهرة، ولكن عندما تخمد التجارة بسبب الاحتلالات أو كثرة الرسوم والضرائب الغير مقبولة، كان سكان هذه المراكز ينتقلون افراديا إلى أماكن جديدة تصلح للعمل التجاري، ومن يتبقى يعود إلى العمل بالأرض والتجذّر فيها. وبعد حريق صيدا مع ارتحشستا الثالث الفارسي، ومن ثم دمار صور مع الاسكندر الكبير المقدوني، خلال خمسة عشر سنة فقط، تأثرت التجارة بين السواحل اللبنانية والعالم، وخاصة التجارة الداخلية صوب الجنوب، فانعزلت القرى بعد ما تسببت به حروب القادة ملوك السلوقيين في سوريا وما حولها مع البطالسة حكام مصر، خاصة أن صور وصيدا كانت تتبع لهؤلاء، ولكن التجارة مع أفريقيا والشرق الأقصى أصبحت تعتمد على النقل برا حتى ميناء اشدود حيث تنقل بالبحر إلى صور، ما خفف الاعتماد على أبناء المنطقة لمواكبة القوافل وعلى القرى لاستقبال البضائع وتأمينها. ولكن الأمور زمن الرومان، وبسبب التنظيم العسكري واعتماد فرق الفرسان المحليين ضمن هذا التنظيم كجزء من ما سمي “بالجندية اللبنانية”، والتي تحافظ على الأمن في المنطقة وحماية القوافل ومنع غزوات البدو للمدن الكبرى، جذب المزيد من الاستقرار وسمح بثبات أكبر للقرى الصغيرة المنتجة. وقد حافظ السكان المحليون على التمسّك بالحرية ككل اللبنانيين، مع الاعتراف بحكم الرومان واشرافهم على تنظيم الأمن في البلاد.

عندما التجأ تلامذة المسيح ورسله إلى جنوب لبنان أبان الاضطهاد، سمح انفتاح السكان على الأفكار الجديدة والتي كانت تشبه إلى حد بعيد أفكارهم، بتقبّل الديانة المسيحية التي انتشرت بين أبناء هذه المنطقة لدرجة أن يضم المجمع الأول خارج القدس الذي عقد في صور حوالي 300 اسقف. ولكن بعد أربعة قرون أصبحت فيها المسيحية دين الدولة وتخللتها تناقضات في النظريات الفلسفية اليونانية بالنسبة لألوهية المسيح وبشريته، من ثم بدأ النقاش حول مفاهيم فلسفية متضاربة أحيانا أدت إلى نشوء بدع وصراعات مسلحة، ظهرت في بلاد العرب دعوة توحيدية تبسيطية للنظريات المتناقضة واعتمدت القوة لفرضها، ثم اجتاحت قبائل العرب الموحدة حول هذا الطرح بلاد الشام ونشرت مبادئها التي أخضعت المتفلسفين أو فرضت عليهم الجزية وأغرت البسطاء للمشاركة بالسلطة والغنائم. من هنا لم تلتزم عاملة بالخط المقاوم للدين الجديد، كما فعلت مناطق شمال لبنان التي تجمعت حول البطريرك يوحنا مارون خاصة بعد قرارات يوستينيانوس المتذبذبة، وبقيت خارج الصراع إلى أن قام معاوية ابن أبي سفيان، الذي تحايل على علي ابن أبي طالب في موضوع الخلافة، بنفي أبو ذر الغفاري إلى هذه المنطقة، فاستقبل الأخير بالترحاب بين السكان، أولا لأنه “لاجيء سياسي” كما نسميه اليوم أي مظلوم نوعا، وثانيا لأن جماعتهم اللبنانيين في الشمال كانوا قاوموا حكم الأمويين وفرضوا عليهم شروطا، فكان تصرّف أبناء عاملة بمساندة أبو ذر ضد الحكم في دمشق يعتبر تكملة لمقاومة ما سمي بالمردة في الشمال.

ولكن لم يتم الاتصال والتنسيق بين اللبنانيين في الشمال والجنوب خاصة بعد حروب الموارنة مع القسطنطينية وانعزالهم في الجبال ما أدى إلى ضياع الزعامة الروحية في عاملة التي لم يعد لها مرجع ديني، ولكن بعد حروب يزيد مع الحسن والحسين أولاد علي في العراق وخسارتهم المعركة في كربلاء، انتقل بعض الانسباء هربا من الاضطهاد والتجأوا إلى جنوب لبنان.

استقبل العامليون هؤلاء أيضا من قبيل مساندة المظلوم وساعدوهم على الاحتماء بينهم، ولكن هؤلاء حاولوا نشر معتقدهم الذي لم يكن غريبا عن السكان الذين لم يغالوا مرة لا في المعاداة ولا في الولاء. ولكن ولكي يثبت هؤلاء القادمون حقهم في التوجيه الديني، وبالتالي حق قبول التبرعات من العامليين، طرحوا نظرية النبي التي تقول “أنتم خير أمة أخرجت للناس”، لذا كان يجب أن تربط عاملة ببلاد العرب، ومن هنا التفتيش عن علاقة ما باليمن التي يعتقد بأن بعض سكانها هجروا بعد دمار سد مأرب، وهي نظرية غير دقيقة أساسا ولا تعني أبناء عاملة مطلقا، ولكنها ساهمت لعدم وجود من ناقضها أو نفاها بالاستمرار، ما دعم نظرية آل البيت هؤلاء وأعطاهم الحق بتقبّل المساعدات التي فرضت لاحقا وتحددت بالخمس من المنتوج، وبالتالي أصبح لهؤلاء سببا لدعم الفكرة ومنع ما يناقض طرحهم لكي لا يفقدوا الحق بالخمس.

السياد هؤلاء توزعوا فيما بعد على القرى ومراكز الانتاج وأصبح لهم سطوة، خاصة لأنهم المرجع الديني الوحيد، وقد حاولوا دوما الاستناد إلى السلطة السياسية لتثبيت حقهم، ولكنهم تشبصوا أيضا بنظريات متفردة عزلت عاملة عن بقية ابناء الوطن المتشابهون؛ بالتمسك بالحرية والعدالة وحماية المظلوم، والتواقون إلى الانعتاق من القيود المتشددة، والانطلاق في العالم الواسع سعيا وراء الرزق، متكلين على سواعدهم وحبهم للمغامرة، وعدم الخوف من مواجهة الصعاب والتغلب على العقبات.

كان التنافس بين العرب والفرس كبيرا بل فقد احتل كسرى الثاني سوريا وفلسطين من الحامية البيزنطية ونكّل بالسكان الذين تعرّضوا للسبي والسرقة والقتل على أيدي المحتل، حتى أن القدس فقدت 90 ألف من سكانها بحسب بعض المؤرخين. ولكن هرقل العاهل البيزنطي عاد فأخرجه واتفق مع ابنه على قتله وتسلم حكم المدائن. هذه الحروب بينهما أعطت جيش المسلمين تفوقا على الفريقين نتج عنه احتلال سوريا والأراضي المقدسة والوصول إلى آسيا الصغرى وتهديد القسطنطينية، ولكن الأهم كان في الجانب الفارسي حيث قضي نهائيا على دولة الفرس وأجبر هؤلاء على الدخول بالدين الجديد. من هنا نقمتهم على العرب والاسلام، وبالتالي ثورة العباسيين وهيمنتهم على السلطة من جديد. ولكنهم لم يطرحوا يومها نظرية مختلفة عقائديا. أنما بعد الف سنة على هذه الأحداث قرر الشاه اسماعيل أن يفرض دينا جديدا يواجه تسلط العثمانيين السنة. فالتجأ إلى السياد من شيعة جبل عامل هؤلاء لتبني طرحا دينيا جديدا يناقض السنية السائدة. فقاموا باللجوء إلى نظرية الشيعة الامامية أو الاثنا عشرية ونظموا شريعتها وأحكامها ففرضها الشاه اسماعيل على إيران وأذربيجان وغيرها من أماكن سيطرته، ولكن السلطان سليم هزمه في معركة جالديران سنة 1514 ومن ثم هزم المماليك في معركة مرج دابق سنة 1516 وبالتالي وبعد دخوله مصر تنازل له الخليفة “محمد الثالث المتوكل على الله” عن الخلافة وأصبح سلاطين بني عثمان يحملون لقب خليفة المسلمين. وهكذا سيطر الخوف على السياد في جبل عامل خوفا من انتقام العثمانيين، وغابت الزعامات الشيعية في جبل عامل عن الساحة، وتفيّت الطائفة بالمعنيين، وهم كانوا حاربوا مع والي حلب الذي انقلب على المماليك في معركة مرج دابق، ما أعطاهم دالة على العثمانيين فأطلقوا يدهم في حكم لبنان.

السياد هؤلاء وبعد غياب عن الساحة السياسية طيلة أربعة قرون عادوا لينادوا بحكم فيصل في أحداث 1920 فوقعوا في شرك بقايا الضباط العثمانيين، خاصة يوسف العظمة، وفقدوا رؤيتهم واتزانهم لأنهم قادوا مرة أخرى الطائفة بعكس القيادة السياسية لمعاداة الفرنسيين، وكادوا أن يخسروا أي دور للطائفة في حكم البلاد لولا بعد نظر الفرنسيين الذين أعطوها وضعا مميزا على صعيد المحاكم المذهبية. ومن ثم وبعد كل المعاناة التي مرت بها بتأثير فشلهم وقصر نظرهم عادوا والتحقوا بالخميني وربطوا الطائفة بدون بعد نظر بأوامر الحكم في طهران، لا بل أفقدوا لبنان بكامله صورته وحرية ابنائه، والمبادرة التي كانت أعطت أبناء الطائفة الكثير من الفرص في لبنان وخارجه. ولكن قصر نظرهم مرة أخرى أدى إلى زجها في المحظور، فتحولت إلى عصابات حاقدة تعمل فقط كمحاربين في جيش الولي الفقيه، ونسيوا بأن جارهم الجنوبي كان أعطاهم الحق بالافتخار بتحرير مناطقهم بدون أي عناء، لكي يشعروا بأهمية الانتماء إلى وطن والعمل من أجل مصلحته، فإذا بهم ولغباء مزمن عندهم، يقودون الطائفة بأكملها إلى مصير مجهول لا أثر فيه لأي بصيص نور، فهم حاربوا العرب في بلادهم، وعطّلوا السلطة في لبنان، ومن ثم قاتلوا السوريين من أجل الأسد المتجبّر، وساهموا بتأليب اليمنيين على دولتهم ومعاداة دول العرب قاطبة من أجل رضى الخامينئي، وفشلوا فشلا ذريعا في كل توجهاتهم. فكيف سيكون المصير وأين سيدفنون رؤوسهم هذه المرة؟

أصحاب العمامات السود هؤلاء ظهروا وكأنهم لا يحبون إلا السواد ولا يعرفون أن يخرجوا من دائرته وقد اسودت الآفاق بوجوههم كما عماماتهم ولم يخرجوا عن المصائب ولا هم أدركوا أن في الدنيا ألوان كثيرة قد تعيد لنفوسهم بعضا من الانفتاح وتطلق أبناء الطائفة من قمقم الحقد الأسود الذي زجوهم فيه. فهل هناك أي أمل بمخرج مشرّف؟ أم أنهم سيتمكنون من ابقاء الناس مجددا في ظلام دامس لن يخرجوا منه إلا محملين؟..

**اضغط هنا لدخول صفحة الكولونيل شربل بركات على موقعنا المنشورة عليها كل مقالاته وكتبه وتحليلاته