الخوري طوني بوعسّاف/من المقدّس إلى الدنيوي: حين ينقلب المعنى ويُختزل العيد

2

من المقدّس إلى الدنيوي: حين ينقلب المعنى ويُختزل العيد
الخوري طوني بوعسّاف/فايسبوك/28 كانون الأول/2025
لم يكن المقدّس، في جذوره الأولى، طقسًا يُؤدّى ولا مناسبة تُستهلك، بل خبرة وجودية تُعاش. كان مساحة يلتقي فيها الإنسان بذاته العميقة، وبالآخر، وبما يتجاوزهما معًا. غير أنّ ما نشهده اليوم في حضارتنا المعاصرة، وخصوصًا في مجتمعاتنا الشرقية، ليس انتقالًا طبيعيًا من المقدّس إلى الدنيوي بقدر ما هو سقوط من العمق إلى السطح، ومن الجوهر إلى القشور. لقد كان العيد، في معناه الأصلي، زمنًا مختلفًا: كسرًا للروتين، وتحريرًا للزمن من الاستهلاك اليومي، وعودة إلى الأساس. أمّا اليوم، فقد تحوّل العيد إلى موسم ضجيج، ومهرجان مظاهر، وسباق عروض وتنزيلات، حتى بات السؤال: ماذا نلبس؟ ماذا نأكل؟ أين نخرج؟ يسبق سؤال: لماذا نحتفل؟ وما الذي نحتفل به؟

تقديس الدنيوي… وتدنيس المقدّس
المفارقة الصادمة أنّنا لم نلغِ المقدّس، بل قمنا بشيء أخطر: دنّسناه حين دنوناه. أدخلناه إلى منطق السوق، وحوّلناه إلى صورة، وشعار، ومنشور عابر. باتت الرموز الدينية تُزيّن الواجهات أكثر مما تُنير الضمائر، وأضحى الطقس يُختزل بحركات فارغة من المعنى، تؤدّى لأنّها “عادة” لا لأنّها “لقاء”.
في هذا السياق، لم يعد الإنسان يصعد من الدنيوي نحو المقدّس، بل جرّ المقدّس إلى مستوى الدنيوي، وأخضعه لمقاييس الربح، والفرجة، والظهور. وهنا يكمن الخطر الحقيقي: حين يصبح المقدّس وسيلة لا غاية، وشكلًا بلا روح.

حضارة الصورة وانهيار المعنى
نعيش اليوم في حضارة الصورة السريعة، حيث يُقاس كل شيء بقدرته على الجذب لا بقدرته على التحويل. لم يعد المهم أن يتغيّر الإنسان من الداخل، بل أن يظهر بصورة “احتفالية” من الخارج. وهكذا، انتقلنا من عيد يغيّر السلوك إلى احتفال يجمّل المظهر، ومن إيمان يُقلق الضمير إلى تدين يُطمئن العادة.
هذا الانتقال ليس بريئًا، بل هو أحد أعراض حضارة فقدت الصبر على العمق، وتخاف الصمت، وتهرب من الأسئلة الوجودية الكبرى. فالمقدّس الحقيقي يطالب، يزعج، يجرّد الإنسان من أقنعته. أمّا الدنيوي السطحي فيُريح، يُلهي، ويُسكّن القلق دون أن يشفيه.

من السطحية إلى الاستعادة الممكنة
ومع ذلك، لا يمكن الاكتفاء بالنقد أو الحنين. فالسؤال الجوهري ليس: هل فقدنا المقدّس؟ بل: كيف نستعيده؟
واستعادته لا تكون بالعودة إلى مظاهر أكثر تديّنًا، بل بالعودة إلى الجوهر: إلى معنى العيد كزمن للمصالحة، وإلى الطقس كخبرة تحوّل، وإلى الإيمان كمسؤولية أخلاقية لا كهوية اجتماعية. إنّ التحدّي الحقيقي أمام إنسان اليوم هو أن يعيد الاتجاه: لا من المقدّس إلى الدنيوي، بل من الدنيوي المبتذل إلى المقدّس الحيّ؛ من السطحية التي تُفرغ الإنسان إلى العمق الذي يعيد بناءه.

خاتمة
حين يتحوّل العيد إلى استهلاك، والطقس إلى عادة، والإيمان إلى صورة، نكون قد بلغنا الدرك لا التطوّر. فالحضارة لا تُقاس بما تنتجه من ضجيج، بل بما تحفظه من معنى. وما لم نجرؤ على استعادة المقدّس كخبرة حياة، لا كديكور اجتماعي، سنبقى نحتفل كثيرًا… ونفرح قليلًا، ونفقد أنفسنا أكثر.

Share